منذ حقق السينمائي الألماني الكبير الراحل فاسبندر، أواخر سنوات السبعين، مسلسله التلفزيوني الشهير "برلين الكسندر بلاتز" عن رواية مواطنه "السابق" الفريد دوبلن المعروفة بالاسم نفسه، صار اسم دوبلن على كل شفة ولسان، في عالمي الأدب والسينما والثقافة عموماً، وراحت تكتشف تباعاً أعمال هذا الكاتب الذي تبين تدريجاً انه واحد من كبار كتّاب القرن العشرين. ومع هذا ظلت روايته "برلين..." العمل الأشهر وخيل الى كثر أنه أصلاً لم يكتب من الأعمال الكبيرة سوى هذه الرواية. ولكن لاحقاً حين اكتشفت رواية كبيرة أخرى له هي "هاملت... أو الليل الطويل قد انجلى"، زادت قيمة دوبلن اضعافاً، بل ان تلك الرواية أدت الى زوال قدر من سوء التفاهم كان قد قام بين أدب دوبلن وشخصيته من جهة، وبين قرائه الألمان خصوصاً من جهة ثانية كما سنرى. وإذا كان دوبلن قد احتاج الى كل ذلك الوقت حتى ينجو من سوء التفاهم، فما هذا إلا لأن حياته واختياراته كانت على الدوام مضطربة، تثير أكثر من سؤال. وهكذا، إذ أتت روايته المتحدثة عن عودة جندي من الحرب، كشفت الكثير من تناقضات هذا الكاتب وخيباته وأفكاره... بخاصة أنه أعلن فيها، ضمنياً أنه إذا كان للبشرية من خلاص، فإن هذا الخلاص آتٍ، بلا ريب، من طريق الفن: هذا "الإبداع الإنساني الكبير الذي فيه وحده تتجلى روعة الخلق وروعة الخالق معاً". عالم الفريد دوبلن في "هاملت... أو الليل الطويل قد انجلى" هو عالم التناقض، أي العالم الذي يعكس بعض تلك التناقضات التي عاشها دوبلن بين أصوله اليهودية واعتناقه المسيحية، بين الالحاد واللااردية، بين المانيته المتأصلة وفرنسيته المكتسبة، وبين برلينيته المتأرجحة التي لطالما حاول الفكاك منها، وكوزموبوليته التي سورته وحاصرته وحصرته وجعلت جزءاً من عالم الأدب ينساه. من كل هذه التناقضات أنبنت حياة الفريد دوبلن، ومن هذه الحياة بزغت رواية "هاملت...". حياة ورواية أحسهما صاحبهما حال انعدام وزن وطيران في اللامكان. صحيح ان هذا الإحساس لم يكن بعيداً من بطل "برلين الكسندر بلاتز" رواية دوبلن الأخرى والأشهر من "هاملت..."، حيث لم يعد بطل الرواية بيبركوبن يعرف مدينته برلين خلال تجواله فيها بعد أن خرج من السجن، لكن هذا الإحساس يصبح أكثر ايلاماً مع ادوارد اليسون، بيل "هاملت... أو الليل الطويل قد انجلى". واليسون، في الرواية، هو جندي بريطاني يعود الى وطنه بعيد الحرب العالمية الثانية، وهو، بعد فترة يمضيها في احدى العيادات، يعود الى دار أهله وقد فقد - الى ساقه التي بترت - جزءاً كبيراً من مقدراته العقلية. وفيما هو طريح الفراش، يائساً مكتئباً وعلى شفير الهاوية، يروح مراقباً العالم الذي يحيط به، العالم الداخلي في البيت، والعالم في الخارج، العالم الذي "يصله ضجيجه واصداء ذلك الضجيج تباعاً". وفي العالمين يقيض لأليسون أن يلمح الظلام المخيم نفسه: الليل الذي يخيل اليه انه ليل بلا نهاية. ولكن في وسط ذلك الخراب العام، يكون للخلاص شكله الأغرب... أي شكله الأقرب الى المنطق، بعد كل شيء، إن نحن فهمنا عوالم الفريد دوبلن فهماً كافياً: يكون الخلاص من طريق المحيطين بالمريض الذين، وفي أسلوب قريب من أسلوب "ألف ليلة وليلة" يتناوبون على قراءة نصوص أساسية في حضرة المريض: يروون له الأساطير القديمة، وحكايات الفلاسفة، والحكايات الدينية، وقصص حياة كبار الفنانين والمسرحيات... وهكذا تتواصل هذه القراءة على مدى الخمسمئة صفحة التي تتألف منها، في أصلها الألماني، تلك الرواية الغريبة. ويبدأ الوعي الحاد والجاد في السيطرة على جنان ادوارد اليسون، فإذا به ينتقل من غياهب الظلام الى نوافذ النور: ينجلي الليل الطويل من طريق غوص المريض في روائع الفكر والفن. لقد كان على ادوارد اليسون أن يختار بين الانزواء عن العالم والموت بعد عزلة، وبين الانبعاث الى الحياة من جديد... من طريق الفن والفكر. فكان ان اختار الحل الثاني، ما أنهى تلك الرواية التي تلوح للوهلة الأولى كابوسيةً، بالوقوف الى جانب الأمل ضد اليأس. فهل نحن في حاجة هنا الى أن نقول إن ادوارد اليسون ليس، في حقيقة الأمر، سوى الفريد دوبلن نفسه؟ وإن رحلة الليل الطويل الى النهار هنا، انما هي الرحلة التي قام بها دوبلن بغية الوصول الى أمل أخير داعبه خلال السنوات الأخيرة من حياته؟ للإجابة عن هذا السؤال الأساسي، قد يجدر بنا أن نعرف أن الفريد دوبلن قال دائماً عن نفسه انه تلميذ نجيب لثلاثة: القديس توما الاكويني، سورين كيركغارد المفكر الوجودي النرويجي، وسيغموند فرويد مكتشف التحليل النفسي. ولنعرف هذا أيضاً كي ندرك فحوى الشكوك التي ساورت دوبلن طوال حياته... وصولاً الى فحوى الأمل الذي داعبه في النهاية إذ عثر عليه. وفي هذا المعنى قد نفهم في شكل أوضح ما قاله الكثير من نقاد أدب دوبلن ودارسي حياته حين وصفوا "هاملت... أو الليل الطويل قد انجلى" بأنها "نص في العلاج الذاتي لا أكثر ولا أقل". ولنقل نحن، بالأحرى، ان هذه الرواية قد لعبت دوراً أساسياً في حياة كاتبها. لكن المؤسف ان هذا الأخير لم يعش طويلاً حتى يشهد نجاح روايته، أو يتأثر بها ايجابياً. فالرواية كانت، منذ كتبها دوبلن أواخر سنوات الأربعين طي النسيان، حتى قيض لها ناشر في المانياالشرقية نشرها، للمرة الأولى، في العام 1956 أي قبل عام من رحيل الفريد دوبلن. ويومها لم تثر الرواية - على أي حال - الاهتمام المتوقع... حيث ظل القراء الألمان متناسين معظم أعمال دوبلن، باستثناء "برلين الكسندر بلاتز"، بخاصة أنه حين عاد اليهم بعد غياب كان قد عاد في رداء ضابط في الجيش الفرنسي المحتل!. ولكن خلال سنوات السبعين من القرن العشرين، عادت المانيا الغربية، يُكتشف معظم أعمال دوبلن - انطلاقاً من انتشار "برلين الكسندر بلاتز" -. وبخاصة "هاملت... أو الليل الطويل قد انجلى". وراح القراء يتدافعون لقراءة هذه الرواية حتى يكتشفوا من خلال شفافية شخصية ادوارد اليسون ان الفريد دوبلن لم يكن الخائن الذي يعتقدون... وصار دوبلن نجماً ساطعاً الى درجة ان غونتر غراس - الذي سيفوز لاحقاً بنوبل الأدبية - أسس جائزة كبيرة باسم دوبلن، وكتب عنه دراسات عدة اعتبره فيها معلمه الأول والأخير. والفريد دوبلن ولد العام 1878 في مدينة شتيتين ليموت العام 1957 في مدينة اميندينغن. وهو درس أوائل القرن العشرين، الطب في برلين وفرايبورغ وعمل بالفعل طوال 22 سنة طبيباً للأعصاب في العاصمة الألمانية. أما توجهه الى الأدب فكان بدأ حين كان طالباً في الدراسة الثانوية، إذ كتب المقالات والقصص القصيرة. وهو بين 1910 و1915 ساهم في تأسيس صحيفة "العاصفة" التعبيرية. وفي العام 1933، وعلى رغم تخلّيه قبل ذلك عن اليهودية لصالحة لا أدرية معلنة سبقت اعتناقه الكاثوليكية لاحقاً، هرب من النازية الى زيوريخ أولاً ثم الى باريس فالولايات المتحدة. وهو عاد العام 1945 الى المانيا مع عائلته، ولكن بصفته مواطناً فرنسياً. وفي العام 1953 عاد مرة أخرى الى باريس، التي لن يبارحها إلا مريضاً في العام 1956، وكان بقي له عام واحد فقط يعيشه. أما أشهر ما كتب دوبلن، الى الروايتين اللتين ذكرناهما: "مقتل زهرة صفراء" و"جبال وبحار ومردة" و"رحلة القدر" وثلاثية "6 نوفمبر 1918: حكاية ثورة المانية".