نتج تعبير حوض المتوسط أو المتوسطية، كما هو معروف، من وجود كيانات سكانية ذات تفاعل وتأثير في ما بينها طويل الأمد حول البحر الأبيض في ما يشبه الحركة البندولية. ويعتبر تاريخ المتوسط أطول تاريخ "متصل وموثّق" عرفته البشرية، وهو ما صنع من تاريخ حضارات المتوسط اكبر جزء متماسك في ذاكرة البشرية ومكتبتها، والامتداد الاكثر رسوخاً في خبرة الحضارة المعاصرة "الاوروبية". ويمكننا القول من دون مبالغة كبيرة، إن تاريخ المتوسط سار كتفاً بكتف مع زمن البشرية وأنهما انطلقا متلازمين. وكل ذلك يمكننا من النظر الى المتوسط كوحدة ثقافية ديموغرافية. وإذا كانت البشرية تختلط وتتداخل عرقياً وثقافياً على المستوى الفردي والجماعي على حد سواء، بوسائل متعددة طبيعية ومصطنعة وسلاماً وعداءً، فإن المتوسط هو أكبر وعاء سكاني شهد ذلك التداخل، ولا يجب أن يؤخذ ذلك على محمل انني اسوق تصنيفاً بين "الغزو الطيب" و"الغزو الشرير" لكننا نتعامل مع نتائج اجتماعية وثقافية لعمليات الاختلاط والتداخل مع محاولة البقاء داخل حدود الموضوعية. لا شك ان تعبيرات مثل ثقافة وسوسيولوجيا وانثروبولوجيا، تبدو كأنها تخلقت في المتوسط ومن اجله، ولأنه بهذه الصفات احتلّ قلب العالم القديم بحق، فإنه في اعتقادي قدم مفهوماً جدلياً هو "الساحل والداخل"، وتتنوع الثنائيات حول هذا المفهوم بلا نهاية مثل الدولة البرية والبحرية، ودولة الميناء والحصن، والانفتاح والانغلاق والامتزاج والنقاء، والتعددية والواحدية، والهجرة والاستقرار، الثقافة المتجددة والضامرة، واللغة الحية والمنقرضة. اعرف ان ذلك يثير مشاكل مفاهيمية لا تنتهي ايضاً، لذا سنتوقف عند تحليل الثنائية الجدلية الاساسية وتقديم تطبيقات لها وهي ثنائية الساحل والداخل. عندما دعا كامبل بنرمان رئيس الوزراء البريطاني الى مؤتمر في سنة 1905 للبحث في سبب نهاية الحضارات والامبراطوريات بمشاركة 50 باحثاً خلص إلى أنها تنتهي في شرق المتوسط، ومن المؤكد أن ذلك ربما يكون صحيحاً قبل اختراع الطيران والصواريخ العابرة قارات وتكنولوجيا واقتصاديات الفضاء، غير أن الاهمية تكمن في انه حاول استكشاف الرابطة الجدلية بين الجغرافيا الثابتة والمتغيرة التي هي البشر والثقافة والطاقة والتاريخ والهويات. لقد كان السؤال واجابته متوسطيين، دفعت اليهما ثقافة وشخصية الجزيرة البريطانية ذات الهاجس المتوسطي، او ما وراء الماء، انها ثنائية الساحل والداخل، وبعدها بسنوات طويلة قال "تشرشل: "المتوسط هو بطن اوروبا الطري". لا توفر لنا الجغرافيا الثابتة "المكانية" مقياساً لعمق الساحل والداخل، ولا وسيلة تحدد أين يبدأ وينتهي كل منهما، ذلك لأن العمق في كل منها وكذلك الحدود بينهما متغيرة ودائمة الحركة، ومن المنطقي ان يطغى احدهما احياناً على الآخر فيتلاشى. عندما رحل بنو أمية الى دمشق، كان ذلك نتيجة صراع قبلي، تحول فيه الإسلام من معتقد إيماني إلي ايديولوجيا ولذلك حسم الصراع لغير