تتابعت قوافل الحجاج عبر محطات سلكتها جموعهم وصولاً إلى الديار الاسلامية المقدسة في الحجاز، وكان من بين خطوط قوافل الحجاج تلك التي كانت تنطلق من الأندلس قاصدة مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة عابرة مدن شمالي افريقيا وجزر البحر الأبيض المتوسط مروراً بالديار المصرية وصولاً الى أرض الحجاز. ويمكن اعتبار رحلة ابن جبير في مقدمة المصادر الكتابية التي أغنت المكتبة العربية بفيض زاخر من المعلومات والحقائق. وصف ابن جبير ما مرّ به من مدن وما شاهد من عجائب البلدان وغرائب المشاهد وبدائع المصانع والأحوال السياسية والاجتماعية والأخلاقية كما عنى عناية خاصة بوصف النواحي الدينية والمساجد والمشاهد وقبور الصحابة ومناسك الحج ومجالس الوعظ والمستشفيات والمارستينات. واكتسبت رحلة الحج التي انطلقت من بلاد الأندلس أهمية خاصة بالنظر الى طبيعة الأماكن التي كان الحجاج الأندلسيون يمرون بها كجزائر البحر المتوسط وميتورقة وسردينية وصقيلة وبعض المدن المصرية، لذلك اعتبرت كتابات هؤلاء الرحالة وما دونوه من انطباعات عن الأماكن التي مروا بها سجلاً حافلاً حفظ للتراث العربي مادة دسمة عن الواقع الاجتماعي والديني والاقتصادي. بامكاننا القول إن قوافل الحج الأندلسي كانت مجالاً واسعاً للتعرف على مناقب بعض المدن العربية. ففي رحلة ابن جبير التي بدأها الاثنين في التاسع عشر من شهر شوال سنة 578 هجرية الموافق اليوم الثالث من شهر شباط فبراير سنة 1182 م وختمها في الخميس الثاني والعشرين من شهر محرم سنة 581 ه الموافق ليوم الخامس والعشرين من شهر نيسان ابريل سنة 1185م، مشاهد تنبض بالحياة وترسم لوحة واقعية لحال تلك المدن وبعض مناقبها. فها هي مدينة الاسكندرية التي كانت احدى محطات الحجاج تنعم بالمدارس والمحارس الموضوعة لأهل الطب والتعبد التي يفد اليها طلاباً من الأقطار النائية، فيلقى كل واحد منهم مسكناً يأوي اليه ومدرساً يعلمه الفن الذي يريد تعلمه وإجراء يقوم به في كل أحواله. كما وضع لهؤلاء حمامات يستحمون فيها متى احتاجوا الى ذلك، كما نصب لهم مارستانا لعلاج المرضى منهم، ووكل بهم أطباء يتفقدون احوالهم كما يتوافر لهم خدام يأمرونهم بالنظر في مصالحهم التي يشترون بها من علاج وغذاء. ومن غرائب مدينة الاسكندرية أحوال الناس فيها، وتصرفهم بالليل كتصرفهم بالنهار في جميع أحوالهم وهي مدينة عامرة بالمساجد قدرها البعض ب12 الفاً والبعض الآخر بثمانية الآف مسجد. ومن الاسكندرية ينتقل حجاج الأندلس الى القاهرة وهي من المحطات المهمة إذ يقفوا على آثارها وبعض مشاهدها المباركة ومن ذلك "المشهد العظيم الشأن حيث رأس الحسين بن علي وهو في تابوت فضة مدفون تحت الأرض مجلل بأنواع الديباج وعلقت عليه قناديل فضة فيه من أنواع الرخام المجزع الغريب الصنع البديع الترصيع". ولا ننسى في هذا المقام مشهد الامام الشافعي وهو من المشاهد العظيمة احتفالاً واتساعاً، اذ بني بإذائه