تُعدُّ رحلةُ ابن جبير 539 624 ه المعروفة ب "رسالة اعتبار الناسك في ذكر الآثار الكريمة والمناسك" من أهم الرحلات التي تؤرِّخ للعالم الإسلامي وتكشف أحواله الثقافية والسياسية والاجتماعية في القرن السادس. فأدب الرحلة هو الأدب الوحيد الذي يكاد يتعالى على أهدافه المعلنة وغاياته المحددة، إنه يكشف عن الهامشي والغامض، ويرصد الثانوي ويسائل الواضح. فالرحَّالة لا يُبصر التفاصيل والمشاهدات إبصاراً آليًا ولا يراها رؤية الألفة والعادة وإنما يُعمل فيها إبصاراً ثقافياً ورؤية الرأي. إنه يعتمد العين الثالثة التي تنقبُ المرئيات لرؤية ما وراءها ويعوِّل على حدوسه القادرة على إبطال فعل الغموض وتحييد سحر المجهول والغرائبي. وإذا كان هدف ابن جبير في رحلته مُعلناً في العنوان فإنّ مسار رحلته وحرصه على تدوين مشاهداته يكشفان أهدافاً لم يُعلنها لكنَّه أثبتها في تضاعيف"رسالته"التي مكث في تدوينها مدة زمن الرحلة"بمعنى أنَّ هناك تطابقاً بين زمانين: زمن الرحلة وزمن التدوين. ويكشف هذا التطابق عن خروج ابن جبير عن هدف رحلته الذي ينصّ عليه العنوان بمعنى أنّ الرحلة الحجازية، كما يسميها حسين نصار، تروم تحقيق غاية وهدف محددين هما تسجيل المواقف وردود الأفعال التي تنتاب الحاجّ وتراوده في أثناء مناسك الحج وهما لم يتحققا في رحلة ابن جبير تحققاً مطلقاً. وهنا تنكشف دلالة الزمان الحقيقي وهو زمن الحجّ بما هو شعائر وفريضة تمنح مؤدِّيها إحساساً كبيراً بالتفوّق الديني، ذلك أنَّ الإسلام أعلى من شأن فريضة الحج وربطها بالاستطاعة. وبعبارة أخرى فإنّ الحج وإنْ كان الفريضة الخامسة المُرجأة المشروطة بالاستطاعتين: النفقة المادية والقدرة البدنية إلا أنها تصبح أولى الفرائض وأول الأركان"لما تشكِّله من تحدٍّ يدفعُ المسلمين كلَّهم إلى قبوله وإنجازه ليحققوا بذلك انتساباً كاملاً للإسلام والتزاماً مطلقاً بتعاليمه بغية إحراز الأجرين: الدنيويّ والآخروي والفوز باستحقاقاتها. إنّ رحلة تتقاسمها أزمنةٌ ثلاثةٌ تدفع فعل القراءة إلى اختبار أهداف ابن جبير الثلاثة التي كان معنيّاً بتحقيقها وهي: الهدف الدينيّ، والهدف السرديّ المتشكل من تسريد الرحلة وإثبات المواقف ورصد التفاصيل المصاحبة للرحلة بوصفها سلسلة أحداث في الزمان والمكان والثقافة، والهدف التدوينيّ المتضّمن في الهدف السّردي. وهنا لا بدَّ من عقد مطابقة بين الأزمان الثلاثة كما وقعت فعلاً وبين الأزمان الثلاثة كما وقعت سرداً، إنَّ فريضة الحج ومناسكها تُنجز في شهر ذي الحجة الذي يشكل قيداً زمنياً لأدائها وهنا تجدر الإشارة إلى أن ابن جبير قد دخل مكةالمكرمة مُحرماً في اليوم الثالث عشر في شهر ربيع الآخر سنة 579 ه وغادرها في اليوم الثاني والعشرين لذي الحجة في السنة نفسها أي أنّ مدة مكوثه في مكة قد استغرقت ثمانية أشهر وثُلث شهر. وزمن رحلة ذهابه إلى الحج قد استغرق ستة شهور، أمَّا زمان الرحلة فقد امتدّ ما يقارب ثلاث سنوات من الثالث من شوال سنة 578 إلى الثاني والعشرين من محرّم سنة 581 ه. وهنا ينبغي الوقوف على دلالة الزمن التي تتضمّن معاني مهمة فلو قدّرنا أنّ زمني الذهاب والإياب قد استغرقا اثني عشر شهراً، لكل زمن ستة شهور بصرف النظر عن الطريق التي سلكها ابن جبير في الذهاب والإياب إذ إنه اختار، في رحلة الذهاب، أنْ يسلك