من هوليوود الى القاهرة، ومن باريس الى موسكو مروراً بروما وبرلين، يشهد عالم الفن انزياحاً كبيراً يمارسه صانعون سينمائيون كبار نحو التلفزة... ويرى كثر ان الظاهرة ليست جديدة وهم بالتالي يعيدونها الى عشرين سنة مثلاً الى الوراء حين بدأت محطات تلفزيونية عدة، في انحاء كثيرة من العالم، تنتج او تساهم في انتاج أفلام سينمائية، آملة ان تعود، بعد عرضها في الصالات الى عرضها على شاشاتها الصغيرة. لكن الحقيقة أبعد من ذلك بكثير: أبعد في العمق وفي الزمان. اذ اننا اذا اردنا فعلاً ان نضع بداية لاتجاه المخرجين السينمائيين الكبار الى العمل مباشرة للتلفزة، يتعين علينا العودة الى العام 1956، أي الى نصف قرن من الزمان، حين"اكتشف"روبرتو روسليني، الفنان الايطالي الذي كان أسس"الواقعية الجديدة"قبل ذلك بعشرة سنوات، ان السينما لم تعد قادرة على أن تمده بإمكانات للتعبير عن نفسه، اذ تزداد استعراضية وجماهيرية، وبات هو في حاجة الى تحقيق افلام تعليمية، فما كان منه الا ان انصرف، جزئياً اول الامر، وكلياً بعد ذلك، الى خوض الاخراج التلفزيوني فاتحاً بذلك طريقاً، لم يفهم كثر كنهه اول الامر، فاعتقدوا ان روسليني قد جنّ. لكن الرجل لم يجنّ: كل ما في الامر أنه كان ينظر بعيداً الى المستقبل، بعيني فنان واقعي يريد من الفن ان يكون تعليمياً شاملاً. وهو انطلاقاً من تلك النظرة، ادرك كم ان تلفزة المستقبل ستكون حافلة بالامكانات والتسهيلات، بما في ذلك العثور على الجمهور العريض، وتوفير امكانات تقنية رخيصة الكلفة. قبل نصف قرن يقال عادة ان بداية روسليني في هذا المجال كانت في العام 1964، حين حقق ما يُعتبر أول فيلم تلفزيوني خالص، وهو"عصر الحديد"الذي غاص من خلاله في التاريخ القديم جداً للانسانية. لكن الحقيقة ان روسليني كان حقق بدءاً من العام 1956، سلسلة تلفزيونية لحساب"الراي"التلفزة الرسمية الايطالية بعنوان"الهند كما يراها روسليني"، وهي حلقات تصل مدة عرضها الى اكثر من اربع ساعات، صدرت على مقاس 16 ملم، في الهند حيث اقام روسليني فترة طويلة بين 1956 و 1959. صحيح ان مجموع هذه الحلقات عرض على الشاشات السينمائية الايطالية ثم الفرنسية في العام 1959، لكن احداً لم يتوهم انها افلام سينمائية. كل ما في الامر ان عالم السينما لا يزال حتى ذلك الحين يحتقر التلفزة، ويستنكف عن القبول بخوض كبار مخرجيه لعبتها. غير ان روبرتو روسليني، الذي يحتفل هذا العام بالذكرى المئوية لولادته ولد في العام 1906 وتوفي في العام 1977، لم يبال ابداً... بل انه، حتى وان كان حقق اربعة أو خمسة افلام سينمائية بعد ذلك بما فيها فيلم للسينما عن رحلته الى الهند، سرعان ما نجده منذ العام 1963، يتخلى نهائياً عن العمل مباشرة للسينما، ليبدأ تحقيق سلسلة افلام للشاشات الصغيرة، يمكننا ان نقول اليوم بعد نصف قرن تقريباً، انها تظل من اهم أو أعمق الاعمال التي حققت لتلك الشاشات، خصوصاً ان روسليني آثر ان يقصر موضوعاته في هذا المجال على عالمين اثيرين بالنسبة اليه: التاريخ والفلسفة... ناهيك بتاريخ الاديان الذي كرس له افلاماً عدة قبل ان يقرر في نهاية حياته تحقيق فيلم عن نبي الاسلام محمد صلّى الله عليه وسلم ورحل عن عالمنا من دون ان يحققه. واللافت هنا هو ان روسليني كان يتوخى من الافلام الدينية ان تكون جامعاً بين الفلسفة والتاريخ. وعلى هذا النحو كان فيلمه عن السيد المسيح وكان واحداً من آخر افلامه، اذ لم يحقق بعده وحتى