دعاني النادي الديبلوماسي المغربي، لأساهم في برنامج أنشطته الثقافية، بإلقاء حديث في مقر وزارة الشؤون الخارجية والتعاون في الرباط، حول موضوع :"الديبلوماسية الإسلامية في خدمة الحوار والسلام". وقد وقع اختياري على هذا الموضوع، لما له من صلة وثيقة بما يجري اليوم على الساحة الدولية، ولما للعالم الإسلامي من حضور في المحيطين الإقليمي والدولي، بغض النظر عن طبيعة هذا الحضور، وعما له من ثقل أو تأثير. لقد كان أول ما بدأت به حديثي في ذلك المحفل الديبلوماسي، هو إبراز كيف أن الديبلوماسية الإسلامية تخدم المصالح العليا للعالم الإسلامي، وتدافع عن حقوق الشعوب الإسلامية، وتنتصر لقضايا الأمة الإسلامية، سواء أكانت على مستوى دول العالم الإسلامي، كل منها في نطاق سيادتها ووفقاً لاختياراتها وسياساتها الوطنية، أم على مستوى منظمات العمل الإسلامي المشترك. وتجمع الديبلوماسية الإسلامية بين القواعد والأصول المرعية دولياً وبين القيم والمبادئ المعتبرة إسلامياً، وكيف أن الهدف المشترك بين ديبلوماسية دول العالم الإسلامي ذات السيادة الكاملة، وبين الديبلوماسية التي تعبر عن مواقف الأمة الإسلامية، ينفي الفروقَ التي قد تتبادر إلى الذهن بين الحالتين. إن المفهوم الإسلامي للأمة، التي هي شكلٌ متميّز وفريدٌ للتجمّع الإقليمي، يُضفي على الديبلوماسية الإسلامية طابعاً يجعلها تختلف، من حيث الأسس والأهداف والغايات الإنسانية، عن الطابع الديبلوماسي التقليدي. وإذا كانت المبادئ التي قامت عليها وأعلنتها الثورة الفرنسية في عام 1789، من الحرية والإخاء والمساواة، حديثة على أسماع الشعوب الأوروبية، فإن هذه المبادئ أصيلةٌ في تعاليم الإسلام منذ نزل القرآن الكريم قبل ذلك بثلاثة عشر قرناً. إن تلكپ المبادئ التي نادت بحق الأمم في اختيار نظمها الدستورية، قد استرعت اهتمام أوروبا، وكانت قاعدة من قواعد النظام الدولي الذي في إطاره استكملت قواعد العلاقات الدولية التي نشأت في أجوائها الديبلوماسية الأوروبية. وقد ثبت لدى الباحثين الغربيين المنصفين أثر الإسلام في القانون الدولي العام الأوروبي. في هذا الإطار تبلورت فكرة التضامن الإسلامي، فسارت في هذا الاتجاه، حيث شهدت أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات من القرن الماضي، جهودهاً متجددة لجمع المسلمين في نظام سياسي واحد، أو على الأقل ضمن منبر إسلامي واحد، وقد بدأت الدول الإسلامية تعمل في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، في إطار وحدة وانسجام حول القضايا المختلفة، وبدأ الكثيرون يتحدثون عن وجود"كتلة إسلامية"، مختلفة عن"الكتلة الغربية"و"الكتلة الشرقية". وقد ساهمت قضيتان رئيسَتان في توحيد جهود الدول الإسلامية في المنظمة الدولية، كانت أولاهما: الاهتمام المشترك باستقلال باقي دول العالم الإسلامي، وكانت ثانيتهما: إنشاء دولة إسرائيل مدعومة بالقوى العظمى في قلب العالم الإسلامي. كما بدا أن الجمعيات والمؤسسات غير الحكومية في العالم الإسلامي بصورة عامة، قد عادت إلى النشاط مرة أخرى بعد الحصول على الاستقلال من القوى الاستعمارية. لقد انطلقت الدعوة إلى حوار الحضارات من قلب العالم الإسلامي، وعلى لسان السيد محمد خاتمي الرئيس الأسبق لمنظمة المؤتمر الإسلامي، أطلقها من فوق منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، في كلمة له أمام عدد