الأحد 9/12/2007 : المرضعة لم أستطع تقليد جدي في السفر براً من بيروت الى الإسكندرية، منعتني إسرائيل كما منعت وتمنع غيري. وحين كان يروي تخيلته في سيارة قديمة، يعبر الشاطئ الطويل للبحر المتوسط، يحطّ في هذه المدينة أو تلك، تتشابه المدن في قلاعها ومطاعم السمك واختلاط السكان، فهي في الهزيع الأخير من العهد العثماني ضمت جاليات أوروبية فاكتسبت سمة العالمية، وبلغ عدد الأجانب والعرب في مصر عام 1944 حوالى مليونين أكثرهم في الاسكندرية. يحار صاحب مطعم السمك الكبير في خيزران بين صيدا وصور في أن يجعل مطعمه أصغر مساحة، إذ لا يزال يحلم بفتح طريق فلسطين ليعاود سيرته الأولى في استقبال عابرين كثر من لبنان وسورية القريبة متجهين الى فلسطين ومصر. كان جدي يسافر براً وأبي يسافر بحراً، ففي الإسكندرية أبناء عمومة لنا مكثوا هناك ولم يتابعوا سفرهم الى الارجنتين، لكن التمصير القاسي عام 1954، وضع اللبنانيين والسوريين في سلة واحدة مع الإيطاليين والفرنسيين واليونانيين والإنكليز، كما وضع أبناء الطبقة الوسطى المتمصرة من التجار الصغار والمحامين والمحاسبين والكتّاب والفنانين في سلة واحدة، لذلك نرى الحنين الى الاسكندرية الكوسموبوليتية مادة أثيرة في الفن التشكيلي والشعر والرواية والمذكرات والموسيقى والغناء، وتستطيع قراءة ملامح المدينة في أعمال أدبية وفنية باللغات اليونانية والفرنسية أكثرها والإنكليزية والعربية أقلها. لم يكن اللبنانيون والسوريون المتمصرون أغنياء كباراً إلا في استثناءات قليلة، فعندما أجبروا على مغادرة مصر اهتز مجتمعها لأنه خسر خبراء عمليين في شؤون كثيرة من ميكانيكا السيارات الى التعليم الى الترجمة الى المحاماة الى الصحافة الى الفنون على أنواعها. ولم تكن المرأة اللبنانية المسافرة الى مصر ممثلة فقط بآسيا داغر وصباح وبسيدات منفتحات على الحداثة يلبسن أحدث الأزياء. فهي تتمثل أيضاً ببائسات مثل تلك المرأة التي روى جدي أنها كانت عندما تلد تترك وليدها لزوجها في القرية يطعمه من حليب البقر والماعز، مغادرة الى الاسكندرية حيث تعمل مرضعة لدى عائلة من اللبنانيين المتمصرين، ترضع طفل تلك العائلة ما بين ستة أشهر وسنة لتعود الى طفلها وزوجها وقريتها في لبنان حاملة من المال ما يقي العائلة الفقر والعوَز. حكاية المرضعة لا تدل فقط على بؤس مهاجرات لبنانيات، بل أيضاً على شيء من العنصرية لدى العائلة التي قصدتها تلك المرأة، تستدعي لطفلها مرضعة من لبنان رافضة أن يرضع من ثدي امرأة مصرية، وما أكثر المرضعات المصريات في تلك الأيام. الاثنين 10/12/2007 : أضواء راكودا الاسكندرية من بعيد تتشكل ليلاً في هيئة أمها"راكودا" قرية على لسان بحري طويل لبحارة أتوا من مرافئ متوسطية وتحطمت مراكبهم. هي الإسكندرية، أو راكودا، في كثافة الليل. الأضواء القليلة في الفضاء وفي الماء. وعلى عجين الشاطئ ما يشبه العشب، شيء أقرب الى جلد مجعد تتحرك عند منحنياته أمواج ماء وملح ويود. أضواء في ليل المدينة قليلة ونافرة، وقابلة لأن تُلمس من بعيد وفي الأضواء قبس مميّز وحيد، مثل عود كاراميلا. الثلثاء 11/10/2007 : المدينة "لن تجد بحراً آخر أو أرضاً أخرى ستلاحقك هذه المدينة دائماً، ستجوب الشوارع نفسها وتشيب في المنازل ذاتها، وينتهي أمرك دائماً الى هنا فانس أي مكان آخر، لا سفينة لك ولا طريق والحياة التي ضيعتها هنا ضيعتها أيضاً في أي مكان". كتب قسطنطين كفافايس هذه القصيدة عام 1894، هو اليوناني المولود في الاسكندرية عام 1863 والمتوفى فيها عام 1933، لفت انتباه شعراء اليونان وأعلاماً زاروا الإسكندرية مثل إدوارد فوستر وأرنولد توينبي