فارس واحد من الرعيل الأخير للبنانيين المتمصّرين الذين عاد قليلون منهم إلى وطن الآباء والأجداد، ورحل الأكثرون، عقب قرارات التمصير ثم قرارات التأميم، إلى فرنسا والولايات المتحدة وكندا، لكن مصر تضم، إلى الآن، عائلات من أصول لبنانية ذابت في المجتمع هناك أو تكاد. كانت الإسكندرية حيث ولد فارس يواكيم مدينة كوسموبوليتية بامتياز أقامت فيها أجيال من الأوروبيين والإيطاليين والنمساويين والفرنسيين، ومن «الشوام» الذين يقصد بهم غالبية لبنانية وأقلية سورية وفلسطينية. وكانت تحيط بوسط المدينة البحرية أحياء يسكنها المصريون أهل البلد الذين لم يتفاعلوا مع الإسكندرية الحديثة إلاّ قليلاً. ويمكن اعتبار اللبنانيين آنذاك جسراً بين المصريين والأجانب المقيمين، وقد أهّلهم لهذا الدور إتقانهم العربية الفصحى والعامية المصرية من جهة واللغات الأجنبية، خصوصاً الفرنسية والإيطالية، من جهة أخرى. وتجمع الدراسات على أنهم شكلوا كتلة اجتماعية واقتصادية وثقافية وازنة في الإسكندريةوالقاهرة، وقد بلغ عددهم آنذاك حوالى مئة ألف. الإسكندرية شبيهة بيروت، وقد سبقتها في التعددية الثقافية التي سرعان ما انتقلت إلى العاصمة اللبنانية مودّعة الإسكندرية بعدما غربت شمسها في عهد جمال عبدالناصر ورفاقه الذين رأوا تناقضاً بين التمصير كتعبير عن الوطنية الصاعدة وبين الجاليات ذات الأصول الأجنبية كتعبير عن التعدد الثقافي في مدينة منفتحة على مثيلاتها في حوض البحر المتوسط. ولا حاجة إلى القول إن لبنانييالإسكندرية قدّموا واستضافوا نخباً من المناضلين لإنجاز الكيان السياسي اللبناني وفي مقدّم هؤلاء يوسف السودا وإميل إده. ونذكر أن سياسيين لمعوا في لبنان هم من مواليد مصر كالعميد ريمون إده المولود في الإسكندرية والشيخ بيار الجميل المولود في المنصورة. لكن معظم اللبنانيين المتمصّرين هم من الطبقة المتوسطة، ولكونهم تلقوا تعليماً حديثاً فقد شغلوا وظائف في القطاعين العام والخاص تفترض الإلمام بلغات أجنبية، ومعرفة أصول التخاطب والتعاون مع الخبراء الأجانب الحاضرين بكثرة في مصر الليبرالية. ما سبق إشارة موجزة إلى الخلفية الاجتماعية والثقافية لفارس يواكيم المولود عام 1945 في قلب الإسكندرية في مبنى يملكه الكونت دبانة قنصل البرازيل الفخري ذو الأصول الصيداوية، غير بعيد عن أوتيل سيسيل. ذلك المكان اختاره لورنس داريل مسرحاً لأحداث روايته «رباعية الإسكندرية»: جوستين، بالثازار، مونت أوليف، كليا. عاش فارس في مسقط رأسه الإسكندرية 17 سنة متواصلة قبل أن ينتقل إلى القاهرة حيث التحق بالمعهد العالي للسينما وتخرّج الأول على دفعته عام 1966. في الإسكندرية تكوينه الثقافي الأساسي: الأب والأم اللذان يشكلان عائلة متماسكة تحفظ قيم أصولهما الراجعة إلى فيتولي- جزين مسقط الأب وإلى زحلة مسقط الأم. أعطته الإسكندرية صورة العيش المشترك بين الأقوام واللغات والثقافات. الجيران يونانيون وإيطاليون وعرب مصريون وشاميون، وهم أيضاً مسيحيون ويهود شرقيون وغربيون ومسلمون من أبناء البلد. في هذا التنوع أتقن العربية لغة العائلة