يمكن القول إن ما أنجزته الباحثة الجامعية والناقدة والروائية (تيفين سامويو) يعتبر أول سيرة حقيقية عن (رولان بارت)، صدر العمل عن دار سوي منذ شهور قليلة بمناسبة مئوية رولان بارت التي تحتفل بها الأوساط الثقافية الفرنسية. رولان بارت مفكر بارز جعل من مسار حياته نقطة تقاطع بين رهانات نظرية وإيديولوجية وسياسية وأدبية عظيمة، بدءا من1920 و1930 وصولا إلى 1970. الفترات التي عاشها بارت تبدأ من الحرب العالمية الأولى، وتجربة مرضه بالسل المريرة، ثم مرحلة التحرير من الديكتاتورية النازية، وأخيرا عدد قليل من الرحلات إلى الخارج بعد شهرته كمفكر بنيوي وسيميولوجي. تركز الكاتبة على رحلاته وتأثيرها على موضوعاته ومنهجه المعرفي. زار رولان بارت كما هو معروف: رومانيا، المغرب، اليابان، تونس. ثم تنتقل للوقوف على العلامات الثقافية المهمة في مسار بارت مثل مرافقته لتيار الرواية الجديدة ومجلة (تيل كيل)، ومشاركته في الجدل الحاد حول (راسين)، وانخراطه في ملحمة المنهج البنيوي، وصولا إلى ابتكاره لآليات حميمية لقراءة النصوص الأدبية والعلامات البصرية. وبعد ذلك تفصل الكاتبة حول دواعي انتقال بارت إلى كتابة شذرية لخطاب عاشق لا يفصل الذات عن الموضوع. وأخيرا مرحلة حداد بارت إثر وفاة أمه التي كانت تحتل مكانة جوانية عميقة في وجدانه والتي ستفضي إلى كتابه المرجعي المشهور عن الفوتوغرافيا (الغرفة المضيئة). محطات مبهرة وحاسمة في تكوين رولان بارت وإنتاجه لفكر ومنهج وسجال ثقافي ومساهمته في استنهاض أجيال من الفاعلين في صناعة الفكر المعاصر. لكن الكاتبة لم تبدأ سيرتها من البدايات وإنما من النهاية المأساوية التي عرفها بارت في 26 مارس 1980 بباريس إثر مضاعفات حادثة دهس تعرض لها من طرف شاحنة. كان آنئذ يتوجه إلى كوليج دو فرانس لإلقاء محاضرته. كان الحدث مفجعا بالنسبة للمثقفين والرأي العام الفرنسي والأجنبي. لا شك أن رولان بارت (1915-1980) كان شخصية محورية في الفكر المعاصر، لكنه كان أيضا شخصية تعيش على هامش الأحداث التاريخية المعاصرة إلا أنها كانت في مقابل حياة هامشية منتجة بوعي عميق ومتقد لثقافة مركزية منقطعة النظير. ومع ذلك كانت حياته مأخوذة بالحركة السريعة والعنيفة والمكثفة للقرن العشرين، الذي ساعد في كثير من كتاباته لأن يجعله واضحا وأكثر فهما وتأويلا. اعتمدت الباحثة على مادة جديدة، لم تستكشف حتى الآن (الأرشيف والصحف واليوميات)، لكتابة سيرة بارت التي تسلط الضوء من جديد على تفاصيل حياته والتزاماته وممانعاته ورغباته. متوقفة عند القضايا التي تحدث عنها وعن الكتاب الذين دافع عنهم، والمناظرات التي صنعت شهرته، وعن مهارته في الإصغاء للغات عصره وعن قوة حدسه التي ميزت قراءاته المتنوعة، مما ساعده على اجتراح أفكار جديدة لم يتناولها أحد من قبله. تمنحنا سيرة حياة بارت مادة متماسكة يتقاطع فيها مسار بارت الباحث عن الحقيقة، المقتاد بالرغبة، والبصيرة والحساسية المفرطة تجاه مكونات العالم. تدفعه ممانعته القوية لجميع أنماط الخطاب السلطوي كيفما كانت أشكاله حريصا على صياغة نسيج لغوي حميمي متحرر، يضع العقل على الخيال سابرا النقد والفن والأدب، وواضعا بشكل من الأشكال فكرا من الحياة إلى الأدب ومن الأدب إلى الحياة نفسها. نجحت تيفين سامويو في هذا التحدي بحيث إنها وازنت بين قصة حياة بارت وسيرته الفكرية. مشددة على وجود صعوبة كبيرة في التعامل مع بارت كنموذج سيرذاتي. تقول بهذا الصدد: لأن حياة بارت ليست رواية مغامرة. بل إنه ليس مثاليا في ما تنطوي عليه حياته من عموميات أو حياة طبيعية يمكن أن تعطي للسيرة قيمة اجتماعية أو ثقافية. كيف يمكن كتابة حياة، كانت مشغولة بالكتابة كليا؟ أكثر من ذلك ربما كانت أعظم إنجازاته خلال سنوات 1955، 1966 أو 1977؛ وعلاقاته المثمرة مع أندري جيد، جان بول سارتر، وميشيل فوكو وفليب سولر. الكتاب أكثر من بورتريه عن بارت الإنسان والمثقف والمحلل اللغوي، إنه صورة معمقة عن مرحلة فكرية بسمات عصر ذهبي أخير حاولت تيفين أن تؤطره وتقاربه وتكشف مساراته من خلال أكثر من 700 صفحة تقرأ بسلاسة وعذوبة وفضول وكأننا نقرأ نصا روائيا. هكذا يمكن التهام هذا الكتاب المكثف، والذكي والدقيق. ومن الملفت للنظر أن نلاحظ التحولات العظيمة التي عرفها مصير مؤلف كتاب (لذة النص) و(الكتابة في درجة الصفر) و(أساطير) و(حول راسين)، و(عناصر السيميولوجية سيطرة الدلالات) و(رولان بارت بقلمه)، و(الغرفة المضيئة) و(هسيس اللغة)، و(المغامرة السيميولوجية). هذا المنظر الأدبي الذي اعتقدنا في فترة أنه سيقضي على (المؤلف) نهائيا لصالح النص وبنياته الاستيتيقية، رأيناه فيما بعد، يدفع المؤلف رغما عنه إلى قلب ساحة المعركة. إن بارت يشبه عصره أكثر من شبهه بأصوله ويشبه جسده أكثر من ظله. كاتب حالم وعاشق لاستكشاف المزيد من الخبايا اللغوية والسيميائية، طليق بين الأجناس الأدبية ومتعدد الرؤى والمقاربات. والدليل على ذلك أنه قرأ لعمالقة المفكرين، وفي مقدمتهم ماركس، لكنه انجدب أكثر إلى مارسيل بروست ونيتشه وجان پول سارتر وألبير كامو وألان روب غرييه وميشل بوتور ومسرح برتولد برخت. كما استلهم متتاليات جان سبستيان باخ وأحب الصورة الفوتوغرافية. يقول بارت عن نفسه: "أنا الخيال المعاصر لحاضري الشخصي، معاصر للغاته وطوباوياته، وأنساقه ، وأساطيره، أو فلسفته، ولكن ليس لتاريخه، الذي عشت، فقط، انعكاسه الراقص والغريب". إذا كنا اليوم نقرأ رولان بارت بإقبال كبير فلأنه استكشف أقانيم فريدة وأصيلة، هي اليوم، أقانيمنا الشخصية.