الاثنين 10/8/2009: كزهر اللوز أوراق لمحمود درويش وعنه في قاعة مكتبة الإسكندرية، انفرط عقد المتحدثين والمستمعين وبقي شيء من الشاعر وشعره عند هذا الشاطئ التاريخي المتجدد. تعددت أمكنة الاحتفال بمرور سنة على غياب محمود درويش، في العالم العربي وخارجه، وتبقى «ولكن»، لأن عاماً كاملاً على الرحيل لم يتح للفلسطينيين الاهتمام بشاعرهم. كانت الصراعات تبتلع معالم الروح الفلسطينية ومنها محمود درويش، صراعات يفرضها الطريق المسدود، وكذلك نمط نضال ونمط سلطة يترديان إلى وهدة الفساد والتعصب والاستيلاء على أقدار المواطن الفلسطيني. المصريون احتفلوا بشاعر استضافوه كاتباً في «الأهرام» فور مغادرته إسرائيل، وأدخلوه النادي الأرفع لكتابهم لأنه يستحق، وفي القاهرة تهيأ محمود درويش لانطلاقته العربية والعالمية التي انتهت به في تراب رام الله غير البعيد عن مكان ولادته قرية البروة. مريد البرغوثي الشاعر، صديق الراحل وقريب همه وحلمه ووهمه ونبله وحماسته، أرسل إلى المجتمعين في الإسكندرية قصيدة طويلة. استمرار حضور محمود درويش، يبدو ضرورياً، من أجل الحضارة العربية وشعرها، ومن أجل فلسطين قضية ورمزاً. لذلك تشخص العيون من الآن إلى أرقام بيع دواوينه في لغتها الأصلية وفي ترجماتها، وكذلك إلى حضور شخصه وشعره في المجالات السمعية والبصرية والإلكترونية. عندنا ثقة باستمرار الحضور، مع شيء من التوجس لا ندري من أين يأتي. الثلثاء 11/8/2009: الإسكندرية رعشة البحر ورعشة المتنزهين على كورنيش الإسكندرية. ليس لهذا المكان مثيل في استقبال وجوه ولغات ومبدعين ولدوا هنا أو عاشوا فصولاً من أعمارهم ثم هاجروا (أو عادوا)، اسألوا أريك هوبزباوم فيلسوف التاريخ، ابن الحضارة الأوروبية الناهضة قبل أن يرجّها زلزالا الحربين العالميتين. إنه الآن عجوز في وطنه بريطانيا، يرى في كل صبيحة طفولته الإسكندرانية. كل سنة تشهد أوروبا ولادة كتاب أو فيلم أو قطعة موسيقية عن الإسكندرية، إلى درجة أن هذه المدينة المصرية تبدو أكثر حضوراً في الذاكرة الإبداعية اليونانية والألمانية والفرنسية والبريطانية من كثير من مدن أوروبا. لا شيء يذكر بزهو الماضي سوى أبنية قليلة ومطاعم، لكن البحر وهواءه الخاص لم ولن يتغيرا. يأتي أوروبيون بكثرة إلى المدينة، يبحثون عنها فلا يجدونها سوى في إطار لا في بشر، لذلك يستحضرون من خيالهم بشراً ويضعونهم في إطار المدينة ليكتمل المشهد. الإسكندرية تكبر فتكاد تملأ البرزخ بين بحر الماء وبحر الصحراء، من «سيدي بشر» إلى برج العرب، وربما يملأ العمران ضفاف الطريق الصحراوي الموصل إلى القاهرة. وماضي المدينة لا شهود له سوى كتابات وصور ولوحات رحلت مع أصحابها إلى أوروبا وأميركا، أما نحن العرب فبلا شهود: من يعرف مكان الدكان التي باع فيها إيليا أبو ماضي التبغ والتنباك ونشر ديوانه الأول «تذكار الماضي» في الإسكندرية قبل أن يهاجر إلى نيويورك؟ لا نسجل خطانا على ورق لذلك تمحو آثارها الرياح. يبقى لنا الحاضر كله، ولو كنت اسكندرانياً لسئمت من أسئلة الأجانب عن ماضي مدينتي كأن عيونهم تريد الغاء الحاضر، لذلك قابلت كاتب القصة الشاب وسيم المغربي، ابن حي «بحري» الشعبي في المدينة حيث السكان يعتبرون أنفسهم الإسكندرانيين الأصليين. أسس مع صحب له جماعة أدبية تهتم بالقصة وتصدر نشرة غير دورية، ويرى أن المدينة تتخطى هامشيتها تجاه المركز (القاهرة) عبر المواقع الإلكترونية وعبر هيئات ثقافية نشطة مثل مركز الإبداع، ومؤسسة «جدران» المهتمة بالتواصل مع فناني أوروبا والتي أسست مركزاً في حي الماكس الشعبي لتحفيز الإبداع ومركزاً آخر اسمه «الدكان» يعرض أفلاماً وأعمالاً موسيقية ويقدم قراءات أدبية، و «المركز الثقافي الفرنسي» الذي ينظم نشاطات موسيقية ومسرحية وسينمائية ويرعى ورشاً للسينما المستقلة تصدر حوالى 35 فيلماً في السنة. ويرى وسيم المغربي أن «مكتبة الإسكندرية» والمؤسسة الثقافية الأضخم، كانت علاقتها بمثقفي المدينة باهته، لكنها تتطور الآن بتسارع وثقة. هذا الكاتب الشاب يشبه كثيرين من كتاب الولاياتالمتحدة، تحديداً في النشأة، فهو تخرج جامعياً في مادة التربية الرياضية ويعمل محاسباً في شركة لإنتاج الثياب، ويكتب في أوقات فراغه: «الكتابة تحتاج إلى وقت ومال ومثابرة. أثناء توقيع كتابي وجدت صعوبة في الحصول على اجازة من عملي». كتاّب الولاياتالمتحدة من أمثال وسيم المغربي يتفرغون للكتابة حين تنجح أعمالهم في الوصول إلى القراء. أما وسيم فسيبقى يعمل ويكتب مثل نظرائه الكتاب العرب، فحتى نجيب محفوظ لم يستطع العيش من مردود بيع مؤلفاته. الأربعاء 12/8/2009: عمامة ونيشان مما كتب أحمد عبد المعطي حجازي في «الأهرام» اليوم منسجماً مع فؤاد زكريا: «من الطبيعي أن يكون موقف فؤاد زكريا مما يسمى بالصحوة الإسلامية هو موقفه مما يسمى بثورة يوليو، فالصحوة والثورة المزعومتان وجهان لحركة واحدة، يتوهم أصحابها أنهم يتحركون باسم إرادة لا تقهر، وأنهم يجسدونها وينفذون مشيئتها. أصحاب الصحوة يزعمون أنهم مبعوثو العناية الإلهية، وأنهم المسلمون بحق، وسواهم زنادقة، وهم وحدهم الصاحون، وغيرهم نيام، وأن هذه العصور الحديثة كفر وجاهلية، وأن الإسلام سيظهر على أيديهم من جديد، تماما كما زعم أصحاب الثورة أنهم وحدهم المعبرون عن الشعب الذي جعلوه شعاراً مجرداً منقطع الصلة بأصله الحي، أي بالمصريين كما نراهم ونعرفهم في واقع الحياة بأجسادهم وأرواحهم، وأفكارهم ومشاعرهم، وحاجاتهم ومطالبهم، وحقهم في الحياة الآمنة الكريمة، وحقهم في الحرية، وحقهم في أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم». ينبه الشاعر حجازي في كلامه إلى التكامل بين الإسلام السياسي والعسكري السياسي، ويرى