رحبت ترحيباً حماسياً عندما عرضت الصديقة دنيا أبو رشيد من القسم الثقافي بالسفارة الفرنسية تنظيم لقاء مع الروائي ميشيل بوتور. وكان سر ترحيبي يرجع إلى ذكرياتي التي تعود إلى الستينات التي اقترن فيها اسم بوتور بما أطلق عليه - اصطلاحاً - "الرواية الجديدة"Nouveau Roman. وكانت الرواية الجديدة في ذلك الوقت تياراً صاعداً في الأدب الفرنسي، انتقل منه إلى آداب العالم الثالث التي تأثرت أجيالها الشابة بالنزعة المتمردة التي انطوت عليها الرواية الجديدة. وهي النزعة التي وجدت فيها كتابة جيل الستينات في مصر وغيرها من أقطار العالم العربي نماذج إبداعية تستجيب إلى تلهب الثورة على العالم الذي أدّى إلى كارثة العام السابع والستين، والذي اقترن تجديد جيل الستينات برفضه والتمرد عليه، وذلك في سياق التمرد العالمي الذي شهده عقد الستينات، مقترناً بثورة الطلاب، وتمرد الشباب في كل مكان. هكذا، أصبحت الرواية الجديدة سنداً لكل ما يتجاوب وإياها من كتابات الستينات العربية التي تمردت على الواقعية التي أصبحت تقليدية، وعلى الطرائق القديمة في السرد والبناء الروائي بوجه عام. وما أكثر ما سمعنا - في تلك السنوات البعيدة - أن"الرواية الجديدة"تتميز بكونها عارية تماماً من الزخارف الأسلوبية، وأنها تهجر الاستعارة والتشبيه في سعيها إلى دقة الوصف الفيزيقي للأشياء، وأنها لا تتردد في تقطيع الزمن والتلاعب به، وتمزج بين الواقع والوهم، بعيداً من التتابع المنطقي للأحداث، أو التجاور السببي لفضاءات المكان، وأنها تؤثر التباس المعنى على تحدده وانحصاره في دلالة واحدة، وأنها بقدر اهتمامها بالوصف المحايد للأشياء والتركيز الموضوعي عليها، بما جعل البعض يطلق عليها صفة الرواية الشيئية، لا تخلو من انعكاس القص على نفسه، وتحويل الراوي إلى سارد ومسرود عليه، خصوصاً في ما أصبح يطلق عليه - بعد ذلك - اسم الرواية الشارحة، وهي الرواية التي تشير إلى نفسها بالقدر الذي تشير به إلى العالم خارجها. والمؤكد أن كارثة العام السابع والستين فتحت لجيل الستينات أفقاً واعداً من التمرد على الآباء والأجداد بلا فارق، وذلك إلى الدرجة التي أعلن فيها بعضهم أنهم جيل بلا أساتذة. وهو إعلان كان تعبيراً عن حدة التمرد التي يسعى فيه الأبناء إلى القتل الرمزي للأب، في داخلهم، تحريراً لحضورهم المستقل، وتأكيداً لتمردهم العنيف على كل ما حولهم، وليس تعبيراً عن واقع فعلي، أو قطيعة مطلقة، فلا قطيعة مطلقة في عالم الإبداع. وكانت النتيجة أن وجدت الطليعة من جيل الستينات في الرواية الجديدة النماذج الإبداعية التي أغوت عدداً لا يستهان به منهم، ودفعتهم إلى سرد جديد تطلعوا إليه، ورواية مختلفة حلموا بها. هكذا، أخذت الأسماع تتلهف علي أخبار روائيين من أمثال ناتالي ساروت 1900- 1999 وكلود سيمون 1912- 2005 وآلان روب غرييه 1922- وميشيل بوتور 1926- وفيليب سولرز 1936- وغيرهم من النجوم الوضاءة في سماوات الرواية العالمية لذلك الزمن البعيد. وكنا نعرف أن هؤلاء الأعلام برزوا بعد الحرب العالمية الثانية التي لم تخل أعمالهم من آثارها. وجمع بعضهم ما بين كتابة الرواية والأفلام، وذلك قبل أن يحصل واحد منهم كلود سيمون على جائزة نوبل سنة 1985. وارتبط أصغرهم فيليب سولرز بأعلام البنيوية وما بعد البنيوية، ابتداء من تأسيسه مجلة Tel Quel الشهيرة التي توالي صدورها من سنة 1960 إلى سنة 1985، تاركة أعمق الأثر في تغيير المشهد النقدي من البنيوية إلى ما بعد البنيوية، مروراً بصداقته مع جاك لاكان وألتوسير ورولان بارت الذين كتب عنهم في روايته"نساء"الشهيرة، وانتهاء بزاوجه من جوليا كرستيفا - تلميذة بارت النابهة - التي اقترن اسمها بالنقد النسائي وما بعد البنيوية. وبالطبع، لم نكن نعرف هذه الأسماء في مطالع الستينات، ولكننا أخذنا نعرف، في ما بعد، أن"الرواية الجديدة"تتوسط، إبداعياً، ما بين الحداثة وما بعد الحداثة، وأنها لم تنشأ من عدم مطلق، فقد سبقها، ومهّد لها، كُتَّاب من طراز فرانز كافكا 1883 - 1924 وجيمس جويس 1882-1941 وغيرهما. وكنا نقرن بين أسلوب من عرفناه منهم بأسلوب هيمنغواي 1899 - 1961 العاري من الزخارف، النافر من الاستعارات والتشبيهات، في تراكيب تخفي أكثر مما تبدو، في سطحها المراوغ الذي يشبه الجزء البارز من جبل الثلج الذي يختفي معظمه تحت الماء. وأذكر أننا