أمام الديبلوماسية الروسية فرص عدة في الأيام والاسابيع المقبلة لتعزز دورها في الشرق الأوسط طبقاً للرغبات التي عبر عنها الرئيس فلاديمير بوتين اثناء زيارته التاريخية هذا الاسبوع الى المملكة العربية السعودية ثم قطر والاردن. فهناك ترحيب عربي بدور ايجابي لموسكو، كما هناك تشديد أميركي على أهمية الشراكة مع روسيا في الجهود الديبلوماسية نحو ايران. وبالتالي، يمكن لروسيا ان تلعب دورياً قيادياً يتمثل في اقناع طهران بأن مصلحتها العليا والمستدامة تتمثل في تعزيز هيبة ايران داخل حدودها حصراً بدلاً من امتداد اصابعها للتلاعب بالعراق وفلسطين ولبنان. يمكن لموسكو ان تكون الضامن في تفاهمات تؤدي الى اخراج الجمهورية الاسلامية الايرانية من خانة العداء أو"محور الشر"إذا تمكنت من ضمان كف النظام في طهران عن تجاوزاته الاقليمية والنووية. وإذا بدا ذلك مستحيلاً، يمكن للديبلوماسية الروسية ان تلعب الدور الحاسم بإبلاغها ايران جدياً بأنها لن تلقى الحماية من العزل والعقاب. كذلك الأمر مع سورية، على الديبلوماسية الروسية ان تبين لدمشق ان موسكو لن تتمكن من إجهاض المحكمة الدولية لمحاكمة الضالعين في الاغتيالات السياسية الارهابية في لبنان مهما أرادت حماية النظام السوري من الانهيار. فهكذا تضع النقاط على الحروف وتلعب دوراً مفيداً يجنب لبنان التدمير والدمار. أما في ما يخص القضية الفلسطينية، فإن افضل ما يمكن للرئيس بوتين ان يفعله هو ممارسة أقصى الضغوط على اسرائيل بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدةوالأممالمتحدة من جهة، وممارسة الضغوط المشابهة على ايران وسورية لتكفا عن تخريب وفاق فلسطيني صادق وحقيقي يؤدي الى قيام حكومة وحدة وطنية من جهة أخرى. فهكذا فقط يمكن إحداث نقلة نوعية في عملية السلام في الشرق الأوسط بشراكة متطورة بين الولاياتالمتحدةوروسيا من النوع الذي تريده الديبلوماسية الروسية بغض النظر عن نبرتها الهجومية. الاسس الرئيسية لهذه الشراكة موجودة في أطر، بعضها ثنائي وبعضها جماعي. ففي الموضوع الايراني، هناك مجموعة 3+3 أي الدول الأوروبية الثلاث، بريطانيا وفرنسا والمانيا، وروسيا والصين والولاياتالمتحدة، وكل قرار اتخذ ضد ايران في مجلس الأمن الدولي جاء نتيجة اجماع هذه الدول عليه بما في ذلك القرار الأخير الذي صدر بموجب الفصل السابع الملزم من الميثاق الذي أخضع ايران الى نظام العقوبات إذا رفضت تعليق تخصيب اليورانيوم، كما طالبتها القرارات السابقة. الاتفاق الذي توصلت اليه الدول الست في الملف النووي لكوريا الشمالية يبرهن ان العلاقة بين الولاياتالمتحدةوروسيا والصين ليست علاقة تصادمية حتى وان دخلت أحياناً نطاق الصدام أثناء المفاوضات على مختلف الملفات لا سيما في الأممالمتحدة. في هذا الاتفاق رسالة مهمة الى طهران فحواها ان عليها ألا تراهن على وهم الانقسامات بين هذه الدول الكبرى وعليها ألا تسيئ قراءة التصعيد اللفظي الذي أطلقه فلاديمير بوتين في مؤتمر ميونيخ للأمن بنقد لاذع للولايات المتحدة الأميركية. المسؤولون الايرانيون ينشرون الرسائل عبر مختلف الوسطاء ليعطوا الانطباع انهم جاهزون