كعادته منذ شريطه الأول "حب في الدار البيضاء"، يتطرق عبدالقادر لقطع في فيلمه الجديد "ياسمين والرجال" الى نفس الهم وذات القضية. أي قضية المرأة وأوضاعها المختلفة سياسياً واجتماعياً وثقافياً في مغرب اليوم. من هنا فإن"ياسمين والرجال"يشكل اغتنام فرصة أخرى لوضع أسئلة الراهن عبر الفن السابع. فياسمين امرأة من الزمن المعاصر، لا تعيش إلا بفضل مقاومة مستمرة ويومية لنزوات الرجال في مجتمع ذكوري بامتياز. يُظهرها المخرج في حالات كثيرة وهي تدفع عنها الرغبة التي يثيرها جسدها تجاه الرجال، ليس لأنه جميل ومثير في حد ذاته، ولكن لكونها امرأة مغربية عربية في مجتمعها المغربي العربي. وللتدليل الصوري على ذلك اختار المخرج في حكايته عن ياسمين أن يبدأ من النهاية. أو عند حافة النهاية. فنرى ياسمين في أول المشاهد ملقاة هامدة على سرير مستشفى، بعد أن تعرضت لحادثة سير. أي بعد أن أصيبت في الجسد حقيقة وفعلا وتعرضت لعنف مادي ضار، يبدو أنه آخر حلقة في مسلسل حياتي طويل بدأ يتكون من الطفولة من هجمات على الجسد، هجمات"معنوية"عنيفة تجاه أنثويتها. ومن خلال حلقات الغياب في المستشفى وعبر سلسلة من الفلاش باك، نكتشف رويداً رويداً قصة هذا العنف الرجولي الجامح وكيف تعاملت ياسمين معه. وطبعا تكون زاوية النظر، كما يريد المخرج، في جانب المرأة. وهكذا نراها، عبر آلية الاستعادة، سكرتيرة في مكتب بعد ساعات الدوام لإتمام عمل مطلوب من رب العمل. هذا الأخير اتخذ الطلب ذريعة للانفراد بها. لا ترضخ ياسمين لنزواته، وتدفعه عنها. في الخارج تقع لها الحادثة. لكن المثير هو أن الزوج، عند زيارته لها في فترة التداوي، يكشف بأنه هو الذي حثها على التعامل مع رب العمل حتى في كل ما يطلبه، وذلك لوجود مصلحة له في ذلك يمنحها صبغة مصلحة عائلية كبرى. يحادثها عن ذلك وهي ملقاة لا تعي ما يقول. الاستعادة نفسها تمكننا، في إطار آخر من التعرف على حقيقة دفينة. إطار التذكر تحليلي نفسي يشبه صعوداً إلى سطح الوعي لحادث قديم وقد تم تصويره سينمائياً. فيتم اكتشاف الأب، واسمه الكونونيل، و هو يراودها عن نفسها قبل أن يهرب. مشهد أريد له أن يكون مصوراً في أجواء مضببة مرتعدة وخاطفة. مشهد من النادر الاطلاع عليه في السينما العربية لجرأته. الإيحاءات الفنية عن علاقات محرمة ليس مما يتوخى الفن السابع العربي التطرق إليه. بعد تراكم الهجمات، وبعد الحادثة، تقرر ياسمين الإمساك بزمام أمورها وتغيير نمط عيشها كلية. فتغادر منزل الزوجية مصطحبة معها ابنتها بعيداً من الزوج. يضع المخرج في طريقها امرأة متحررة تساعدها بالنصائح وبالإيواء. امرأة هي نموذج لأنثى تقرر بنفسها ما يجب فعله. تعمل لكسب العيش، وتمارس الحياة حسب ما تراه مناسباً لها، تشرب وترتبط بعلاقة غير شرعية مع رجل. تأخذ ياسمين العبرة، فترمم حياتها وحياة ابنتها وأخت لها. تهرب إذن و تبتعد وتمكن أختها من السفر برفقة حبيب لها إلى خارج الوطن بعد أن سرقت جواز سفرها المحتجز لدى الأب. تصير امرأة أخرى تقاوم وتتحدى وتجسر. إنهما الصورة والانطباع اللذان يخرج بهما المشاهد. في مقابل هذه الصورة الإيجابية لا يبدو الرجل العربي في أحسن حالاته. بل حتى النماذج الإيجابية التي يقدمها المخرج لا توازن بما فيه الكفاية السلبية هذه. فالأب الكونونيل نراه من خلال