تستدعي اعتبارات اللياقة السياسية، أو حسب المصطلح الانكليزي political correctness، الترحيب بنقل شؤون الأمن في البصرة من القوة البريطانية الى القوات العراقية باعتبارها خطوة وصفها مسؤولون بانها"عيد البصرة"، على حد تعبير مسؤولين عراقيين. لكن لنتحدث أولا عن"خراب البصرة"؟ خراب البصرة الحقيقي بدأ في عهد الرئيس السابق صدام حسين الذي أحالها الى ساحة حربه على ايران في الثمانينات من القرن الماضي، وحوّل الميناء الذي كان يزهو ذات يوم بلقب"ثغر العراق الباسم"الى مدينة بائسة كما بقية مدن الجنوب التي استحق سكانها العقاب كونهم"عملاء ايران"بحسب مصطلحات النظام البائد. وقد عنى ذلك التنكيل بأهلها وتدمير أهوارها وبساتين نخيلها وحرمانها من ماء الشرب النقي والكهرباء وكل خدمات اساسية أخرى على رغم ان المنطقة كانت وما تزال توفر للعراق نحو 70 في المئة عوائده من النفط. هكذا كانت حال البصرة يوم دخلتها قوات التحالف الدولي في طريقها الى بغداد التي تم تحريرها في التاسع من نيسان ابريل 2003، وتسليم شؤون أمنها بعد ذلك الى القوة البريطانية التي تحملت هذه المسؤولية حتى اعادتها الى العراقيين الأحد الماضي. القوة البريطانية الباقية في المحافظة لن تزيد عن 2500 جندي يرابطون في معسكرهم الكائن في مطار البصرة بعيدا عن المدينة ومشاكلها. وبحسب الخطة المرسومة، فان هذه القوة ستنصرف الى تدريب القوات العراقية مع تعهد بأن تكون مستعدة لمساندتها إذا طُلب منها ذلك، على رغم ان هذا الامر يبدو غير واضح تماما، خصوصا بعدما لمحت قيادة قوات التحالف الى انها قد تضطر الى ملء الفراغ الناجم عن الانسحاب البريطاني بقوة أميركية مناسبة. فماذا ترك البريطانيون وراءهم في البصرة للقوة العراقية المؤلفة من جيش وشرطة قوامهما نحو 30 الف عنصر؟ قائد شرطة البصرة اللواء الركن عبد الجليل خلف قال ان المحافظة تعاني بشكل واضح غياب القانون في ظل سيطرة ميليشيات وعصابات عليها. ونقلت عنه صحيفة"غارديان"ان القوات البريطانية أسهمت"عن غير قصد"منها بتسليح ميليشيات في المدينة حتى انها اصبحت تتفوق على القوات الحكومية في الأسلحة والعتاد وأصبحت الفوضى تعم البصرة. واوضح ان هناك نحو 28 ميليشيا مسلحة فيها تسيطر على الميناء، الذي يدر عليها مبالغ طائلة، وتفرض أتاوات حتى على صادرات النفط وتجلب السلاح عبر الحدود من ايران. علما أن جهات عراقية تؤكد أنها تملك معلومات بأن لإيران نفوذا مباشرا على ما لا يقل عن 11 جماعة مسلحة، لكن هذه الجهات لا يمكنها ان تفصح عن هذه المعلومات علنا وذلك لأسباب معروفة. يُشار الى ان خلف، الذي يجهد في مواجهة الميليشيات والعصابات الاجرامية في البصرة، تعرض حتى الآن لنحو 20 محاولة اغتيال. كما لم يسلم قائد عمليات البصرة الفريق الركن موحان الفريجي هو الآخر من محاولات اغتيال استهدفته. لكن الأسوأ من كل هذا ما تتعرض له المرأة البصراوية على أيدي الميليشيات. فحتى الآن قتل نحو 40 إمراة بحسب اللواء خلف واكثر من هذا العدد بكثير بحسب ناشطات بصراويات، وذلك باسم الإسلام الذي توضح شعارات تغطي جدران المدينة أنه يُحرم ما تصفه هذه الشعارات بالتبرج والسفور وهما"جريمتان"عقابهما القتل. إذاً، هل اسرعت بريطانيا في التخلي عن مسؤولية حماية أمن البصرة؟ في الواقع ان القوة البريطانية فقدت منذ مدة طويلة ارادتها في استمرار تحملها مسؤولية الأمن هناك، وتركت عمليا للميليشيات المتصارعة في ما بينها السيطرة على البصرة. الخريطة السياسية - العسكرية في المدينة بالغة التعقيد بما فاق كثيرا قدرة البريطانيين على ادراك ابعادها ومعانيها حتى فترت همتهم ومعنوياتهم وتخلوا عن محاولة استعادة الزمام، خصوصا بعدما تكبدوا خسائر في الأرواح من دون أي مكسب على الأرض يبرر تلك الخسائر. وبالتالي بدأت هذه القوات عملية الانسحاب التدريجي، بداية من مركز المدينة الى قاعدتها في مطار البصرة، وأخيرا التخلي عن مسؤولية الأمن، لكنها أكدت التزامها مواصلة تدريب القوات العراقية. وتتمثل إحدى المشاكل في قرارٍ للحاكم المدني السابق بول بريمر أعطى بموجبه سلطات كل محافظة مسؤولية المحافظة على الأمن من دون الخضوع لوزارة الداخلية في المركز. وهذا الاجراء ما زال ساري المفعول قانونا. أي أن الاجهزة الامنية المحلية تكون تحت سلطة مجلس المحافظة الذي يضم ممثلي كتل سياسية رئيسية يمتلك كل منها ميليشيا مسلحة يعود ولاؤها للكتلة التي تنتمي اليها. وهذا يعني، بالنسبة الى البصرة، جماعات مسلحة قوية تابعة للمجلس الاسلامي الاعلى تمثلها منظمة بدر وحزب الفضيلة والتيار الصدري جيش المهدي وتيار الدعوة. ينعكس هذا التوزيع على التقسيم السياسي لمجلس المحافظة. فرئيسه من حزب الفضيلة فيما الاعضاء موزعون على المجلس الاعلى والتيار الصدري وحزب الدعوة وحتى جبهة التوافق. وكمثال على ضعف المركز ان رئيس الوزراء أمر قبل فترة باقصاء محافظ البصرة عن منصبه لكنه اضطر الى التراجع عن قراره بعدما ادرك ان التوازنات السياسية في المحافظة لا تسمح بتنفيذ أمره. على أن هذه الجماعات المسلحة يمكن، في النهاية، السيطرة عليها من قبل مرجعياتها في اطار التوافقات السياسية في العراق، وهو ما لا يمكن قوله عن الميليشيات المنفلتة. الى ذلك كله هناك عامل ربما تنفرد به البصرة ويتمثل في نزعة"استقلالية"قوية لا عن المركز فحسب، بل حتى عن الجنوب الشيعي. تيار في هذه النزعة يرى ان الأفضل للبصرة ان تكون اقليما مستقلا في حد ذاته، فيما يميل تيار آخر الى اقليم اوسع يضم الى جانبها محافظتي ذي قار وميسان. وهذا التوجه لا ينسجم باي حال مع سياسة المجلس الاسلامي الاعلى الذي يدعو الى اقامة اقليم واسع يضم تسع محافظات جنوبية عاصمته النجف مركز المرجعيات الشيعية الرئيسية. ومما له دلالة في هذا المجال ان محافظ النجف استبق اي تطور محتمل في هذا المجال معلنا قبل ايام أن النجف تستعد لتكون العاصمة السياسية للاقليم الجنوبي الموسع في حال اقامته، على ان تكون البصرة العاصمة التجارية. بعبارة اخرى، وفي اطار هذه التعقيدات السياسية التي تميز البصرة، ينبثق السؤال: هل يمكن القوات الامنية العراقية ان تسيطر عليها، وهل سيشكل الانسحاب البريطاني خطوة نحو تطورات يصعب التنبؤ في هذه اللحظة بها وبما ستؤول اليه بالنسبة الى مستقبل"ثغر العراق الباسم"؟.