تلقفنا كتاب آلان روب غرييه"نحو رواية جديدة"الذي ترجمه إلى العربية مصطفى إبراهيم مصطفى وقدّم له لويس عوض، وقد صدر الكتاب عن دار المعارف في القاهرة، وكان مدخلنا إلى معرفة المبادئ النظرية والنماذج العملية للرواية الجديدة، وكانت ترجمة كتاب غرييه عوناً على اكتشاف أفق جديد لعالم الرواية، أفق وصفه لويس عوض بأنه ثورة على مدرستين في آنٍ: المدرسة النفسية لتيار الوعي أو اللاوعي من ناحية، والمدرسة التقليدية من ناحية موازية. وكانت الأولى تعد الذات بمشاعرها الداخلية وعوالمها اللاشعورية مقياساً للكون، أما الثانية فكانت ترد كل شيء إلى الإنسان، سواء في علاقته بالأحداث أو استجابته إلى تتابع الزمان وفضاءات المكان. ولذلك اقترنت ثورة الرواية الجديدة بإعادة مادة الفن إلى العالم الخارجي بكل ما فيه من موضوعات مستقلة عن وعي الإنسان، أو الأشياء، بحسب تسمية روب غرييه، فالاهتمام بالعالم الخارجي، والتحديق في موضوعاته، من حيث هي أشياء، هو ما يستبعد النزعة العاطفية من الفن، في معنى قريب مما قصد إليه الفليسوف الإسباني أورتيغا إ. جاست، عندما تحدث عن"اطراح النزعة الإنسانية"في الفن. وهو هدف مضت فيه الرواية الجديدة إلى حدّه الأقصى، ثائرة على القوالب السائدة في الآداب والفنون، ملحة على أن لكل عصر أشكاله وقوالبه الخاصة به، وأن الشكل الفني لا يتكرر مرتين، خصوصاً في علاقته الجدلية بالمضمون، أو علاقة المبدع بزمنه النوعي، ولولا ذلك ما نظر ميشيل بوتور إلى الأشياء من منظوره الفينومينولوجي الذي يؤكد الحركة والتغير الدائمين، في موازاة روب - غرييه الذي يرى الأشياء في استقلالها التام عن الإنسان، مؤكداً ذلك بقوله:"إن الإنسان ينظر إلى العالم، ولكن العالم لا يجيب علي نظرته، لا لأن العالم لا يريد، مثلما فعل كُتَّاب العبث، وإنما لأن العالم يتمتع بصفة واحدة لا غير، وهي الحضور. ولذلك فإن واجب الروائي إنكار الاشتراك الزائف الذي يصر المثاليون علي وجوده بين الشيء والإنسان". واختتم لويس عوض تقديمه بأن الروائيين الشبان ملزمون بالبحث عن الرواية المناسبة لعصرهم، وأن كُتّاباً من طراز الروائيين الجدد أمثال غرييه وبوتور - في ما يؤكد - يطرحون نماذج دالة، وداعية لأن يلتزم كل كاتب شاب بهذا البحث. ولنا أن نتخيل تأثير دعوة مثل هذه من ناقد له تأثيره البالغ على الأجيال الشابة التي مضت في طريق تمرده القديم، أو تأثير كلمات غرييه التي تقول:"على الكاتب أن يقتنع، وبكثير من الفخر، بأنه يحمل تاريخه الخاص، مدركاً أن ليس هناك درر أدبية تعيش في الأبدية، وإنما في التاريخ، وأن شوامخ الأعمال لا تعيش وتبقي إلا بقدر الماضي الذي تخلفه وراءها، والمستقبل الذي تعلن عنه". وأتصور أن ترجمة كتاب روب غرييه كانت وقوداً مضافاً إلى تلهب التمرد الذي وجد ما يقوى به في الكتابات الطليعية للرواية الجديدة التي تميزت، سردياً، بالتخلي عن الراوي العليم بكل شيء، ذلك الذي كانت تضعه الرواية التقليدية في الصدارة، مقروناً بالحفاظ على الوحدات الأرسطية الثلاث للزمان والمكان والحدث، وذلك في موازاة التحطيم المتعمد للوحدات المنطقية لأبنية الشخصيات النمطية، والحتمية السردية، لمجرى الأحداث، والبحث عن صيغ تتناسب وإيقاع العالم المتغير الذي لم يكن قد تخلّص تماماً من أشباح الحرب وكوابيسها. وغير بعيد من ذلك تعزيز التقنية التي تستبدل التغير بالثبات، والتقطيع بالتلاحم، والتشظي بالوحدة، والالتباس بالوضوح، مازجة ما بين الواقع والوهم، فلا يدري القارئ أهو إزاء أحداث وهمية أو واقعية. وكانت النتيجة النظر إلى القارئ بوصفه فضاء لمراح الدلالات، خصوصاً في نوع النصوص التي أطلق عليها رولان بارت"النصوص الكتابية"التي لا تكف فيها الدول عن الحركة الحرة في فضاء التلقي، ولا يكف فيها المتلقي عن الإسهام في توسيع مدى هذه الحركة، وذلك بالاستجابة إلى ما تدعوه إليه النصوص الكتابية من المغامرة اللامتناهية للتفسير وإعادة التفسير، والقراءة وإعادة القراءة في عمليات من التناص المفتوح. يغري القارئ بذلك ما تنطوي عليه الرواية الجديدة عن أزمنة وعوالم متداخلة، وشخصيات متشظية، وتداعيات لا تكف عن التولّد، غير مفارقة الوصف المحايد - ظاهرياً - للموضوعات التي تستبعد النبرات الانفعالية والهشاشة العاطفية، ولا تشير إلى خارج النص بل إلى داخله، وإلى تعقّد علاقاته.