للغرب الفرنسي بالتحديد حضور قوي في المجتمع المغربي على كل الأصعدة. بحكم فترة الحماية الفرنسية طيلة النصف الثاني من القرن الماضي، وبحكم استمرار الوشائج والتداخل الكبيرين بين المغرب وفرنسا ثقافياً واقتصادياً على الخصوص. عبر اللغة وعبر السلوك العام السائد. فباريس على بعد ساعتين جواً فقط وفي فرنسا مئات ألوف المغاربة. وهذا ما يجعل من موضوع هذه العلاقات مجالاً خصباً للتعبير الفني بما يخلقه من إيجابيات وسلبيات وتأثيرات متعددة ومختلفة. وفيلم لطيف لحلو الرابع «الدار الكبيرة» يرصد بعضاً من هذه المعطيات عبر حكاية عائلة مختلطة. الزوج المغربي والزوجة الفرنسية يقرران الاستقرار بالمغرب وعدم الاكتفاء بزيارته خلال العطل الصيفية. وهذا أمر في الحقيقة نادر، فالعكس هو الذي يحصل غالباً، لأن ميزان الحداثة والتقليد لا يستوي كثيراً في الحالتين. الفكرة طيبة وتستدعي الوقوف وتتبعها. لكن هل تبدت بأمر جديد من خلال مجريات الشريط ؟ الواضح أن المخرج حاول أن يُظهر للمشاهد أن مشكل الاندماج ليس في أوروبا وحدها بالنسبة للمغاربة، بل أن الفرنسيين يجدون ذات المشكل في المغرب. يعني أن التعارض الثقافي هو نفسه، وليس بسبب نقص أو عدم فهم، بل لصعوبة التخلي عن المكون الثقافي الأصلي للفرد سواء كان غربياً أو شرقياً. وهكذا قدم المخرج فترة باريسية عبر صور للمدينة، صور رائقة وحية، تعايش فيها الزوجان بشكل حر ومتساو، وفي أجواء غربية سلسة مقبولة. ثم انتقل مباشرة إلى المغرب لينقل لنا فترة أخرى مخالفة تجلت فيها قوة التقاليد وسطوة نمط عيش مناقض تماماً، ومميز بالسكونية وسيادة قيم الطاعة والحشمة والأبوية. وفيها نتتبع مسار الزوجة الفرنسية وهي تحاول أن تستمر في ممارسة حياتها الباريسية السابقة. لكنها ستتعرض لمقاومات وتساؤلات وحدود متفق عليها مجتمعياً ستمنعها من فرض رؤاها الخاصة وتصورها للحياة الفردية والعائلية. تناقض المجتمع وهنا نرى الميزة الوحيدة والأساسية لهذا الشريط غير المدعي ببساطته وبساطة آليات اشتغاله. وهي لعبه على تبيان التناقض المجتمعي وآثاره على التصرف الخاص والعام حين الالتقاء بمتطلبات التدبير اليومي للعيش. لورانس تجد نفسها وحيدة ومنعزلة في دخيلة نفسها، وترى أن أبرز أمر مطروح هو المسايرة إن لم يكن الخضوع حتى. الغربي إجمالاً له نزعة عدم التنازل عما يشكل ذاته الخاصة وما يشكل خريطة طريق حياتية، في حين أن المغربي والعربي هو فرد التوافقات وإن لم يكن راضياً عنها لقوة التقاليد ولقوة تأثير الجوانب الروحية والروابط العائلية في رسم خريطة حياته. لورانس لا تريد لابنها أن يظل مدللاً، بل تريد له أن يهتم بدروسه، وأن يُكوّن شخصية له خارج الحنان والاهتمام المبالغ فيهما. كما تريد أن تستقل بعملها في مستشفى عمومي ودون وصاية أو رضوخ لنزوات الإدارة والرؤساء كما أنها لا تجد الوقت الكافي الذي تجده المغربيات لشراء القفاطين ومشاهدة المسلسلات التلفزية