لتقبل رزمة الترغيب والمكافآت التي أغدقتها عليها الدول الست المعنية بالملف النووي الايراني مقابل مجرد"تعليق"تخصيب طهران لليورانيوم. يقولون ان الرزمة تعجبهم انما ما لا يعجبهم هو نبرة الإملاء. يقولون ان لديهم الرغبة باحتضان الرزمة لكنهم يحتاجون صيغة انقاذ ماء الوجه كي لا يظهرون كأنهم يخضعون لأوامر قرار مجلس الأمن خوفاً من العقاب. يحاولون استخدام المساعي الحميدة، مثل مساعي مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الدكتور محمد البرادعي لتفكيك قرار ملزم لمجلس الأمن كي يخرج منه الطلب الوحيد الذي يمثل السبيل الى الرزمة والى رفع شبح العقوبات، أي تعليق التخصيب. ويقولون لتركيا وغيرها أنهم لا يثقون بتنفيذ الرزمة ويريدون ضمانات. الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش أوضح في مؤتمره الصحافي قبل يومين انه يريد الاستمرار في العمل مع الدول الأخرى المعنية بملف ايران النووي ليعطي الديبلوماسية مداها ولتبقى الرسالة الى طهران"رسالة موحدة". لم يستبعد استبعاداً قاطعاً التفاوض المباشر مع ايران وانما لمح الى مثل هذا الاستعداد إذ وعد بنتائج وبنجاح. يمكن للديبلوماسية الروسية ان تقرن جهودها في إطار السداسية حول الملف النووي مع الجهود السعودية المبذولة مع ايران في شأن القضايا الاقليمية بدءاً بفلسطين ولبنان وكذلك العراق. عندئذ قد تتمكن موسكو من اطلاق مبادرة ذات طاقات كامنة لها أبعاد تاريخية على المنطقة وعلى الدروس الروسي في المنطقة. مثل هذه المبادرة يتطلب، كشرط مسبق، حديثاً صريحاً بين القيادة الروسية والقيادة الايرانية حول"حزب الله"والمحكمة الدولية للاغتيالات في لبنان وما العمل بالنظام في سورية إذا استمر في رفضه القاطع للمحكمة لأسباب وجودية. هذا الحديث هو أهم وأول مصارحة لا بد أن تقوم بها موسكو مع طهران قبل أن تطلق أية مبادرة. ذلك ان لا مجال لأية مبادرة هدفها القفز على التدخل الايراني في لبنان والرعاية الايرانية ل"حزب الله"الرافض تفكيك ميليشياته والمصر على أن يكون دولة داخل دولة. لا مكان لأية مبادرة توحي لدمشق أن هناك مجال للمساومة على المحكمة. بكلام آخر، ان نجاح مبادرة اطلاق دور روسي مميز ورائد في الشرق الأوسط يتطلب من موسكو الطلاق مع الأنماط السوفياتية في العلاقات مع دول المنطقة لأن ذلك عهد فات ومضى. اضافة، ان هذا الزمن لا يسمح لروسيا ان تكون شاهداً على اجهاض محاكمة ضالعين في أعمال ارهابية حسبما صنّف مجلس الأمن هذه الاغتيالات. لا يسمح لها ان تكون طرفاً في تحدي قرارات لمجلس الأمن الدولي مثل القرار 1559 أو القرار 1701 اللذين طالبا بتفكيك الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، واحترام السيادة اللبنانية بموافقة سورية على ترسيم الحدود مع لبنان، وحظر تسريب الأسلحة إلى أي منظمات أو أفراد باستثناء الحكومة اللبنانية المنتخبة والجيش اللبناني. ولذلك، أن أي مبادرة روسية تتطلب قطعاً التصارح مع إيران حول ما العمل ب"حزب الله"وما العمل بالنظام الحاكم في سورية. قد تكون في ذهن القيادة الروسية أفكار معينة تساعد القيادة العليا في دمشق في