مصلحتهم، وهكذا تركوا الداخل بصراعاته القبلية الايديولوجية الى الساحل، حيث الخبرة الحضارية وحيث اختلطوا بالأجناس الاخرى، وتمكنوا من تجاوز طور العقل الديني هو شيء مختلف عن المعتقد الإيماني ومن قبله طور العقل الاسطوري الى طور الفلسفة، وهكذا تمكنوا من تأسيس أول دولة عربية ووضعوا أسس الحضارة العربية، مستفيدين من الفراغ الناشئ عن ضعف الدولة البيزنطية بعد صراعها المنهك والطويل مع الفرس. وفي البداية قاموا، مثلما الطيور والنحل عندما تنقل حبوب اللقاح، بنقل خبرات اليونان والرومان والتخوم مثل بلاد فارس، الى الاندلس وشمال افريقيا، وهناك اخذ الفقه منحنى مرناً وأفسح المجال للفلسفة والمحاورات، وقام المترجمون اليهود بنقل الفلسفة والعلوم والآداب اليونانية والرومانية والمؤلفات العربية للفارابي وابن سينا وابن رشد وابن طفيل وابن حزم وابن خلدون الى العبرية واللاتينية. وهكذا حافظوا على ما احرق منها في اللغة الاصلية او فُقد، وتحولت الى هجوم معرفي وعقلاني على الفكر الكاثوليكي المحافظ ومهّدت بالتالي لعصر النهضة. شكل الفاطميون حالة متوسطية معاكسة تماماً للدولة الاموية، فقد حملت دولتهم مؤثرات وثقافة الاندلس المتوسطية عندما اقاموا عاصمتها "المهدية" الساحلية في تونس حالياً وحملت ايضاً ميولاً صوفية متسامحة، غير أنها في رحلتها الى مصر غلبت عليها مكوناتها المذهبية وذهنيتها البرية، فأدارت ظهرها للمتوسط وأقامت المدينة - الحصن أي القاهرة داخل الاسوار وداخلها مقرها الايديولوجي الأزهر - وانخرطت في صراع مذهبي مع المحيط السني في الشام والجزيرة العربية، وتورطت ايضاً في صراع ديني مع المسيحيين وهدمت كنيسة القيامة في القدس، وأقامت تحالفات مذهبية مع القرامطة. وعلى رغم الثقافة الاجتماعية ذات الجذور الأندلسية، إلا انها تحولت الى دولة إقطاع عسكري مذهبي، الى ان نخرها الأيوبيون بالوسائل المذهبية نفسها حتى انهارت، فانقضوا عليها كي يقيموا دولة إقطاع عسكري مذهبي أخرى. هنا يتوفر لدينا بعض جوانب المقارنة بين دولة الداخل البرية التي تحول البحر إلى وسيلة للدفاع، وحيث الزمن ابطأ، وبعد أن تبدأ كغزو بري يتحول إلى استيطان عقائدي مسلح، وسرعان ما يتحول إلى اقطاع عسكري ديني يزدهر في الوديان الزراعية ويقيم دولة مركزية بالضرورة، ويتمرس داخل المدينة / الحصن التي تحوي المقر الايديولوجي المعبد / الكنيسة / المسجد... وتسود الوحدانية في كل جوانب الحياة وتضيق الفرص أمام الاقليات ويتم تحكيم السماء لأسباب سياسية. وفي مواجهة ذلك تقوم دولة الساحل ذات الخبرات المتعددة والتي تعتمد على التجارة والطرق والمدن والموانئ، حيث يتحول البحر إلى وسيلة اتصال، وتقوم السفن بتوصيل السلع والثقافات والهجرات، حاملة سلعاً وثقافات وهجرات أخرى، وحيث الزمن أسرع، وتعتمد أيضاً على البحر في الانتشار وفي مواجهة خصومها، إذ أن من يأتي من البحر يختار المكان والتوقيت واسلوب المناورة، لكن