والمحيط المصري ومعها الفرنسية والإنكليزية في المدرسة البطريركية، حيث يحرص الروم الكاثوليك على تعليم أبنائهم وبناتهم، ثم الثانوية المرقسية القريبة من بيت العائلة. كما ألمّ فارس إلى حد ما بالإيطالية. ولا بد لفتى يعمل والده محاسباً منفتحاً على عالم التجارة أن يوائم بين مجتمع العائلة اللبناني الصغير ومجتمع الإسكندرية الواسع الذي يختصر العالم. هناك إيقاعات الأغاني والموسيقى اللصيقة بحياة الناس، وهناك أيضاً حكايات الكتب وحكايات الشوارع والنوادي الضاجة بحركة الشباب وأحلامهم، كان «النادي السوري» يضم الجاليات الشامية بمختلف طوائفها، وعرف بنخبويته إذ كان يستضيف أعلاماً في شؤون المجتمع والاقتصاد والسياسة والفن الأدب. ولن تغيب عن ذاكرة فارس صورة فاروق الأول مودعاً مصر على وقع 21 طلقة مدفع تحيي الملك الذي خلعه الضباط باحترام، ولكنهم خلعوه. كان فارس طفلاً يحمله أبوه عالياً عند زاوية أوتيل سيسيل ليرى اللحظة التاريخية ويحفظها. كما لن تغيب عن سمعه أصوات الطلقات النارية من ساحة المنشية القريبة ورؤيته الناس يهربون بعد محاولة اغتيال جمال عبدالناصر عام 1954. تشرّب فارس الثقافة الطالعة من مجتمعات متعدّدة والتي تتحاور بالغناء والرقص والأفكار العملية. وفي دراسته السينما في القاهرة اتصل بالفن الذي صنعه معاً مصريون ومتمصّرون، وكان نقطة تقاطع بين المكان المصري وتقنيات الفنون الحديثة الآتية من أوروبا والمغروسة في بيئات التنوّع المصرية. وحين لم يتح له مكان لائق في صناعة السينما المصرية عاد إلى لبنان في مطلع عام 1967 ولم تتح له رؤية صدمة هزيمة 5 حزيران على الدولة والمجتمع هناك، لكن الصدمة وصلت إلى لبنان وبلاد الشرق كلها. على رغم صورة بالألوان نشرتها «النهار» على صفحتها الأولى في 5 حزيران كانت أبلغ إشارة إلى السلام اللبناني في دائرة الخطر، وتمثل الصورة سابحين وسابحات على شاطئ بيروت. حامل شهادة الإخراج السينمائي اضطر للعمل صحافياً بدعوة من أنسي الحاج الشاعر الغاضب الذي شغل موقعاً قيادياً في «النهار». ثقافة فارس وخبرته أهّلتاه للنجاح في عمله الاضطراري، فكتب أساساً في النقد الفني في «النهار»، وعمل في الوقت نفسه محرراً في شؤون مختلفة في «الجريدة» و «الديار» و «البيرق». وفي السياق تعرف إلى الممثل الظاهرة شوشو (حسن علاء الدين) وكانت بداية صداقة تبعها عمل مشترك في المسرح الوطني «مسرح شوشو»، وهنا نسجل أن معظم المعلومات التي نشرت عن شوشو في جرائد ومجلات وكتب كان مصدرها فارس يواكيم الكريم مثل مائدة، لكن معظم رواد تلك المائدة لم يذكروا مراجعهم. هذا وجه من وجوه السرقات الأدبية وغير الأدبية التي يضح بها المجتمع اللبناني. في بيروت وجد فارس بديلاً من الإسكندرية وإن أصغر حجماً وأضيق أفقاً، لكن عاصمة لبنان قادرة أكثر من المدينة المصرية الساحلية على تجديد نفسها، متكئة على إرث الحداثة اللبناني وعلى علاقات حيوية بين المقيمين والمغتربين. لقد تحوّلت الإسكندرية إلى سراب وتوزّعت في نفوس الذين ولدوا فيها ونشأوا، أما بيروت فهي الحقيقة الدائمة على رغم تعرّضها