فجأة ومن دون مقدمات، عادت الحياة خلال الأشهر القليلة الماضية الى واحد من أكبر وأهم الأعمال التلفزيونية الأوروبية التي حُققت خلال الربع الأخير من القرن العشرين. لعل الفضل في ذلك للمنطق التجاري. ولعل استعادة ذكرى صاحب العمل هي ما أملى عودته. ولعل الأسباب غير هذا وذاك. لكن المهم أن مسلسل"برلين الكساندر بلاتز"عاد على شكل اسطوانات مدمجة... كما عرض في الصالات ليستعيد ذكرى هذا العمل الذي حققه للتلفزة مخرج ما كان أحد ليتصور أن من شأنه ان يخوض مثل هذه التجربة. المخرج هو الألماني راينر فرنر فاسبندر، الذي رحل عن عالمنا منتحراً في عام 1982، أي في وقت كان فيه كثر يتوقعون منه، بعد النجاح الهائل الذي حققه عرض"برلين الكساندر بلاتز"على شاشات تلفزيون بافاريا، أن يكرر التجربة مع عمل تلفزيوني آخر مأخوذ عن رواية أدبية. وكان ا لهمس قد جرى بأن فاسبندر سيحقق 14 حلقة جديدة عن رؤية"آل بودنبروك"لمواطنه الكبير توماس مان. نعرف أن هذا المشروع الأخير لم يتحقق. وأن اهتمام فاسبندر بالعمل للتلفزيون قد توقف مع تلك الساعات الخمس عشرة الموزعة على 14 حلقة التي يتشكل منها"برلين الكساندر بلاتز". مهما يكن فإن الذين أدهشهم انكباب فاسبندر على تحقيق ذلك العمل للتلفزة لم يكونوا محقين في دهشتهم. كانوا، لفرط احتفالهم بسينمائية فاسبندر، ولفرط حديثهم عن وتيرته السريعة في إخراج أفلامه كان يخرج أحياناً خمسة أفلام في السنة الواحدة، كانوا قد نسوا انه سبق أن حقق أعمالاً أخرى للتلفزيون مباشرة، أو أعمالاً للسينما من انتاج محطات تلفزيونية. غير ان"المشكلة"مع فاسبندر كمنت في أن الأمور كانت دائماً مختلطة لديه. إنه كان، في جملة أحاديثه الاستفزازية يعلن دائماً عن حب للسينما يستبعد، فرضياً، أي اهتمام بالتلفزة لديه. لكننا اليوم، مع نظرة تراجعية نرصد مسار فاسبندر، من خلال عمله الرائع"برلين الكساندر بلاتز"سنتنبه الى أن بعض أعمال فاسبندر الأساسية والكبرى إنما حققت، أصلاً، للتلفزة. يصدق هذا على"الرحلة الى نيكلاسهاوزن"وعلى"رواد في انغلشتادت"العملان حققا في 1970. كما على خماسية"8 ساعات لا تصنع نهاراً"الذي حقق 1972. وعلى"نورا هلمر"الذي صوره عام 1973، بالفيديو مباشرة فكان تجربة رائدة. في إمكاننا، طبعاً، أن نواصل هذه السلسلة، لنقسم عمل فاسبندر ككل الى ثلاثة أنواع: أفلام للسينما، أفلام للتلفزة... وأعمال صنعت للوسيلتين معاً، أو كان يمكن عرضها في الوسيلتين. لكن المهم هنا أن نتوقف عند العمل الأكبر والأهم"برلين الكساندر بلاتز". فهذا العمل مأخوذ عن واحدة من أشهر الروايات الألمانية، رواية"برلين الكساندر بلاتز"لألفريد دوبلن. الرواية تقع أصلاً في قرابة ألف صفحة. وفي البداية أحب فاسبندر أن يختصر الأحداث لتملأ فيلماً سينمائياً واحداً في ساعتين. لكنه، بعد تفكير طويل وبعد تردد وإذ كان، في وعيه الباطني، يريد أن يتحدى التلفزة بخوض تجربة ما كانت مؤهلة أصلاً لاستقبالها بسبب كآبة الموضوع وحضور تيار الوعي غير القابل للأقلمة فيه، ضمن إطار استفزازيته الدائمة... أجرى من الاتصالات ما مكنه من الحصول على عقد سخي من تلفزة بافاريا، مكنه من أن يصور ثلاث عشرة حلقة بسرعة قياسية، مضيفاً إليها حلقة رابعة عشرة عنوانها"ملحق: بصدد حلم فرانز بيبركوبف"... وبيبركوبف المذكور هنا هو بطل الرواية ? ثم المسلسل ? الذي تتحدث الرواية عن مرحلة ما بعد خروجه من سجن كان أودع فيه لأربع سنوات عقاباً على قتله زوجته. وهو إذ يخرج يفاجئه صخب العالم الخارجي وتنكر الجميع له. إنه الآن يريد أن يعيش على رغم كل شيء. ويريد أن يبقى نزيهاً من دون أن يقدم أية تنازلات. لكنه على رغم قيامه بالكثير من المهن الصغرى ومن محاولاته الدؤوبة، بتشجيع من صديقة بولندية يتعرف اليها، في إحدى الحانات ويرتبط بها، يجد نفسه، تحت وطأة ضغط المجتمع والظروف وقسوة البشر، مساقاً الى درب الجريمة من جديد... كما يجد نفسه دمية في يد الآخرين. هذا هو، في اختصار، منطلق موضوع هذه الرواية وهذا المسلسل. للوهلة الأولى قد يستغرب القارئ أن يكون هكذا موضوع قد تمكن من أن يملأ 14 حلقة تلفزيونية. وقد يتوقع أن يكون العمل، وقد حول الى هذا المسلسل، بطيئاً مملاً صعباً. ولكن: أبداً على الإطلاق. بين يدي فاسبندر اتخذ العمل سماته الحية والحيوية ليصبح، لمن يعرف كيف يشاهده، واحداً من أجمل وأقوى الأعمال التلفزيونية التي قدمها مخرج سينمائي أوروبي، تعامل مع التلفزة بجدية تعامله مع السينما... وأدرك باكراً أن الوسيلتين لا بد أن تلتقيا يوماً، شرط أن يكون الإبداع رائد ذلك اللقاء. * الحلقة المقبلة: سبيلبرغ بين شاشتين