كل تلك الاعتبارات تساهم في أن تصبح عمرها قصيراً نسبياً نتيجة الانتشار السريع ونقل خبراتها إلى أماكن متعددة فيزداد التنافس داخلها. فبينما كانت القومية الارثوذكسية الروسية تنحسر لمصلحة ايديولوجية شمولية أخرى عاتية، كان داخل أوروبا يعاد ترتيبه بعد الحروب الدينية والمذهبية لمصلحة القوميات العرقية، الأكثر ضراوة، في الوقت نفسه جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر حاملة معها فكرة الدولة / الأمة، وذهنية الثورة الفرنسية عن المساواة والعقلانية، وساهمت في خمود آخر انفاس الدولة المملوكية - العثمانية، وكانت السبب في تعرف مصر على ذاتها الحضارية فك أسرار اللغات القديمة على حجر رشيد وعلّمت المصريين معنى الدولة المدنية، ووضع علماؤها أول انسكولوبيديا عن مصر كتاب "وصف مصر"، زحفت الروح القديمة المتطرفة من التخوم والداخل حتى غطت المتوسط تقريباً، باستثناء مصر حتى 1952، وفرنسا سقطت بين براثن النازية في الحرب العالمية الثانية. وتدخلت بريطانيا معها والعالم الجديد كندا والولايات المتحدة لتحرير شمال المتوسط، وضعفت حيوية المتوسط نتيجة أنه اصبح قسمين: نصف شمالي مزدهر ومضيء ومرفأ للتعددية والحيوية الثقافية، والنصف الجنوبي شبه مظلم، تحكمه ايديولوجيات الماضي وثقافة الكراهية ونظم الاستبداد، والصراعات القومية والاصوليات وعلى رأسها الصراع العربي - الإسرائيلي، وما زالت تحكمه مرحلة التحرر الوطني ذات النتائج التعسة والأوضاع الناتجة عن الحرب الباردة. كل ذلك هو اسئلة لا اجابات، وفي اعتقادي أن التطور العالمي تجاه هوية السوق والعولمة وحرية المعلومات وموت الايديولوجيا وتحول المعرفة إلى سلعة وبروز دور مؤسسات المجتمع المدني العالمي، والسلام بين العرب وإسرائيل، والتحول إلى الدولة المدنية. كل ذلك يمكن أن يسهم في عودة الحيوية إلى وحدة المتوسط، خصوصاً أن ذلك لا يحدث للمرة الأولى، إذ أن سيطرة البربرية العثمانية في الشرق وسيطرة التزمت الكاثوليكي وإرهاب محاكم التفتيش في غرب المتوسط في القرن السادس عشر ولما يزيد على قرنين، صنعت حقبة أكثر ظلاماً، يومها كان صعود الامبراطورية البريطانية المدنية على حساب ذلك الاستقطاب العقائدي، مساعداً على صعود دور الدولة / الأمة في فرنسا، إنها الحركة البندولية ثانية. يبقى كل ما مضى مجرد محاولة نظرية للتفسير، ولكن الاسكندرية تقدم حالة مثالية - في اعتقادي - لتطبيق تلك المحاولة. طوال تاريخ الدولة المصرية القديمة كانت العاصمة تتغير ما بين مصر الوسطى ومصر العليا، وبناء على تغير الأسرة الحاكمة والدين الذي تؤمن به، عندما غزا اليونانيون مصر انشأوا الاسكندرية وسموها باسم قائدهم "الأسكندر الأكبر"، وتوج الكهنة المصريون الأسكندر حاكماً بعد اعتناقه دينهم في أحد معابد "آمون" في الصحراء الغربية، وذلك يؤكد عدم وجود ايديولوجيا لدى الغازي الجديد. وأقام البطالمة أكبر معاهد الفلسفة الهلينية في الأسكندرية