اخراج نفسها من الزاوية التي حشرت نفسها فيها. في الماضي شملت الأحاديث فكرة وضع البلاد فوق النظام والتنازل عن السلطة مع ضمانات حصانات في بقع جميلة في روسيا. قيل في الماضي إن بعض الأفكار صبّ في الاستغناء عن قيادات معينة ذُكرت اسماءها في تقارير للتحقيق الدولي المستقل وذلك كنوع من"غسل النظام"قبل المحاكمات. وكان هناك كلام عن انقلابات مُتفق عليها تحول دون انزلاق سورية إلى مصير كمصير العراق. ثم جاء الكلام عن القرار الاسرائيلي بضرب حصن الحماية للنظام في دمشق لأن الجبهة السورية - الإسرائيلية مقفلة تماماً في عهده وهو صمام الأمان لمنع تسلق أمثال"الاخوان المسلمين"الى السلطة. المهم الآن هو ماذا في ذهن القيادة الروسية نحو سورية، لا سيما إذا توصلت الى استنتاج بأن لا مجال لموسكو أن تقدم غطاء الحماية لدمشق باستمرار. قد تكون القيادة الروسية مستعدة الآن لاصرار على دمشقوطهران أن عليهما رفع الأيادي عن الملف الفلسطيني بعدما نجحت"اتفاقية مكة"برعاية الملك عبد الله في حقن الدماء وفتح الطريق الى إقامة حكومة وحدة وطنية ودعم رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في اجراء مفاوضات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود أولمرت حول الوضع النهائي للأراضي الفلسطينية المحتلة. فروسيا طرف في"اللجنة الرباعية"التي تضم الولاياتالمتحدةوالأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي. وأمام هذه اللجنة فرصة تاريخية لدفع نحو انجاز واختراق على المسار الفلسطيني - الإسرائيلي من المفاوضات يؤدي إلى"جائزة"عربية كبرى لإسرائيل مقابل موافقتها على اقامة الدولة الفلسطينية لتحل مكان احتلال عام 1967 مع تعديلات هنا وهناك. هذه الجائزة تتمثل في الاستعداد لاعتراف عربي جماعي بإسرائيل وللتطبيع معها فور موافقتها على قيام الدولة الفلسطينية مكان الاحتلال. روسيا التي لعبت دور أحد الراعيين، الأميركي والروسي، لعملية السلام لشرق الأوسط، اكتفت في السنوات القليلة الماضية بلعب دور تكميلي في"الرباعية"التي بدورها استقلت المقعد الخلفي للتطورات في كثير من الأحيان. الآن، هناك فرصة جديدة بزخم اقليمي فريد وجديد نوعياً. هناك مؤشرات على اعتزام أميركي جدي لتحريك المسار الفلسطيني - الإسرائيلي ودفعه نحو الاتفاق. الأسبوع المقبل ستجتمع وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس مع عباس وأولمرت في لقاء ثلاثي مهم يطلق المفاوضات التي توقفت لست سنوات على أساس أفق سياسي جديد، بمعنى أفق الحل النهائي والوضع النهائي ومسائل الحدود واللاجئين والقدس والدولة. دور روسيا فائق الأهمية في هذا المنعطف، إذا شاءت موسكو استخدام نفوذها مع جميع الأطراف بتركيز على المسار الفلسطيني ومن دون اقحام المسار السوري أو المسار اللبناني على المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية. فإذا تمكنت الإدارة الأميركية من ممارسة الضغوط الضرورية على إسرائيل، تبقى في حاجة الى ضغوط مماثلة من الاتحاد الأوروبي والأممالمتحدةوروسيا. أما إذا تراجع العزم الأميركي لأسباب انتخابية أو بسبب عقيدة للرئيس جورج