طريق الحجّ المصري لأنّ طريق الحج الشاميّ غير مأمونة نظراً لوقوعها تحت سيطرة الصليبيين الفرنجة، فإننا سنجد أنّ ابن جبير قد أمضى ما يقارب ستة عشر شهراً في رحلات جانبية قضاها في الحجاز ونجد والعراق وبلاد الشام أي ما يعادل ضعف المدة التي مكثها في مكةالمكرمة لأداء مناسك الحج. وضمن مسار الرحلة في زمن الإياب سوف يقوم ابن جبير بتسجيل مواقفه إزاء التفاصيل التي عاينها وسمعها ورآها وسمع بها ما يعني أنَّ الأمكنة تحضر من خلال سردياتها التي تدفع ابن جبير إلى تكوين الاستجابات وتشكيل الأحكام ومن ذلك تمثيلاً ما أثبته من حكم على عدل صلاح الدين ودوره في إشاعة الأمن وتأمين طريق الحجاج وتوفير سبل الراحة ومدّهم بالأطعمة والأشربة ورفع ضريبة الحجّ التي كانت نافذة في زمن الدولة العبيدية. كذلك إشاراته المهمة إلى اعتراض بعض أهل صعيد مصر طريق الحجاج والمسافرين وسلبهم أموالهم وأمتعتهم، وكذلك اعتراض الأعراب سبيل الحجاج وابتزازهم في طريق العراق، وهي إشارة سوف يثبتها ابن عثمان المكناسي في رحلته الحجازية عندما أشار إلى"تصرفات بدو الأردن غير النزيهة"واستيلائهم على ممتلكات الحجاج العابرين إلى الحجاز، وأكدها صاحب كتاب"تاريخ جبل نابلس والبلقاء". إضافة إلى ذلك ما أورده ابن جبير من شهادة بحق بغداد وأهلها، يقول:"وأما أهلها فلا تكاد تلقى منهم إلا من يتصنّع بالتواضع رياءً، ويذهب بنفسه عجباً وكبرياء، يزدرون الغرباء، ويظهرون لمن دونهم الأنفة والإباء، ويستصغرون عمن سواهم الأحاديث والأنباء، قد تصوّر كل منهم في معتقده وخُلده أنّ الوجود يصغر بالإضافة إلى بلده، فهم لا يستكرمون في معمور البسيطة مثوىً غير مثواهم، كأنهم لا يعتقدون أنّ لله بلاداً أو عباداً سواهم، يسحبون أذيالهم أشراً وبطراً...". ويقع زمن الرحلة وسردها في مكوّنين رئيسيين: الوصف والسرد. ويرتبط الوصف بالأمكنة والمشاهدات، ويرتبط السرد بالمواقف والتجارب. الوصف تتعدد مستويات الوصف في رحلة ابن جبير تعدداً يخضع لانفعالات السارد بالمرئيات وتفاعل عينه الثالثة بالمشاهدات علاوة على ما يتراءى له من مجاهيل وما ينكشف له من غوامض. 1- الوصف الشعري: يقول ابن جبير في وصف دمشق:"جنة المشرق، ومطلع حسنه المؤنق المشرق وهي خاتمة بلاد الإسلام التي استقريناها، وعروس المدن التي اجتليناها، قد تحلّت بأزاهير الرياحين، وتجلَّت في حلل سندسية من البساتين، وحلَّت من موضع الحسن بالمكان المكين، وتزينت في منصتها أجمل تزيين...". 2- الوصف العجائبي: من ذلك ما أورده في حديثه"ما خص الله تعالى به مكة"إذ يقول:"وأما لحوم ضأنها فهناك العجبُ العجيب، وقد وقع القطعُ من كلِّ مَن تطوف على الآفاق وضرب نواحي الأقطار أنها أطيبُ لحم يؤكلُ في الدنيا. وما ذاك، والله أعلم، إلا لبركة مراعيها، هذا على إفراط سمنه، ولو كان سواه من لحوم البلاد ينتهي ذلك المنتهى في السمن للفظته الأفواه زهماً ولعافته وتجنبته". ويقول ابن جبير في وصف جامع دمشق المشهور ب"المسجد الأموي":"هو من أشهر المساجد حسناً، وإتقان بناء، وغرابة صنعة، واحتفال تنميق وتزيين... ومن عجيب شأنه أنه لا تنسج به العنكبوت ولا تدخله، ولا تلم به الطير المعروفة بالخطاف". 