لصدمات وتشوّهات. وكان سبق فارس إلى بيروتلبنانيون متمصّرون مارسوا الأعمال الحرة أو شغلوا وظائف في القطاعين العام والخاص. وحضر الفنانون منهم في غير مؤسسة، مثل المخرج في «تلفزيون لبنان» إلياس متى، ومهندس الديكور هاكوب أصلانيان، ومنشئ «مسرح الساعة العاشرة» غاستون شيخاني (والدته من آل كسّاب وهو نسيب الروائي جيلبير سينويه، أي جيلبير كسّاب). النقد الفني كان بوابة فارس إلى الكتابة التلفزيونية والمسرحية والإذاعية، وأول برنامج محترف له هو «سهرة مع الماضي» الذي قدّمته في «تلفزيون لبنان» المصرية ليلى رستم، وفي أرشيف البرنامج بورتريات ومقابلات مع 52 شخصية سياسية واجتماعية لبنانية. في تلك المرحلة نهض المسرح اللبناني، من أوائل الستينات حتى أواسط السبعينات، بتفرّعاته النخبوية وغير النخبوية، وأتيح لفارس، ولنقل أنه اختار، المسرح الجماهيري، خصوصاً مع شوشو في مسرح وطني يومي هو الأول والأخير من نوعه في لبنان، وكذلك مع عروض مسرحية غنائية لصباح وسهرات الشانسونييه كما في مسرح الساعة العاشرة وعروض السيغال لإيفيت سرسق. قال لي فارس: هناك كتاب لا يباع وجريدة لا تُقرأ ومسرح ممثلوه أكثر من جمهوره، لذا أحببت مسرح شوشو وساهمت فيه تقديراً للناس وبعيداً من الابتذال. أنجز فارس كتابة عروض مسرحية وتلفزيونية وسينمائية وثقافية، بعضها موضوع وأكثرها مقتبس عن نص أجنبي مع إعادة كتابة للفكرة الأساسية، كما كتب مسلسلات إذاعية للكبار والصغار. ويضيق المجال عن ذكر عناوين أعماله. يكفي القول انه كتب 12 مسرحية لشوشو عرضت في «المسرح الوطني»، آخرها «زوجة الفران» بإخراج يعقوب الشدراوي عام 1975، وكانت جاهزة لعرض لم يتم بسبب وفاة شوشو. وكتب لصباح مغناة «العواصف» (1971) انطلاقاً من قصة قصيرة لجبران خليل جبران بإخراج روميو لحود، ثم مسرحية «الفنون جنون» لصباح أيضاً بإخراج برج فازليان (1973)، وقدّم أول شانسونييه عربي بعنوان «كوكتيل»، كما أنجز 5 مسرحيات للأطفال ثلاث منها من بطولة شوشو. وحدث أن عرضت في بيروت أربع مسرحيات لفارس في وقت واحد (عام 1973)، فتنبّه إلى ذلك مسؤولون ثقافيون كويتيون استدعوه إلى بلدهم ليتولى عملاً أساسياً في المسرحين الكويتي والخليجي وفي إذاعات المنطقة، وقد أنجز أول مسلسل للأطفال ناطق باللغة العربية «الشاطر حسن» أنتجه تلفزيون الكويت، ثم مسلسل أطفال خليجي بعنوان «الإبريق المكسور» ومسلسلات وبرامج عدة في مؤسسة الإنتاج البرامجي الخليجي المشترك في الكويت»، وكان كاتباً رئيسياً في مسلسل «افتح يا سمسم». بين 1989 و2009 عمل في إذاعة ألمانيا العربية، وهناك شهد انهيار المعسكر الاشتراكي واستعادة وحدة ألمانيا التي سرعان ما أتقن لغتها فترجم منها الى العربية كتابين لستيفان زفايغ وكتاباً ليواخيم مارتوريوس عنوانه «الإسكندرية سراب» يمكن القول إنه شارك في تأليفه بإضافة فصل/ وثيقة فضلاً عن الحواشي الكثيرة والغنية. ويبدو أن الإقامة الألمانية المستمرة إلى الآن، أتاحت وتتيح لفارس إنجاز مؤلفات صدر منها «غوتة العبقرية العالمية» (دار الجديد – بيروت)، «ظلال الأرز في