والحقوا به مكتبة ضخمة، غير المكتبة العامة الكبرى، ومنارة ضخمة للميناء. وكانت المنارة والمكتبة العامة من المعجزات المعمارية، وقدم الدارسون من كل الأجناس لدراسة الرياضيات والفلسفة وأصبحت الأسكندرية أيضاً عاصمة العلم والتجارة في المتوسط، وهكذا صارت مدينة متوسطية في مصر ومدينة مصرية في المتوسط. عندما دخل الرومان إلى مصر، كانت تحكمها دولة البطالمة، وتركوا كل المؤسسات العلمية والتجارية اليونانية تعمل كما هي واضافوا بصماتهم من محاكم وقوانين وملاعب واسواق ومخازن للغلال وساحات للتمثيل والمساجلات الفكرية والسياسية والفنية، ومجالس للبلديات، ونظموا الريّ، وظلت الأسكندرية عاصمة مصر، وظلت تقوم بدورها التجاري والثقافي، وبينما كانت الأمبراطورية الرومانية تلفظ أنفساها اعتنقت المسيحية وبدأ عصر آخر بنهايتها على يد قبائل الداخل الجرمانية. وعلى رغم أن الامبراطورية الرومانيةالشرقية ورثت الكثير عن الامبراطورية الرومانية واليونان، لكن أبرز ما ورثته كان الايديولوجيا المسيحية، وبدأ عصر من الحروب الدينية لغرض ايديولوجية الدولة، وتثبيت تحولها الى الإقطاع العسكري. هكذا بدأ دور الاسكندرية في الضمور، ولكن بداية النهاية كانت عندما قام شنودة رئيس المتوحدين في الكنيسة بقيادة جماهير الغوغاء باحراق معهد الفلسفة الهلينية ومكتبته، واختطف هؤلاء هيباتيا أبرز علماء الفلسفة والرياضيات آنذاك وسحلوها في الشارع ثم ذبحوها وقطعوها أرباً، وقام ثاءوفيلس القديس في ما بعد زعيم ما سمي بثورة الفلاحين بتدمير عدد كبير من التماثيل والأسوار والقصور ودور العلم. وهكذا بدأ الإنغلاق والإنكفاء والتمترس في الداخل، وتحولت الاسكندرية إلى مقر سياسي لاهوتي، وبدأ عصر من الإقطاع العسكري المذهبي يعتمد في سيطرته على الحصن - الكنيسة حصن بابليون في حي مصر القديمة في القاهرة حالياً كمثال آخر. عندما غزت القبائل العربية مصر بقيادة عمرو بن العاص بدأ عصر آخر من الاستيطان العقائدي المسلح سرعان ما تحول إلى إقطاع عسكري ديني يعتمد على الحصن / المسجد الفسطاط - القطائع - قلعة صلاح الدين، ومن الطبيعي أن يتلاشى دور الاسكندرية ويصبح البحر وسيلة انقطاع. عادت الحيوية الى الاسكندرية بعد الحملة الفرنسية وازدهار دولة محمد علي وأصبح فيها العديد من القنصليات الأوروبية، وبقي فيها بعض الفرنسيين الذين جاءوا مع الحملة وأصبحوا مستشارين في مجالات الصناعات الجديدة، بالإضافة إلى بعض الاشتراكيين وبينهم بعض اليهود من أنصار سان سيمون الذين اضافوا تصوراتهم الى تنظيم الملكية الزراعية ونظموا الري وتخطيط المدن وعمليات الميناء وإصلاح وبناء السفن. وبدأ ظهور الجاليات الأخرى من اليونانيين والايطاليين والقبارصة والمالطيين وأبناء بر الشام، بالإضافة إلى الاتراك الموجودين أصلاً. ومع تزايد نشاط الصيرفة والوكالات الملاحية والشحن والتأمين البحري وصناعات الغزل والنسيج بعد زراعة القطن تم إنشاء الخط الحديدي