3- الوصف الانفعالي: وقد ورد في عدة مواضع أهمها عندما مر ابن جبير بعكا إذ قال:"ذكر مدينة عكا دمَّرها الله وأعادها"في إشارة جلية إلى احتلالها من الإفرنج ودعاؤه بدمارها وإعادتها إلى حيازة المسلمين. يقول ابن جبير وهو يمتلئ بالغيرة والغيظ:"هي قاعدة مدن الإفرنج بالشام، ومحطّ الجواري المنشآت في البحر كالأعلام، مرفأ كل سفينة، والمُشبهة في عظمتها بالقسطنطينة، مجتمع السفن والرفاق، وملتقى المسلمين والنصارى من جميع الآفاق"... السرد يَرِدُ المستوى السّردي في مواطن عدة أهمها الخوف والجزع حيث يسيطر على السارد إحساس حادّ بالقهر الذي يدفعه إلى الانتقام. ومن تلك المواقف ما كرره ابن جبير في ما يعترض الحجاج من مخاطر جرّاء اعتراض سبيلهم، ففي عنوان"مواقف خزي ومهانة"يصف ابن جبير وسائل قطاع الطرق في صعيد مصر في التعرض للحجاج والعبث في أمتعتهم وتفتيشهم"فحصاً عما تأبطوه أو احتضنوه من دراهم أو دنانير... وربما ألزموهم الأيمان على ما بأيديهم، وهل عندهم غير ذلك، ويحضرون كتاب الله العزيز تقع اليمين عليه. فيقف الحجاج بين أيدي هؤلاء المتناولين لها مواقف خزي ومهانة...". كما عرض ما يجده الحجاج من استغلال بشع في الأراضي الحجازية من التجار والسُّرَّاق، يقول ابن جبير:"وأكثر هذه الجهات الحجازية وسواها فِرَقٌ وشيعٌ لا دين لهم تفرَّقوا على مذاهب شتى. وهم يعتقدون في الحاج ما لا يُعتقدُ في أهل الذمَّة، قد صيَّروهم من أعظم غلاَّتهم التي يستغلّونها: ينتهبونهم انتهاباً، ويسببون لاستجلاب ما بأيديهم استجلاباً. فالحاج معهم لا يزالُ في غرامة ومؤونة إلى أنْ ييسرَ الله رجوعه إلى وطنه". وتدفع هذه المعاناة ابن جبير إلى الانحياز إلى موقف فقهي يقضي بإسقاط هذه الفريضة عن أهل الأندلس والمغرب فيقول:"فمن يعتقد من فقهاء أهل الأندلس إسقاط هذه الفريضة عنهم فاعتقاده صحيحٌ لهذا السبب وبما يُصنع بالحاج مما لا يرتضيه الله عز وجل. فراكب هذه الطريق راكبُ خطر ومعتسف غرر. والله قد أوجد الرخصة فيه على غير هذا السبيل، فكيف وبيت الله بأيدي أقوام قد اتخذوه معيشة حرام وجعلوه سبباً في استلاب الأموال واستحقاقها من غير حلّ ومصادرة الحجاج عليها وضرب الذلة والمسكنة الدنية عليهم". صورة صلاح الدين الأيوبي ومن أبرز المستويات السردية ما كرره ابن جُبير من ذكر شمائل أبي المظفر يوسف بن أيوب المشهور بپ"صلاح الدين الأيوبيّ"الذي لم يكفّ عن وصفه ب"السلطان العادل"الذي"سنّ السنن المحمودة ورسم الرسوم الكريمة"وتصدّى للعابثين الذين عاثوا في الأرض فساداً وإفساداً. كما رصد ابن جبير منجزات صلاح الدين الأيوبي العمرانية ففي"مناقب الإسكندرية"قرن ابن جبير بين العمران والتنمية الدينية فقال:"ومن مناقب هذا البلد ومفاخره العائدة في الحقيقة إلى سلطانه: المدارس والمحارس وهي مساكن مخصصة لطلبة العلم والزهاد والمسافرين والغرباء والسابلة الموضوعة فيه لأهل الطبّ والتعبد، يفدون من الأقطار النائية فيلقى كل واحد منهم مسكناً يأوي إليه ومدرِّساً يعلمه الفن الذي يريد تعلمه... واتسع اعتناء السلطان بهؤلاء الغرباء الطارئين حتى أمر بتعيين حمّامات يستحمّون فيها متى احتاجوا إلى ذلك، ونصب مارستانًا لعلاج من مرض منهم، ووكل بهم أطبّاء يتفقدون أحواله، وتحت أيديهم خدام يأمرونهم بالنظر في مصالحهم التي يشيرون بها من علاج وغذاء". ويكشف هذا الرصد الدقيق عن بُعدين مهمين يتعلَّق الأول بالتسهيلات التي ينبغي توافرها