من رؤساء الدول والحكومات ووزراء الخارجية وسفراء دول العالم في المنظمة الدولية، وقد تبنتپ الجمعية العامة للأمم المتحدة الفكرة التي تعبّر عن الرؤية الحضارية للعالم الإسلامي، فأصدرت قرارها بجعل سنة 2001 سنة الأممالمتحدة للحوار بين الثقافات والحضارات. وليس من المصادفات أن يكون انطلاق فكرة الحوار بين الثقافات والحضارات من رئاسة مؤتمر القمة الإسلامي، وأن تتبلور الفكرة وتنضج في قرار دولي، يدعو العالم إلى تعزيز قيم الحوار بين الثقافات والحضارات الإنسانية، للتغلب على المشاكل التي تعترض مسيرة الإنسان المعاصر نحو الاستقرار والأمن والسلام والوئام. ولقد كان من الطبيعي جداً أن يتجاوب العالم الإسلامي تجاوباً كاملاً مع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأن يتبنى المؤتمر الإسلامي لوزراء الخارجية في دورته الخامسة والعشرين، هذا القرار، ويعهد إلى المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة إيسيسكو بالقيام بعدد من الأنشطة على الصعيد الإقليمي والدولي، لنشر ثقافة الحوار، ولتعميق مفاهيمه، ولبلورته في مواقف وإجراءات وخطوات عملية، ليصبح الحوار طابعاً من طوابع العصر، وذلك ترسيخاً لمفهوم الديبلوماسية الثقافية من منظور إسلامي. وعلى الرغم من أن رياح العالم بعد الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001، جرت عاصفةً مزمجرةً في اتجاهات بعيدة عن الحوار، وزجت بالمجتمع الدولي في مسارات ملتوية، بل في دهاليز مظلمة زعزعت الثقة في فكرة الحوار بسبب نشوء أزمة دولية وُجد من ينفخ فيها لتتفاقم ولتهدد استقرار المجتمعات الإنسانية، فإن الإيسيسكو قامت بالدور المنوط بها، في إطار الديبلوماسية الثقافية للعالم الإسلامي، بتفويض من المؤتمر الإسلامي لوزراء الخارجية. فقد شرعت الإيسيسكو في التحرك المدروس في هذا الاتجاه، وفق خطة عمل مدروسة، لنشر قيم الحوار والتعايش باعتبارهما المدخل الوحيد إلى استتباب الأمن والسلم في العالم، فعقدت أكثر من عشرة مؤتمرات وندوات دولية في عديد من العواصم العربية الإسلامية والغربية، حول قضايا الحوار بين الثقافات والحضارات، وشاركت وساهمت في عقد العشرات من المؤتمرات والندوات الأخرى. ومن هذا المنظور، فإن العمل الذي نهضت به الإيسيسكو وتواصل النهوض به في هذا الإطار، هو من صميم وظائف الديبلوماسية الإسلامية الثقافية من أجل خدمة قضايا الحوار ونشر ثقافة العدل والسلام، وهو عمل مستمر يتعزّز ويتطور ويتوسّع مداه، من خلال عقد سلسلة من المؤتمرات الإسلامية المتخصصة، منها المؤتمر الإسلامي لوزراء الثقافة، والمؤتمر الإسلامي لوزراء الإعلام"الأول تدعو إليه وتشرف عليه المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة إيسيسكو، والثاني يعقد تحت إشراف منظمة المؤتمر الإسلامي. هذان المؤتمران يخدمان أهداف الديبلوماسية الإسلامية، كما يخدم المؤتمر الإسلامي لوزراء الخارجية قضايا الأمن والسلم، ليس في العالم الإسلامي فحسب، بل في جميع مناطق العالم. وكانت القضية الفلسطينية التي من أجلها تأسست منظمة المؤتمر الإسلامي، والتي هي المحورُ الرئيسُ للديبلوماسية الإسلامية في جميع مجالاتها وعلى مختلف مستوياتها، في مقدمة هذه القضايا. ولا يوجد فرق البتة بين"الديبلوماسية العربية"وبين"الديبلوماسية الإسلامية"في مجال خدمة قضايا الأمن والسلم، ومثال ذلك الخطة العربية