موته سوى فيلمين متوسطين احدهما عن"مركز جورج بومبيدو"في باريس، والثاني بعنوان"كونشرتو"لميكائيل انجلو، والاثنان أنجزا في العام 1977. وفي المجال الديني حقق روسليني ايضاً"اعمال الرسل". وهو ان كان في مجال الفيلم الفلسفي مات من دون ان يحقق مشروعاً عزيزاً لديه عن"كارل ماركس"، فإنه حقق في المجال نفسه مجموعة افلام لا تزال حتى اليوم تنبض بالحيوية والعمق، اهمها فيلمه عن"سقراط"1970 الذي اتبعه بفيلم عن"بليز باسكال"وآخر عن"ديكارت"... وهذه الافلام الثلاثة تعتبر حتى اليوم نموذجاً مدهشاً للكيفية التي يمكن بها استخدام الشاشة الصغيرة وتقنياتها - ممزوجة مع لغة سينمائية اكيدة - لتقدم مواضيع شديدة الجدية، انما بأسلوب شعبي تعليمي، للجمهور العريض. وما نقوله عن الافلام الفلسفية التلفزيونية، نقوله ايضاً عن الافلام التاريخية الرائعة التي حققها روسليني، وأهمها بالطبع"استيلاء لويس الرابع عشر على السلطة"و"دولة كوزيمو دي مديتش". هذه الاعمال كلها - والكثير غيرها - انجزها روبرتو روسليني خلال السنوات العشر الاخيرة من حياته، حيث حين كان يسأله بعضهم عما اذا كان اختار ان يعبر عن نفسه تلفزيونياً، لأنه رأى انه لم يعد في وسعه ان يحقق اية نجاحات سينمائية، كان يكتفي بأن يذكر بالنجاح الجماهيري الكبير الذي حققه فيلماه السينمائيان الاخيران"الجنرال ديلا روفيري"و"الهاربون ليلاً"ناهيك ب"فاتينو فاتيني". وهذا يعني بالتأكيد ان اختيار روسليني للتعبير تلفزيونياً كان اختياراً واعياً ومقصوداً، هو الذي بعدما أنسن السينما بعد الحرب العالمية الثانية، وأنزلها من حكايات التلفون الابيض والميلودرامات العبثية الى واقع الانسان وحياته، رأى ان عليه الآن -"استعداداً للمستقبل التلفزيوني المدهش الذي سيغزو البشرية كلها، كما قال في العام 1968، في وقت لم يكن احد بدأ يدرك الاهمية المقبلة للشاشة الصغيرة"- عليه ان يؤنسن التلفزة ويعطيها اعمالاً تهم الانسان، تكشف التاريخ، تبسط جمال المواضيع الدينية، وتجعل الفلسفة ورجالها في متناول الناس البسطاء. ... بعد تردد يجربون حظهم تلفزيونياً اذا كان عدد من مخرجي السينما الكبار، لا يزال يتردد دون خوض تجربة العمل في التلفزيون، وغالباً لأسباب فنية تتعلق بما يراه البعض من التفاوت في لغة التعبير الإبداعي بين الفنين، فإن من المفيد ان نذكر هنا بأن روبرتو روسليني الذي كان اول الكبار اندفاعاً الى خوض التجربة، لم يظل وحده في الميدان... ذلك ان العقود التالية لبداياته شهدت كثراً من زملائه الكبار يحققون اعمالاً للتلفزة مباشرة، وفي مقدمهم جان لوك غودار الذي كان من نصيب القضية الفلسطينية على يديه، اول الأمر، فيلم"هنا وهناك"الذي صور فيه عائلة فرنسية تشاهد، على الشاشة الصغيرة ما يحدث ايام ايلول الأسود. ومن البارزين في هذا المجال ايضاً الألماني راينر فرنر فاسبندر الذي حقق مسلسلاً في 10 حلقات عن"برلين الكسندر بلاتز"للكاتب الفريد دوبلن. ثم لارس فون تراير الذي حقق مسلسل"المملكة"المرعب عن مستشفيات الدنمارك. اليوم صارت هذه الممارسة، في الغرب، عادية ومستحبة. اما عندنا فلا يزال التردد قائماً على رغم تحقيق يسري نصر الله معظم افلامه، للتلفزة اولاً، حتى وإن عرضت سينمائياً... وعلى رغم تجارب جدية قاربها محمد خان وخيري بشارة بين آخرين، علماً بأن الأوضاع الراهنة للإنتاج السينمائي العربي تلح على كل المبدعين السينمائيين عندنا، بالتوجه الى... الشاشة الصغيرة.