مدرسة لم يمر في هذه البلاد مثلها ويخيل انه لمن يطوف عليها أنها بلد مستقل بذاته. والى ذلك شدت حجاج الأندلس قلعة القاهرة وهي حصن يتصل بها ومستشفى المجانين وهو عبارة عن قصر من القصور الرائعة حسناً واتساعاً ووضع فيه خزائن ملئ بالعقاقير، كما وضعت في مقاصير ذلك القصر أسرة يتخذها المرضى مضاجع. أما مسجد ابن طولون فهو أيضاً من الجوامع العتيقة الصنعة الواسعة البنيان جعله السلطان صلاح الدين مأوى للغرباء من المغاربة يسكنونه ويعقدون فيه حلقات للدرس والوعظ والارشاد. وتتتابع مشاهد حجاج الأندلس لسائر معالم القاهرة ومنها مشاهد القناطر التي شُرع في بنائها غرب مصر. ووصف ابن جبير ذلك بقوله: "وعلى مقدار سبعة اميال منها بعد رصيف ابتدئ به من حيز النيل بإزاء مصر كأنه جبل ممدود على الأرض تسير فيه مقدار ستة أميال حتى يتصل بالقنطرة المذكورة وهي نحو الأربعين قوساً من أكبر ما يكون من قسي القناطر وبمقربة من هذه القنطرة المحدثة الأهرام القديمة المعجزة البناء الغريبة المنظر المربعة الشكل كأنها القباب المضروبة قد قامت في جو السماء". وكثيراً ما تشوب قوافل الحجاج ما قد يتعرضون اليه من مواقف خزي ومهانة على حد ما وصفه ابن جبير "ومنها التعرض لمراكب المسافرين وتكشفها والبحث عنها وادخال الأيدي الى أوساط التجار فحصاً عما تأبطوه أو احتضنوه من دراهم أو دنانير". وقبل الوصول الى مكةالمكرمة كان على الحجاج النزول في جدة وهي "قرية على ساحل البحر أكثر بيوتها اخصاص وفيها فنادق مبنية بالحجارة وفي اعلاها بيوت من الأخصاص كالغرف ولها سطوح يستراح فيها بالليل من آذى الحر". كما يوجد فيها مسجد مبارك منسوب الى عمر بن الخطاب رضى الله عنه ومسجد آخر له ساريتان من خشب الآبنوس ينسب أيضاً الى عمر ومنهم من ينسبه الى هارون الرشيد. ومن جدة الى الحرم الشريف كان على الحجاج المرور بالقرين وهو منزل الحاج ومحط رحالهم ومنه يحرمون وبه يريحون اليوم الذي يصبحونه والصادرون من الحج ينزلون به أيضاً ويسرون منه الى جدة ومن القرين الى مكةالمكرمة حيث المسجد الحرام والبيت العتيق. وداخل البيت الكريم مفروش بالرخام المجزع وحيطانه رخام كلها مجزع قام على ثلاثة أعمدة من الساج الشجر مفرطة الطول ودائر البيت كله من نصفه الأعلى مطلي بالفضة المذهبة المستحسنة. أما سقف البيت فهو مجلل بكساء من الحرير الملون وظاهر الكعبة كلها من الأربعة جوانب مكسو بستور من الحرير الأخضر وسداها قطن وفي اعلاها رسم بالحرير الأحمر. أما موضع الطواف فمفروش بحجارة مبسوطة كأنه الرخام حسناً منها سود وسمر وبيض قد ألصق بعضها الى بعض واتسعت عند البيت بمقدار تسع خطا الا في الجهة التي تقابل المقام، فإنها امتدت اليه حتى احاطت به وسائر الحرم مع البلاطات كلها مفروش برمل أبيض. ومن آيات البيت العتيق انه قائم وسط الحرم كالبرج المشيد وله التنزيهُ الأعلى. أما عن مشاهد مكة وآثارها المقدسة فمن مشاهدها قبة الوحي وهي دار