في المدن الرئيسية تلك التي تتمتع بحضور ثقافي كبير وأهمية هذه التسهيلات في توفير اللوازم الضرورية للتواصل المعرفي والإنساني. فالمدن الإسلامية الرئيسية كانت مراكز تنمية معرفية وبشرية قادرة على جذب طلاب العلم والمعرفة إليها بما توفره من حوافز وإمكانات وضمانات تكفل لهم حياة كريمة. والبعد الثاني يرتبط بعناية صلاح الدين الأيوبيّ بالعلم وطلابه حيث وعيه بأهمية تكوين المرافق الضرورية لتوفير سبل الراحة للمسافرين وطلاب العلم ليس هذا فحسب وإنما تكشف هذه الرؤية العلمية عن إيمان صلاح الدين الأيوبي بالتنمية المعرفية التي يجب أنْ ترافق المشروع الجهادي، فمحاربة الصليبيين لم تصرف صلاح الدين الأيوبي عن الاهتمام بالعلم والمعرفة وتوفير المخصصات والجرايات اللازمة لسد النفقات وتأمين الحاجيات. ويمضي ابن جبير في وصف فضائل صلاح الدين الذي كان يبدي اهتماماً بالغاً بالمغاربة والأندلسيين نظراً لما يتكبدونه من عناء في سبيل طلب العلم في المشرق وأداء فريضة الحج. يقول ابن جبير:"ومن أشرف هذه المقاصد... أنّ السلطان عيَّن لأبناء السبيل من المغاربة خبزتين لكل إنسان في كلّ يوم بالغَا ما بلغوا، ونصب لتفريق ذلك كلّ يوم إنسانًا أميناً من قبله فقد ينتهي في اليوم إلى ألفي خبزة أو أزيد ...". ليس هذا فحسب بل إنّ صلاح الدين الأيوبي كان يرى أنّ من واجبه تأمين الإقامة الكاملة للمغاربة حتى لو كان يحمل كل واحد منهم بيده زنته ذهباً. وقد ترافق ذلك كله مع الحفاظ على الدين يقول ابن جبير:"ومآثر هذا السلطان ومقاصده في العدل ومقاماته في الذبّ عن حوزة الدين لا تُحصى كثرة". أما"مآثر السلطان ومفاخره"فقيامه على تعمير المساجد والمحارس والمدارس ومرتاديها وسدنتها ومن يقيم فيها. علاوة على مكارمه المتجسدة في عنايته بأمور المسلمين كلهم إذ إنه أمر بعمارة محاضر مدارس ألزمها معلمين لكتاب الله لتعليم أبناء الفقراء والأيتام وأقام لهم جرايات كافية. إضافة لذلك يشيد ابن جبير بما أولاه صلاح الدين الأيوبيّ من اهتمام بالجانب الصحيّ، إذ أنشأ مارستانا لعلاج المجانين يصفه ابن جبير وصفاً خارقاً إذ يصفه بكونه قصراً من القصور الرائقة حسناً واتساعاً خلافًا لمقتنياته الطبية ومرافقه وموجوداته. أما مسجد ابن طولون فيعدّ من مكارم السلطان التي أغدقها على المغاربة إذ منحه لهم علاوة على مدهم بالأرزاق في كل شهر لتمكينهم من مزاولة العبادة والعلم. كما رأى ابن جبير أنّ انشغال صلاح الدين الأيوبيّ بحرب الصليبيين منح أمير مكة، في ذلك الزمان، فرصة استضعاف الحجاج وترويعهم في طلب الضرائب. يقول ابن جبير:"ولولا مغيب هذا السلطان العادل صلاح الدين بجهة الشام في حروب له هناك مع الإفرنج لما صدر عن هذا الأمير المذكور ما صدر من جهة الحاج. فأحقُّ بلاد بأنْ يُطهِّرها السيفُ ويغسل أرجاسها وأدناسها بالدماء المسفوكة في سبيل الله هذه البلاد الحجازية لما هم عليه من حلّ عُرى الإسلام واستحلال أموال الحجاج ودمائهم". ختاماً يمكن القول: إنّ رحلة ابن جبير لم تكن رحلة ناسك لإنجاز المناسك فحسب بل إنها كانت رحلة ناسك في اكتشاف أحوال العباد والمسالك، الأمر الذي يُعزز فرضية مُفادها أنّ المشرق الإسلامي ظلّ غايةً وهدفاً كان الأندلسيون والمغاربة يسعون إلى إحرازهما لمعاينة الثقافة واكتشاف مكوّناتها المختلفة.