والاهتمام بالبيت. بخاصة في مجال عائلي ثري وله حساسية تجاه وضعه الاجتماعي. وأمور الحنان العائلي الحاضن زيادة عن اللزوم وسلبيات الإدارة العمومية والبحث عن الوقت الفارغ هي معطيات في ظاهرها واقعية وموجودة ومطروقة، لكنها تظهر عبر عين وعقل امرأة غربية ما يمنح للتمثل الفني هنا قوة إقناع. وهو رغم صدقيته في الجزء الأكبر فقد يزعج الكثيرين. لأنه وسينمائياً يجعل من الغربي حاملاً للقيم الصالحة وصاحب السداد والرأي الصائب. ربما رام المنتج والمخرج لطيف لحلو صدم المشاهد من خلال هذا التصور، وهو أحد رواد السينما المغربية فقد أخرج فيلمه الأول «شمس الربيع» عام 1969، وهو من المخرجين القلائل الذين يتمتعون بثقافة عميقة تبين عنها تدخلاته الكثيرة في شتى المناسبات. فموضوع كهذا يتطلب إدراكاً أعمق ووضعيات حكي غير مألوفة. طبعاً، المخرج وازن الأمر من خلال ما قام به الزوج المغربي. فقد قدمه كعالم كبير مقتدر وذي كفاءة عالية. وله مشروع تجديد الطاقة يريد أن يقدمه لبلاده كعربون مواطنة، لكنه سيقابل بوسط عمل في إدارة غير مستعدة في البداية، وبمقاومة من الوسط العائلي الذي يريد توظيف المشروع عائلياً. هنا أيضاً يسود النزوع « القيمي الخيري» الغربي الذي تشبع به الزوج في أوروبا. وهو من الأشياء الموجودة أيضاً، فكم من الكفاءات المغربية التي تود رد الدين للوطن، لكن سينمائياً وبالشكل الذي قدم به مشروع بطلنا هنا يبدو هو أيضاً مزعجاً قليلاً. الوالدان آخر من يعلم لكن الإزعاج الأكبر سيصل مداه حين التطرق لشؤون الحشمة لدى النساء والختان وشرب الخمر. فالابن غير مختن، ما سيخلق وضعاً له قدر من السخرية حين سيتم ختانه دون علم الأبوين وتلقين «الابن» الكذب كي لا يخبرهما. هذا بالإضافة إلى وجود أخت البطل التي تود الزواج من أجنبي مسيحي. العادات تنزل بكل ثقلها وبكل ما يصدم ويقلق بكل ما تتضمنه من قدر من المداراة والمناورة والتناقض. والذي يجب أن يقع من صدام يقع أخيراً، أي المنتظر وهو تفجر الأوضاع، والوصول بعد ذلك إلى القول بأن العيش المشترك صعب وقاس ولا بد من تنازلات من الجانبين في مثل هذه العلاقات الحميمية. الحل قدمه المخرج بشكل يشكو من قلة الفعل الدرامي وهو ما تجلى في الحفل الأخير الذي «أسعد» الكل وفك المشكل! من زاوية التحمل والقبول والتسامح. يبتعد الشريط كلية عن شريط المخرج السابق، «سميرة في الضيعة» الذي كان أقوى أثراً والذي تطرق لموضوع جريء هو العجز الجنسي عند الرجال العرب وخنوع المرأة للوضع دون تساؤل. فيلم « الدار الكبيرة» فيلم مصالحة. وهو ما يبدو وبموازاة الموضوع الأساسي، في الديكور والشكل الموافق السهل الذي تأخذه الأمور والأحاديث. فالعمل مليء بنوايا طيبة وبتقديمه عن المغرب، من جانب البلد والمجتمع، صورة تعريفية متكاملة. لكن في مجتمع الأغنياء المخملي. الدار الكبيرة والمعمار والملابس والأكل والعادات والموسيقى وعادات الترحاب والمنحى العام.