دبليو بوش أو موقف لنائبه ديك تشيني، ان اقدام روسيا على ممارسة ضغوط علنية على إسرائيل، سوية على الاتحاد الأوروبي، سيؤدي بالإدارة الأميركية إلى إعادة النظر، وربما يجعلها تستدرك الثمن الفادح لخسارة الفرصة السانحة في هذا المنعطف. فمن الضروري أن تلعب روسيا دوراً قيادياً ايجابياً في المسار الفلسطيني - الإسرائيلي من المفاوضات من خلال الضغط على الطرفين بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي الذي يمتلك أيضاً مفاتيح اقتصادية مهمة مع الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي. هذا إذا أرادت حقاً توسيع رقعة اختمامها الجدي بمنطقة الشرق الأوسط. ففي العراق، يبقى الدور الروسي محدوداً، لأن موسكو لن تقدم أي قوات وليست مستعدة للاسراع الى انقاذ الولاياتالمتحدة من ورطة الاحتلال التي أتى بها الاجتياح بقرار انفرادي عارضة مجلس الأمن الدولي. ترى القيادة الروسية أن العراق يجب أن يُعاد إلى الأسرة الدولية بأسرع ما يمكن لتقاسم المسؤوليات وتعتقد أن في وسع إيران المساعدة هناك. ولكن، أهم ما يشغل بال روسيا هو التصعيد بين الولاياتالمتحدةوايران ليس لأنها تتوقع ضربة عسكرية اميركية وانما لأن التشنج يؤدي الى زرع صواريخ اميركية متطورة بقرب الحدود الروسية. وهذا في رأي موسكو يهدد الأمن الروسي. وهذا جزء من الأسباب وراء خطاب بوتين في ميونيخ، الى جانب غضبه من توسيع حلف شمال الأطلسي الناتو ليضم دول أوروبا الشرقية وليستبعد روسيا التي تعتبر نفسها دولة أوروبية رائدة وليس دولة آسيوية. روسيا قلقة أيضاً من التصعيد الناتج عن اعلان جورج دبليو بوش"اننا سنفعل شيئاً ما"ضد"قوة القدس"التابعة لايران والتي تستهدف القوات الاميركية في العرقا. سمعت قول بوش ان"لدينا استراتيجية شاملة حول كيفية التعاطي مع ايران". وأكثر ما أخذت علماً به هو تحريك الأسطول الأميركي بقرب منها وتعزيز حاملات الطائرات بأسلحة نوعية أكثر من تعزيز القوات الأميركية داخل العراق. على رغم كل التصعيد اللفظي وتعابير القلق فالرسالة الروسية الأساسية للولايات المتحدة هي: نريد الشراكة. لا تستبعدونا عن افغانستان بتسوية يقودها حلف الناتو وحده. لا تبعدونا عن الشرق الاوسط والخليج. فروسيا لا ترحب بالاستبعاد وانما تريد تسوية شاملة وانخراط أمثال سورية وايران في كل مجال. ولكن، هذه الرسالة تصر في المرتبة الأولى على أن موسكو لا تسعى وراء خلق هوة في علاقاتها مع الولاياتالمتحدة، وأنها، في نهاية المطاف، ليست على ذلك القدر من الاختلاف مع الولاياتالمتحدة في تحليل الأحداث والأهداف المهمة في العالم. الخطوة التالية في ملعب موسكو إذا أرادت حقاً دوراً رئيسياً وايجابياً في المنطقة. فكما يجب على الادارة الاميركية التخلص من"عقدة الانتصار في الحرب الباردة"وبين التفكير"خارج الصندوق"، كذلك على الحكومة الروسية ان تخلع عنها عقلية الحرب الباردة حيث تلعب دور الدرع الحامي لأنظمة موالية لها بغض النظر عن فكرة هذه الأنظمة وأفعالها. مسؤولية روسيا الكبرى الجديدة هي إحداث نقلة نوعية عكسية في الأنظمة التي تستدعي السوفياتية، مثل النظام في ايران.