للسلام التي تتبنّاها جامعة الدول العربية، والتي هي الخطة ذاتها التي تتبنّاها منظمة المؤتمر الإسلامي. فالقرارات التي تصدر عن مؤتمرات القمة العربية بخصوص القضية الفلسطينية، لا تختلف في شيء عن القرارات التي تصدر عن مؤتمرات القمة الإسلامية. ولذلك يصح أن نقول"الديبلوماسية العربية الإسلامية". فالديبلوماسيتان تتكاملان لدرجة تنتفي فيها الفوارق في التعامل مع القضايا الأساس، وبالأخص القضية الفلسطينية والأراضي العربية المحتلة، والدفاع عن المصالح العليا للعالم العربي الإسلامي. وتلتزم الديبلوماسية الإسلامية قواعدَ القانون الدولي، ولا تحيد عن الشرعية الدولية في مواقفها وقراراتها، ولذلك فإن الربط بين تعزيز الحوار بين الحضارات والثقافات، وبين العمل على استتباب الأمن والسلم، هو وجه من وجوه التزام الديبلوماسية الإسلامية بالقانون الدولي، من جهة، والوفاء للقيم الأخلاقية العربية الإسلامية وللمبادئ الإنسانية، من جهة ثانية. وإذا كانت الديبلوماسية تعبيراً عن الإرادة السياسية للدول، فإنها أيضاً تعكس ميزان القوة الاقتصادية والصناعية والعلمية والتقانية التي تمتلكها هذه الدول، ولذلك فإن ثقل الديبلوماسية الإسلامية، والديبلوماسية العربية أيضاً، يأتي من مستوى القدرات والإمكانات والموارد التي تتوافر لدول العالم الإسلامي، ومن المكانة التي تتبوأها بين دول العالم. وعلى الرغم من أن الأجواء في العالم الإسلامي ملبدةٌ بكثير من السحب لأسباب كثيرة، فإنَّ الموضوعية والواقعية تقتضيان أن نؤكد في هذا المقام، أن القدرات التي تمتلكها دول منظمة المؤتمر الإسلامي، والمكانة التي يتبوأها العالم الإسلامي ضمن المجموعات الدولية، توفران للديبلوماسية الإسلامية فرصاً كثيرة للتحرك على أكثر من صعيد، لدعم جهود المجتمع الدولي من أجل تعزيز قيم الحوار بين الثقافات والتحالف بين الحضارات، ولخدمة الأمن والسلم في العالم. إن أهمّ ما يتعيّن على العرب والمسلمين التركيز عليه وتبيانه للعالم أجمع في هذه الفترة، وبالأساليب الحكيمة ومن خلال مبادرات مدروسة، هو أن العالم الإسلامي كتلة حضارية تسعى من أجل الحوار والسلام، وهما هدفان يندمجان في هدف استراتيجي واحد، باعتبار أن السلام لن يأتي إلا من خلال تعزيز الحوار بين الأمم والشعوب، على جميع المستويات، السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والحضارية، حوار بنَّاء، مثمر، حوار حضاري في عمقه وجوهره، حوار إنساني يستهدف الارتقاء بالحياة الإنسانية، من أجل بناء السلام الإنساني الشامل القائم على قواعد العدل والحق والفضيلة، والاحترام المتبادل. ويستهدف أيضاً، تحقيق المطالب المشروعة للشعوب الإسلامية في ظلّ القانون الدولي، وفي مقدمتها إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية في فلسطين والجولان وجنوب لبنان، وإقامة الدولة المستقلة للشعب الفلسطيني بعاصمتها القدس الشريف، ووقف الهجمة الظالمة على الإسلام والمسلمين في العديد من البلدان الغربية التي تتستر وراء حرية التعبير، وهي في حقيقتها ومغزاها حرية التدمير. ولذلك فإن الديبلوماسية الإسلامية تعمل في هذا الإطار الأرحب، وتسير في هذا الاتجاه القويم، تحمي المصالح العليا للأمة الإسلامية، وتدعم جهود المجتمع الدولي من أجل الحوار والسلام. * المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافةپ إيسيسكو.