ود. ه. لورانس. وذاع صيته أكثر عندما أثبت لورانس داريل مقاطع من شعره في مطالع رواية"رباعية الإسكندرية". زوار الاسكندرية يريدون رؤية ماضيها من خلال آثاره الحاضرة، خصوصاً تلك الأبنية الفخمة المهملة في شارع فؤاد وفي المنشية ومتفرعاتها، وقع على بنائها مهندسون عالميون في أواخر القرن التاسع عشر ومطالع العشرين ويحتاج تجديدها الى موازنات مالية ضخمة من يتبرع لإنجاز هذا العمل المهم للحضارة المتوسطية والعربية والمصرية؟. يستخدم الزوار حاضر المدينة لرؤية ماضيها. روى لي المهندس إلياس بردويل حين التقيته عجوزاً في بيروت عام 1976، ان أحد أصدقائه أثناء فترة الفتوة في الاسكندرية غادرها الى باريس ليقضي خدمته العسكرية، فلما عاد استغرب كثرة عدد المصريين في المدينة، كأنهم"استغلوا"غيابه ليشغلوا مكانه، وروى أن كلام المارة في شارع فؤاد وحتى في الترام بلغات كثيرة ليست العربية غالبة عليها. السياح العرب، وليس الأجانب وحدهم، تعني لهم المدينة آثار شيء مضى وانقضى، تجذبهم أحياء كان يسكنها الأجانب، يقصدون بيت كفافيس المتفرع من شارع فؤاد شقة في بناية تحولت متحفاً لأثاث الشاعر ومقتنياته ومقهى"إيليت"الذي كان يرتاده، كما يزورون فندق سيسيل المذكور في رواية داريل، ويحارون في الموقف من الفندق الكبير المشيد في مكان"سان ستيفانو"حيث كان فندق صغير وحدائق واسعة شهدت احتفالات تبحث خيالاتها عن المكان فلا تجده. هنا عند هذه الزاوية كان إيليا أبو ماضي يبيع السجائر في دكان خاله ويصدر ديوانه الأول"تذكار الماضي"قبل أن يهاجر مرة ثانية وأخيرة الى نيويورك. وهنا كان يسكن فيلكس فارس المحامي والخطيب والمترجم الذي نقل مبكراً الى العربية كتاب فردريك نيتشه"هكذا تكلم زرادشت". وهنا الجدران العتيقة المتبقية من ميناء البصل حيث كانت بوصة القطن الوحيدة في العالم. وهنا أصدر آل تقلا"الأهرام"قبل أن ينقلوها الى القاهرة كما أصدر آل الشميل العائلتان من بلدة كفرشيما قرب بيروت"البصير"التي بقيت وفية لمنشئها الاسكندري. هنا... هنا... الى لا نهاية. أشباح أعلام مرّوا في المدينة أو سكنوا فيها. لكن المدينة اليوم هي أهلها المصريون، ومن بينهم كثيرون يريدونها متعددة الثقافات، علّ حلم المتوسطية يتحقق فترى التركي واليوناني والإيطالي والفرنسي والإسباني حاضرين في اللاذقية وبيروتوالاسكندرية وتونس والجزائر وطنجة، كما ترى السوري واللبنانيوالفلسطيني والمصري والليبي والتونسي والجزائري والمغربي حاضرين في أثينا وجنوى ومرسيليا وبرشلونة. الأربعاء 12/12/2007 : سميح القاسم الشاعر الفلسطيني سميح القاسم من عرب إسرائيل ولم يترك اشتهر عربياً وعالمياً منذ مطالع الستينات مع زميله الشاعر محمود درويش الذي ما لبث أن غادر إسرائيل. التقيته في الإسكندرية حاملاً عصاه يتوكأ عليها إذا لزم الأمر، يجد في العربية، وتحديداً العروبة، مرتكزاً لروحه ولإحساسه بضرورة البقاء في بلدته الرامة في جليل فلسطين. كانت"مواكب الشمس"الصادرة عام 1958 باكورة أعماله الشعرية التي تلاحقت. يقول إن ثلاثة طلاب من مدرسة كفرياسين ذوي ميول أدبية اتصلوا به فدعاهم الى بيت عائلته في الرامة واستضافهم، والثلاثة هم: سالم جبران من قرية البقيعة، ومحمود درويش الذي كان يعيش في قرية دير الأسد، ومحمد علي طه من قرية اسمها كابول، ومن ذلك الوقت تعمقت علاقته بهؤلاء الذين ما لبثوا أن احتلوا مكانة في الأدب الفلسطيني والعربي. سألت عن ظروف تلقيه اللغة العربية في مطلع الخمسينات حين كانت الإدارة الإسرائيلية في غاية قلقها وتعصبها، فقال انه ومجايلوه تعلموا النحو في كتابين:"النحو الواضح"لعلي الجارم ومصطفى أمين