خديجة أم المؤمنين ومن مشاهدها أىضاً دار الخيزران وهي الدار التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعبد الله فيها سراً، وكذلك دار ابي بكر وقبة بين الصفا والمروه وهي تنسب الى عمر بن الخطاب. والصحيح انها قبة حفيده عمر بن عبدالعزيز وفيها كان يجلس للحكم امام توليه مكة. وتتابع قافلة الحجاج مسيرتها حتى تصل الى المدينةالمنورة التي تمتاز بأبوابها الأربعة وهي تحت سورين في كل سور باب يقابله آخر الواحد منها كله حديد ويعرف باسمه باب الحديد ويليه باب الشريعة ثم باب القبلة وهو مغلق ثم باب البقيع. وقبل الوصول الى سور المدينة من جهة الغرب تلقى الخندق الشهير، ذكره النبي صلى الله عليه وسلم عند تحزب الأحزاب، وعلى شفير الخندق حصن يعرف بحصن العزاب وأمامه الجهة الغرب على البعد بئر رومه التي اشترى نصفها عثمان رضي الله عنه، ومسجد الفتح التي انزلت فيه على النبي عليه السلام سورة الفتح. وفي طريق العودة بعد آداء فريضة الحج يعرج الحجاج الى العراق مروراً بوادي العروس الى أرض نجد وصولاً الى الكوفة. وهي مدينة كبيرة عتيقة البناء استولى الخراب على أكثرها" وفيها جامع عتيق وهو جامع كبير وفيه آثار كريمة. أما بغداد حاضرة الدولة العباسية فكانت أيضاً من المحطات التي يعرج عليها الحجاج وقد تسنى لهم فيها حضور مجلس العلم والوعظ كمجلس رئيس الشافعية وفقيه المدرسة النظامية الشيخ الامام رضي الدين الغزويني" ومجلس الشيخ الفقيه جمال الدين أبي الفضائل. أما الشرقية فهي آنذاك دار الخلافة وفيها الكثير من الحمامات والمساجد والمدارس. وأما حماماتها فلا تحصى وهي بين الشرقية والغربية نحو الألفي حمام. وأما المساجد بالشرقية والغربية فلا يأخذها التقدير فضلاً عن الاحصاء. والمدارس بها نحو الثلاثين وهي كلها بالشرقية وأشهرها النظامية وهي التي ابتناها نظام الملك. ولهذه المدارس أوقاف عظيمة وعقارات محبسة تتصير الى الفقهاء المدرسين بها. ومن بغداد يحط الحجاج في مدينة الموصل التي تمتاز بربضها الكبير. ففيه مساجد وحمامات وخانات وأسواق كما بنى أيضاً داخل البلد وفي سوقه قيسارية للتجار كأنها الخان العظيم تتعلق عليها أبواب حديد وتطيف بها دكاكين وبيوت. وفي المدينة جامعات احدهما جديد والآخر من عهد بني أمية. ومن الموصل الى مدينة نصيبين ودنيصر وحران ولهذه البلدة مدرسة ومارستان وهي بلدة كبيرة وسورها متين حصين ومبني بالحجارة المنحوتة المرصوص بعضها على بعض ولها أيضاً قلعة حصينة. بعد ذلك يعرج الحجاج الى مدينة منبج فحلب فقنسرين فحماه وحمص وصولاً الى دمشق التي ينعم الحجاج برؤية جامعها العظيم كما أنه لهذه المدينة قلعة يسكنها السلطان وفيها مئة حمام وأسواقها من أحفل أسواق البلاد وأحسنها انتظاماً وأبدعها وضعاً ولا سيما قيسارياتها. بعد ذلك ينتقل الحجاج الى مدينة مسينة من جزيرة صقلية ومدينة اطرابتش لتنتهي رحلة الحجاج بالعودة الى الديار الأندلسية. * كاتب واستاذ جامعي.