وادي النيل» وهو عرض لشخصيات نهضوية لبنانية أقامت في مصر (منشورات الفارابي- بيروت) و «حكايات الأغاني» (دار رياض الريس- بيروت)، و «الإسلام في شعر المسيحيين» (الفرات للنشر– بيروت). وفي مسار التأليف يبدو فارس مؤهلاً أكثر من أي شخص آخر لتأليف كتاب عن شوشو والمسرح الوطني في لبنان، وهو مدعوّ لملء هذا الفراغ في الكتابة عن المصالحة بين الناس والنص والممثل كما لم يحدث من قبل ومن بعد في لبنان، وله أن لا يكتفي بالتقويم وإنما باقتصاد مسرح شوشو وحضوره الاجتماعي، بادئاً من الموازنة المتعثرة إلى جمهور الأغنياء والفقراء والمثقفين وغير المثقفين المجتمع في مكان واحد، وأن يعمد إلى نقد التجربة واعتبارها درساً لتجارب قد تحدث لاحقاً في المسرح اللبناني. كتاب «الإسكندرية سراب» الذي ساهم فارس في جمع بعض فصوله ونقله إلى العربية، مستجيباً طلب يواخيم سارتوريوس، هو بالنسبة إليّ هدية تتجدد حين أطلب لنفسي الحضور في روح تجمع أرواحاً وثقافة تغتني بثقافات ولا تكون حبيسة عزلة وعدوانية. نداء الإسكندرية طالما يتصاعد من دماء الذين عاشوا نهضتها قبل أن يغادروا. وتترجم قصيدة الشاعر الألماني دورس غرونباين هذا النداء، وقد أعطاها العنوان «في مصر» ونشرت في «الإسكندرية سراب» مهداة إلى مانفريد فورمان: «لم يمض جيل، حتى تراءى لي بحلّة جديدة، ما فات منذ زمن طويل. الذكرى، يا لوسيليوس، تبدأ مع الآن للتو(...). الآن عاد كل شيء إلى ذاكرتي: الشوارع الضيقة في المدينة التي قبضت على كليوباترا، المنارة والميناء. الجراد المقرمش في الصحن مع الخبز الأبيض الذي يصدر صريراً مثل رمل الصحراء لدى مضغه، والبيرة الفاترة. آثار دم الليل على الملاءات، أذرع النساء الملدوغة أمام مناضد الأسماك، وأسراب الطيور. تغدو سرعة الزمان رهيبة، حين ينظر المرء إلى الماضي. الحاضر يخدعنا. اللحظة مشعوذة تنتزع منا ما قدمته لنا: الآن للتو. الإسكندرية أيضاً شقيقة روما، إن هي إلا غمزة عين حتى تمضي خلالها العقود، يا لوسيليوس. كل شيء يسقط في العمق نفسه. بلا قرار، بلا قرار. للتو الآن قلت وداعاً. أقسمت: بأن تبقى في العتبة، دعها تُشرّح الكلمات. لماذا التعمّق في الشعر؟ الزمن لا يكفي لقراءة كل الأشعار، ومؤلفات الفلاسفة. لكن: هل يمكن للمرء أن يفعل أكثر من ذلك، حيثما الحرب معتادة. حيثما يسود الشقاق، والدقة البالغة مذهب سائد؟ مشاكل صغيرة، حيثما نظر المرء، يرى الوهم والنتيجة الخاطئة. البارحة كنت تلميذاً جاداً في الإسكندرية، تلميذاً عرف الموت في الغربة، محاطاً بحياة حافلة. ماذا تبقى لي من مصر؟ الذكريات. ربما أكون قد غفوت منهكاً منذ مدة طويلة. للتو الآن أيقظني نداؤك عبر السنين. أعادني إلى البداية. كم كنت مغبوطاً آنذاك مثل ظل سقيم في قصر عمي، عاطل، أسعل. كنت أقرأ الأشعار طوال النهار. والآن يركعني الخجل. من لا يثق بدهائه، أسألك أنت، يا أعزّ صديق: هل عشت أنا؟ ماذا علي أن أفعل؟ لم يكد يمضي جيل». * مقاطع من كلمة في تكريم فارس يواكيم الذي أقامته «الحركة الثقافية» في أنطلياس - لبنان، الأحد في 11 آذار (مارس) الجاري