من مصر وكتاب الشرتوني من لبنان، وكانت مطالعاتهم في ما تبقى من كتب عربية في فلسطين بعد احتلالها، أما الإصدارات الجديدة فيتلقون بعضها بالبريد من أوروبا، وإذ يصل الكتاب ينسخونه باليد، ويتبادلون المنسوخ، هكذا قرأوا سعيد عقل ونزار قباني وغيرهما يشير الى تأثر محمود درويش المبكر بنزار. وسميح القاسم ابن المتنبي، متمسك بأصول الشعر العربي مع وعي بإيقاع الحاضر. لا ينسى نكبة فلسطين، كأنها حدثت للتوّ:"رأيت في طفولتي جنود جيش الإنقاذ يهربون ويتركون أهلنا وحدهم. جيش الإنقاذ اعتدى على طفولتي مثلما فعلت الحركة الصهيونية. وأنا المواطن في الجليل لن أطبّع مع إسرائيل حتى لو طبّع العرب كلهم، وبنفرتي من إسرائيل أريد توبيخ المؤسسة الرسمية العربية التي أهانت طفولتي" الخميس 13/12/ 2007 : "أمكنة" "أمكنة"هو عنوان كتاب غير دوري يصدره في الإسكندرية علاء خالد ومهاب نصر وسلوى رشاد. ظهر منه الى الآن ثمانية أعداد، وفي مادته تسجيل الأمكنة من خلال الذاكرة ووصف ما هو حاضر. وفي هذا التركيز إعلان انتماء ومحبة لوطن هو بشر وأرض وأبنية وأحلام ووعي بالماضي والحاضر واستشراف على قاعدة الثقة والأمل. هذا الوعي المتجسد في الملموس لا في المجرد يشكل في ما يشكل نوعاً من الرد على تجريد الفرد ليكون أداة أيديولوجية صماء بكماء وصدى لصوت واحد. من"أمكنة"? الكتاب الثامن هذه المقاطع من مقالة عصمت والي"حكايتي مع الصورة": "عدا سينما عباس التي تقع على كورنيش المينا الشرقية، ولم يعد لها وجود الآن وأغلب الظن أنها لم تكن سينما في الأصل، أقول ما عدا هذه السينما بالذات كانت باقي دور السينما تقع في محيط الحي الإفرنجي في المدينة بداية من المنشية حتى محطة الرمل، وكان الذهاب من منزلي في بحري الى ذلك الحي الراقي سياحة من عالم الى عالم آخر، كل شيء مختلف، الشارع مختلف، البيوت مختلفة، المحال مختلفة، حتى الناس مختلفة. لا تجد من يبيع الفلافل أو يلبس القفطان، أو يمشي حافياً. في تلك الأحياء تكثر عيادات الأطباء، محلات الملابس والأحذية الفاخرة، صالات عرض الأثاث، محلات الحلوى والفطائر، محلات شرب الشاي والقهوة، المكتبات ومحال الموسيقى أيضاً. وسط هذا الجو الإفرنجي توجد دور السينما التي هي قبلة الناس من كل حي وناحية، وما كان أجدرها بهذه التسمية: نظافة وفخامة وأناقة في المكان والأشخاص والسلوك، بحيث لا تجرؤ على الاقتراب إلا إذا كنت واثقاً من أن ما تلبسه وتحتذيه وما يحويه جيبك من نقود قادر على مواجهة هذا العالم الجديد... كانت سينما"رويال"تفوق جميع دور السينما الأخرى نظافة وأناقة وإدارة، ويعيبها فقط انزواؤها في شارع ضيق متفرع من شارع فؤاد. كانت على أعلى المستويات في إدارتها وكان كثير من موظفي الاستقبال من المتمصرين وكذلك فتيات قطع التذاكر. كان عالماً ساحراً حقا،ً بينه وبين أهلك وناسك ودارك وشارعك ومدرستك ما بين السماء والأرض. وحده الخيال هو الذي يصل السماء بالأرض. كانت اللغة الفرنسية لغة التواصل في هذا العالم السحري مما كان يصيبني بالقهر والشعور بالعجز عندما لا أفهم ما يقال. حتى موظفو الاستقبال كانوا يتكلمون الفرنسية:"Madame est servie"يقولها أحدهم، وهو في زيّه شبه العسكري، يقولها ببساطة متناهية لسيدة انيقة عندما يقدم إليها برنامج الحفلة بكل أدب وينحني لها محيياً. أعترف بأنني فشلت في اجتياز هذا الحاجز اللغوي بيني وبين تلك الكائنات الأسطورية التي تقوم على شؤون هذا العالم السحري. وكانت سينما رويال هي ما شاهدت فيها أول فيلم بالألوان"شبح الأوبرا"The Phantom of the Opera في أوائل الأربعينات، وكذلك ملحمة كلارك غيبل"ذهب مع الريح".