أن صراعهما أشبه بحرب الأخوين الشقيقين على تركة غير شرعية هي الوطن شعباً وأرضاً. فكأنه يدعو إلى عدم التفريق بين العمامة وقبعة الضابط، فهما يأتيان المواطن من نقاط ضعفه: الانتماء الديني، بحيث لا فرق بين حكم العسكر وما يخطط الإسلاميون على ورق. بل هناك اختلاط في النشأة بين قياديي الجماعتين، فلم يكن عبد الناصر وصحبه في مصر بعيدين عن حسن البنا، كما أن جماعة النظام الخاص للإخوان لم تكن آلية عملهم غريبة عن آلية عمل أجهزة الثورة. وخارج مصر لا يبدو الأمر مختلفاً، خصوصاً في الجزائر، وفي العراق (في السنوات الخمس الأخيرة من حكم الرئيس الراحل صدام حسين) وفي اليمن الذي تظهر سعادته وتتكشف يوماً بعد يوم. العسكر والإسلام السياسي يتكاملون لا يتحاربون، والمواطنون الضحايا ليس من يعبر عنهم. الخميس 13/8/2009: أحمد الشهاوي مُنعت الموالد في مصر هذه السنة «حذراً من انتشار أنفلونزا الخنازير»، فأقمت مولداً حول ديوان أحمد الشهاوي الجديد «باب واحد ومنازل». ومما قرأت: «كان يأكل النار في قريتي رجل غريب حلّ في صمت / وفي سمت لشيخ الوقت. / سألت عن أحواله فقيل: / أكلته نار الحب، فقرر أن يبادل النار بالنار». الجمعة 14/8/2009: الجزر الهائمة شكوت لصديقي المصري الانقسامات الطائفية في لبنان وتعريضها إياه لخطر دائم لأن تلعب دائماً على حافة الهاوية. قال صديقي إنه يعجز عن فهم إعجابي بالاستقرار في بلده، استقرار يسميه ركوداً لأنه فاقد الحيوية الداخلية. واسترسل متحدثاً عن «فضائل» ديموقراطية الطوائف وحيوتها الفائضة على اللبنانيين جميعاً، وأنها أيضاً مبعث إعجاب المواطنين العرب في أقطارهم كافة. لم يقنعني ولم أقنعه، هذا المعجب بما أشكو منه فيما يعجبني موضوع شكواه، لذلك حولنا الحديث وجهة أخرى. حين افترقنا تذكرت رواية «الطوف الحجري للبرتغالي جوزيه ساراماغو، وتخيلت فكرة الرواية وقد طبقت في لبنان: ما تبقى من كلاب في قرى لبنان تنبح من دون توقف فلا ينفع سوى الرصاص الذي لا يسكتها كلها، وقادة طائفيون يرمي كل من منطقته حجراً في مياه المتوسط، ومثقف هامشي تتبعه الطيور أنّى يتوجه، وأرامل قتلى الحروب يرسمن بأغصان الشجر خطوطاً على التراب. بعد النذير، تسمع أصوات عالية لارتجاجات أرضية وشروخ، وتنفصل الأرض اللبنانية عن محيطها، تصير اسرائيل جارة بحرية لسورية، لكن الأرض التي تبحر بلا وجهة ما تلبث أن تنشرخ وتنقسم طائفياً. يحاول كل جزء الاتحاد بدولة في المتوسط لكن الدول كلها ترفض إضافة أرض جديدة بائسة. تهيم الطوائف وأرضها في بحر الحضارات، تهرب منها السفن ويدب الذعر في السمك وسائر الكائنات البحرية. يصرخ الطائفيون فوق جزرهم المتحركة طالبين النجدة، ليقوم المجتمع الدولي بلملمة الأراضي التائهة بسكانها، ويرتقها ويعيدها إلى مكانها الأصلي، هكذا لتواصل سيرتها الأولى وإلى الأبد.