الذي يربط الاسكندرية بالقاهرة في عصر الخديوي سعيد وظهرت صناعة الخمور والكبريت والدخان والأثاث والجلود. ومع تزايد الاضطهاد للأقليات في الدولة العثمانية نتيجة الحروب والهزائم وزيادة الضرائب، استقبلت الأسكندرية اليهود والمسيحيين من المذاهب كافة من البلقان وبر الشام، وخلال الحرب الثانية وسقوط فرنسا تحت حكم فيشي استقبلت اليهود من الجزائر وتونس وأسبانيا وسورية، وبعد التطهير العرقي الذي حدث للأرمن سنة 1915 استقبلت أعداداً كبيرة منهم في كل أنحاء مصر. وهكذا عادت الأسكندرية مدينة متوسطية بحق، إلا أن ازدهارها الأكبر حدث مع صعود القضية الوطنية والاستقلال بعد فك الارتباط مع الدولة العثمانية 1914، وبداية تأسيس الدولة المصرية الحديثة الثانية 1919 - 1952 ذات النظام الليبرالي الدستوري بعد وضع الدستور سنة 1923، ومع اتفاقية الاستقلال سنة 1936، في تلك الفترة ومع بدء المشروع الرأسمالي تحولت الجاليات من المتمصرين إلى أول فتائل الطبقة الوسطى المصرية، وتتالت عليها الفتائل من أهل المدن وخريجي المدارس العليا، وموظفي الدولة، وقام إسماعيل صدقي باشا بإنشاء كورنيش الأسكندرية 1930، وهو ما جعلها مدينة ساحلية بامتياز، إذ اصبحت عبارة عن امتداد طويل يصل إلى 25 كم تقريباً من دون الاطراف، وبعمق خمسة كيلو مترات في البداية. وإذا كانت اليونان هي أول بلد عرف الدورات الأولمبية، فقد بدأ المصري محمد طاهر باشا فكرة دورة المتوسط الرياضية، وهي تلك التي اقيمت في الاسكندرية سنة 1950. ثم انشئ عدد من النوادي الاجتماعية والرياضية في مدن مصر ومن بينها سلسلة نوادي "المكابي" اليهودية والتي كان عددها الأكبر في الاسكندرية. كان الانتماء الثقافي البارز المرافق لمشروع الدولة الليبرالية هو ثقافة المتوسط، وهنا يجب أن نذكر أن كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" لطه حسين وهو عبارة عن برنامج تعليمي وتربوي وضع كتقرير بعد معاهدة الاستقلال سنة 1936، وردت فيه عبارة بليغة "إن مصر كانت يونانية مثلما اليونان كانت مصرية". وفي مدرسة "فيكتوريا" في الأسكندرية التي ساهم في إنشائها جاك ليفي منشه، تعلم الأمير حسين ملك الأردن في ما بعد والأمير قسطنطين ولي عهد اليونان وشقيقته الأميرة صوفيا ملكة أسبانيا حالياً، والنجم السينمائي المصري عمر الشريف، ولجأ إلى الأسكندرية الملك زوغو، ملك البانيا بعد الانقلاب عليه، كما لجأ اليها أيضاً بعض امراء واميرات العائلة القيصرية الروسية بعد ثورة 1917. ويؤسس المفكر حسين فوزي للانتماء المتوسطي لمصر في كتاب "سندباد مصري" وتقوم الأسكندرية بدور بارز في روايتي "ميرامار" و"السمان والخريف" لنجيب محفوظ، وتفصح غالبية أعمال الروائي إدوار خراط بهوى متوسطي قوي، والشيء نفسه موجود في لوحات محمود سعيد والأخوين سيف وأدهم وانلي، وثلاثتهم من أشهر الفنانين التشكيليين المصريين. كما أن الأسكندرية هي محور أعمال أدبية شهيرة مثل "رباعية الأسكندرية" للروائي لورانس دارييل و"الخروج من مصر" Out of Egypt للأديب أندريه اسيمان، المصري اليهودي الذي يُدّرس الأدب الفرنسي في اميركا الآن. ومن الأعمال الحديثة "طيور العنبر" للروائي المصري إبراهيم عبد المجيد، وأفلام "اسكندرية ليه"، "اسكندرية كمان وكمان" و"حدوتة مصرية" للمخرج المصري يوسف شاهين. وتروي الأسماء المستعملة في الأسكندرية حتى الآن قصتها المتوسطية والأوروبية مثل أحياء "لوران" و"سبورتنغ" و"ستانلي" و"ميامي" و"بولكلي" و"سان استيفانو" و"زيزينيا" و"سموحة" و"زنانيري" و"كليوباترا" ومصانع خمور "جاناكليس" و"زوتوس" و"بولانكي" ومصانع ومحلات الحلويات "ديليس" و"نادلر" و"بدرو" و"ايكا" ومطاعم "اتينيوس" و"سيغال" و"سانت لوتشيا" و"بنيامين" محمد أحمد حالياً و"كاليتيا" و"التريانون". ومما يضيف إلى تلك الصورة هو أن المجلس البلدي في الأسكندرية كان يتم تشكيله بالانتخاب، وكان مسموحاً أن يترشح له أجانب إلى جوار المتمصرين والمصريين، وكان عددهم 15 عضواً وكانت سلطاته واسعة على نحو مدهش، إلا أن ذلك تلاشى بعد الإنقلاب العسكري سنة 1952. من المفيد أن نذكر أن التركيب الاجتماعي للأسكندرية كان طبيعياً، أي أن الاختلاط بين كل الأجناس والديانات في كل الأحياء وبحسب الانتماء الطبقي، بعكس التركيب في بورسعيد والاسماعيلية حيث غلب عليها الطابع الكولونيالي والتقسيم إلى حي افرنجي للأجانب وحي عربي للمصريين نتيجة إنشاء شركة قناة السويس لهما. في شهور الصيف الأربعة كانت الأسكندرية هي العاصمة الرسمية ومقر الحكومة والملك، وكان للملك يخت اسمه "المحروسة" أحد أسماء مصر يطوف به على الأملاك والمؤسسات المصرية في دول متوسطية عدة، مثل الاكاديمية الفنية المصرية في روما فيلا بورغيزي والمعهد المصري للدراسات العربية في مدريد، والكلية الحربية المصرية في اثينا، والأوقاف المصرية في تركيا واليونان وقبرص، وتوقف ذلك بعد 1954، إذ اصبحت القاهرة العاصمة الوحيدة، ونخر الصدأ يخت "المحروسة" بعد أن تغير اسمه إلى "الحرية". تعرض اليهود لتفجيرات عدة بعد حرب 1948 قامت بها الجماعات الفاشية مثل "الإخوان المسلمين" و"مصر الفتاة"، لكنها امتدت إلى جاليات المتمصرين والمسيحيين المصريين بعد ذلك، ثم أصبح التهجير سياسة شبه رسمية بعد 1952، وهكذا رحل عن مصر قرابة 5،2 مليون من المتمصرين والمصريين من مختلف الجنسيات، وكان نصيب الأسكندرية من سياسات التهجير كبيراً، بعد أن توالت على مصر في ظل جمهورية تموز يوليو العسكرية ثلاث ايديولوجيات دينية وقومية عربية واشتراكية: إنها بالتأكيد جمهورية "داخل" أخرى. للمجتمعات انتماءات عدة تتنوع بين ما هو إكراهي موروث أو مفروض وبين ما هو اختياري مدني، لكن الأساس في تحديد الانتماء الثقافي الاجتماعي تحدده العلاقة مع التقدم والحرية. واعتقد أن الانتماء إلى المتوسط في الماضي كان مفيداً في معظم الأحيان، لكنه الآن أكثر ضرورة. * كاتب مصري.