نزل قرار وزارة التعليم العالي الأخير في الجزائر، والقاضي بتنظيم مسابقة وطنية لانتقاء أفضل الطلاب وابتعاثهم لمتابعة الدراسات العليا في الخارج "برداً وسلاماً" على كثير من الطلاب والأساتذة الجزائريين الذين باتوا يتهافتون على المواقع الالكترونية للمعاهد الأجنبية بحثاً عن فرصة للسفر، بينما تعج مدارس اللغات الأجنبية ومعاهد التكوين بآلاف الطلبة، ممن" تفطنوا"الى أن شهاداتهم الجامعية لم تعد تساوي قيمة الحبر الذي خطت به. القرار وصفه البعض بأنه تدارك لخطأ سابق، حينما أعلن الرئيس بوتفليقة منذ سنتين تقريباً وقف منح الابتعاث، بحجة أن الغالبية الساحقة من هؤلاء لا تعود إلى الجزائر التي تكلفت عليهم مبالغ طائلة. البرنامج المعلن عنه يخص أساساً الأساتذة المساعدين الذين سيناقشون رسائل التخرج في الجزائر، إضافة الى الطلبة المتفوقين من خمس شعب هي الاقتصاد والتسيير الإدارة والتسويق والتجارة والصيدلة والحقوق، بهدف تغطية العجز في هذه التخصصات. وسيتم اختيار الطلاب الثلاثة الأوائل للمشاركة في المسابقة الوطنية التي تنظم يوم 14 آذار مارس المقبل، ليبلغ بذلك عدد الطلاب المترشحين 481 طالباً يتسابقون على 100 منحة ابتعاث. هذا الإقبال غير المسبوق يفسره التدني الخطير لنوعية شهادات الجامعات الجزائرية، باعتراف الرئيس الجزائري نفسه، عندما وصفها في اكثر من مناسبة بأنها"لا تساوي شيئاً". ولم يتغير الوضع كثيراً، على رغم ورش الإصلاح التي باشرتها الحكومة منذ 2001. ويقول محمود بلحيمر الذي يحضر شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية:"الشهادة الجامعية الجزائرية لا قيمة لها أمام شهادات الجامعات العالمية، ولا حتى بالنسبة الى سوق العمل الداخلية"، مبرراً رأيه بالقول:"الشهادة جزء من وضع الجامعة الجزائرية التي تركت على الهامش، ومن وضع البلاد السياسي ككل، لأن همّ السياسيين منذ نهاية الثمانينات من القرن الماضي كان محصوراً في البحث عن الأمن والاستقرار في الجامعات، ولا سيما خلال سنوات الإرهاب، ولم يكن يهم هؤلاء أن تتخرج كفاءات علمية لإدارة البلاد، على خلاف سنوات السبعينات التي عرفت تخريج النخب". وعن الإصلاحات التي باشرتها الحكومة، يقول بلحيمر وهو استاذ جامعي سابق:"الخطاب الرسمي متفائل جداً، لكنه يركز على ضرورة توفير مرافق تربوية لإيواء مليون طالب جامعي قريباً، وبناء جامعات ومعاهد، لكنني أتساءل عن نوعية المقررات والبرامج. فما تقوم به الدولة محاولة لمطابقة البرامج مع المعايير الدولية، ولكنها تتبقى منقوصة، ما لم تولي اهتماماً كبيراً للمنظومة الجامعية ككل". وعلى نحو مماثل، يقول عبد القادر، الطالب في السنة الثانية علوم الأحياء في جامعة هواري بومدين في باب الزوار:"أنا أنتظر بشغف إنهاء دراستي الجامعية والالتحاق بمعهد في بريطانيا أو فرنسا، لأنني أدرك أن شهادتي لا تضمن لي وظيفة، وحتى الشركات البترولية التي تستثمر اليوم في الجزائر لا تثق كثيراً في شهادتنا"، مضيفاً"دخلت الجامعة على أمل الحصول على شهادة مهندس دولة، ولكننا فوجئنا بقرار جديد يقضي باستبدالها بنظام ليسانس - ماستر - دكتوراه آل أم دي". ونظام"آل آم دي"الذي ترفضه القطاعات الطالبية رفضاً قاطعاً، يقوم على ثلاثة مستويات من التكوين، يتوج كل مستوى منها بشهادة، على النحو الآتي : شهادة الليسانس البكالوريا + ثلاث سنوات للمستوى الأول، ثم شهادة الماستر الليسانس+سنتان للمستوى الثاني، والمستوى الثالث الخاص بالدكتوراه الماستر + 3-سنوات. وفي ظل"حوار الطرشان"السائد على الدوام بين التنظيمات الطالبية ووزارة التعليم العالي، يفضل كثير من طلاب الجامعات، ممن سنحت لهم ظروفهم المادية، عدم انتظار شهادة التخرج، ومتابعة دروس خصوصية، غالباً ما تكون في اللغات الأجنبية، لا سيما الانكليزية، أو الإعلام الآلي أو" الماركتينغ"، ايماناً منهم بأنها باتت ضرورية للحصول على وظيفة بعد التخرج. وتقول فتيحة الطالبة في معهد التجارة:"لي صديقة تخرجت منذ سنة، وعلمتني تجربتها أن الشهادة لا تعني شيئاً بالنسبة الى الشركات التي تشترط للتوظيف معياري الخبرة والدورات التكوينية، ولذلك قررت أن أستبق الزمن وأكثف من دورات التدريب مجاناً في شركة خاصة، في انتظار التخرج، حتى لا أواجه بشرط الخبرة". أما علي الذي يعمل موظفاً في محل للألبسة فيقول:"أنا حاصل على شهادة ليسانس في الإعلام المكتبي، وهي تعني ببساطة" اللامستقبل"، تعبت من البحث واستسلمت أخيراً لهذه الوظيفة التي لا علاقة لها بدراستي، لكنها توفر لي دخلاً". وعلى الجانب الآخر، يفضل شباب آخرون عدم الاستسلام للبطالة والتشاؤم، ويطرقون كل الأبواب الممكنة لمتابعة دراستهم بالخارج، كما يقول سفيان:"لقد أرسلت عشرات الطلبات إلى معاهد أجنبية عبر الأنترنت على أمل أن تقبلني لمتابعة دراساتي العليا، لأني أؤمن أن الشهادة التي بحوزتنا لا تؤهلنا لمناصب عليا". وتقول كريمة بوراوي مديرة مدرسة عليا للتكوين المتواصل:"مشكلة الكفاءات الجزائرية أنها لا تتابع دورات تدريبية مكثفة بعد تخرجها، وهذا ما نعمل عليه، فنحن نقوم"برسكلة"إعادة تدوير وتكوين وإعادة تأهيل الأطباء المتخرجين، لأن الطبيب الذي تخرج في الثمانينات لن يكون مفيداً إن لم يجدد معارفه، وهذه أبرز الأسباب التي تجعل الشركات الأجنبية لا تقبل توظيف بعض خريجي الجامعات الجزائرية".