الاعتداء القديم على ياسمين، وهو اعتداء له مبرر، في الشريط طبعاً، يتجاوز العلاقة المحرمة. فالأب من الكهول الذي قضوا حياتهم في السلطة ولا يعرفون سوى لغة التسلط، سواء في العمل أم في العائلة أم في أجواء الحب. يرسم له المخرج صورة قاتمة وغير مريحة لكنها الصورة التي تتشكل لكل الذين ألفوا الأمر والتحكم والعقاب. في مشهد قاس ومطروق يظهر رجلاً متقادماً فعل به الزمن ما فعل لكنه لا يزال يدخن السيجار بملل وعنجهية معتادتين، وبجواره فتاتان من فتيات الليل في بيته الذي يشبه بيتاً للدعارة، ويطلب منهن أن يفعلن أفضل ما يعرفن تأديته. فإذن كل الأفعال التي قد يأتيها صادرة من تكوين سلطوي لا يرعوي قط أمام النزوة. شبيهه في الأمر رب العمل الذي يُقدم في صورة الرجل الجشع. والزوج ليس سوى شخص خنوع تحركه مصالح مادية طموح للترقي الاجتماعي، ولا يلقي في سبيل ذلك أي اعتبار لأي شيء وإن كان أخلاقياً مثل ما يمس علاقته بزوجته. لكنه يثور عندما تقرر هذه الزوجة الهرب بالبنت، فيلاحقها ويوظف الدسيسة لخطف البنت من المدرسة. وبالتالي فالزوج هنا لا يستعرض القوة والمكر إلا في مواجهة الزوجة ياسمين. أمام هذه العينة يضع المخرج في طريق ياسمين، مرة أخرى، رجلاً"شهماً"كانت تعرفت عليه في حفل الذكرى الثانية للهجمات الإرهابية التي حصلت في الدار البيضاء بحسب ما يقوله لها، في إقحام لحدث يقصد منه ربما عبد القادر لقطع ربط الشيء بالشيء، والقول بأن وجود إرهاب ووجود قمع للمرأة شيئان متلازمان! لكن الرجل يلوح محايداً، متفهماً أكثر من اللازم، ويقوم بتلبية رغبات ياسمين ومساعدتها باحترام، أي أنه ليس رجلاً"مقتحماً"و"مقترحاً". وهي نفس الصورة التي يطالعنا بها حبيب أخت ياسمين الصغرى، والذي يبدو عاشقاً فقط، صموتاً وتابعاً، عكس حبيبته التي تقاوم الكونونيل على رغم الخوف والتهديد، ديدنها في ذلك الهرب و الهرب بعيداً عن بيت"يقتل"الأنثى رمزياً ويقضي على الجميل فيها. وبهذه النماذج للمرأة وللرجل يقدم عبدالقادر لقطع فيلماً أريد له أن يكون تشريحاً لما يعتمل في مجتمع عربي مغربي تكون فيه العلاقات مرهونة لتجاذب ما بين العادات والموروث والمعتقد والخاطئ من الممارسات من جهة، وبين السعي للتحرر والانعتاق واللحاق بركب الحداثة. لكن مع إعطاء المرأة الدور المركزي في تحريك الوقائع والأحداث بتشكيل شخصية لها تكون نداً للرجل في كل شيء. امرأة الحداثة حد الحرية المطلقة. امرأة ليس كونها الأنثى ميزتها المحددة الأساسية. ولقد أدت الدور بإتقان كبير الممثلة المغربية المهاجرة من فرنسا سناء العلوي. "ياسمين والرجال"هو الشريط الخامس لعبدالقادر لقطع منذ 1989. ومعروف أن أفلام لقطع تثير الجدل بحديثها كل مرة عن الطابوهات، وبمزجها ما بين المواضيع السياسية والدينية والأخلاقية في كل شريط. وكل فيلم يتناولها عبر حكايات إنسانية في مجتمعات مدينية حضرية. الفيلم هو إعلان رأي وانخراط في النقاش. وپ"ياسمين والرجال"لا يشذ عن انشغالاته كمثقف. هل وفق؟ من حيث الطرح نظن أنه وفق، إلا أن المشكل الذي يحصل مع مثل هذه الخيارات الفيلمية هو كونه لا يستطيع التخلص من نوع من التلقينية والخطابية حسنة النوايا التي تبدو سينمائياً تحرج المشاهدة. إذ تبدو هذه السينما وكأنها تتغيا الإثارة بالصورة والتشويق العاطفي قبل كل شيء.