ترتكز حكاية فيلم ياسمين قصاري"الراقد"على تقليد عربي شعبي سائد في المغرب الشرقي. ويتعلق بقيام النساء بتوقيف عملية نمو الجنين في بطن أمه لفترة وذلك عبر الإلتجاء إلى الفقهاء المتخصصين في ذلك. وهذا ما قامت به بطلة الشريط زينب بنصيحة من حماتها إلى حين قدوم زوجها المهاجر للعمل السري في اسبانيا. وبالتالي فالموضوع يصب في عين ما يثير اهتمام العين الغربية، لخروجه عن المألوف وارتباطه بشيء من الغرائبية المتوخاة. إلا أن عمل المخرجة استطاع أن يحقق على رغم هذا شريطاً متقناً وله جاذبية فنية. كيف؟ يحدث الأمر في منطقة جرداء شحيحة فقيرة بجوار مدينة تاوريرت. وهذا الاختيار ليس اعتباطياً بحكم أنه يمنح المخرجة فرصة التصوير الفني والغني لجغرافية مثيرة وممتدة تذكر بأفلام الويسترن لما تحويه من فضاءات لا تستطيع مخرجة مقاومة تأثيره بخاصة في فيلم أول تعول عليه لاختراق السينما على أكبر مستوى وهي التي تلقت تكوينها السينمائي في بلجيكا. إذاً المرأة كحالة إنسانية واجتماعية وهاجس التسجيلية هما سمتا الشريط في الأساس. عزلة النساء المزدوجة مباشرة بعد الزواج والدخلة تضطر البطلة زينب إلى تحمل غياب الزوج وتحمل الحبل المتوقف إجبارياً بلا احتجاج وفي صمت. لأن العادة تريد ذلك ما دام الرجل غائباً. فنجد أنفسنا أمام فيلم ليست فيه سوى النساء والكثير من الصمت المطبق. نساء من كل الأعمار يعشن كما لو كنّ في قبيلة نساء لا غير. الفقيه منزه والذكر الوحيد الموجود مجرد شيال فقط وقد تعمدت المخرجة توظيفه لإيجاد أثر درامي ضروري لسير الفيلم. فهو الحقيقة الذكورية اليتيمة ويشتغل حضوره كمرآة تنعكس فيها الرغبة، وفعلاً فإحدى النساء وهي الجارة حليمة ستحاول ممارسة علاقة محرمة في شبه تمرد أنتجه أسر العادة الثقيلة. في المقابل وكوسيلة مختلقة لتخفيف هذا الأسر الجماعي يرسل الرجال أشرطة فيديو يتحدثون فيها عن أحوالهم ويبعثون تحياتهم ولواعجهم التي تؤججها الغربة. وبالتالي تصير الذكورة صورة وأملاً وحلماً فقط لمساعدة النساء على تخفيف العزلة. لكن هذه الأخيرة لها وجه آخر فهي عزلة جغرافية أيضاً كأنما ينعكس جفاف الرغبة في جفاف المنطقة فيتعالقان معاً للتضييق على الألق النسوي المحتمل والمغيّب. النساء في الفيلم لا يضحكن ولا يتمتعن ولا يمزحن في الغالب. المخرجة تتوقف كثيراً ومراراً أمام الوجوه الصامتة المكلومة والتي تمارس الأفعال الضرورية من أكل ونوم وعمل البادية بروتينية مملة. عدسة الكاميرا تتوقف طويلاًً أمام الوجوه مما يعطي الكثير من اللقطات المكبرة والمعبرة، تنطق بالحزن والألم القسري يخفين ثقله بمجموعة من الممارسات، فالجدة والحماة تعمدان إلى الشعائر الدينية وللحماية بالمعتقدات الشعبية العتيقة. ولتأكيد قوة القسر تخترق الشريط تصرفات حليمة التي لم تتحمل غياب زوجها وتحاول اختراق الممنوع والحصول على بعض متعة وبعض لحظات اللهو مستجيبة لنداء جسدها الفائر. وللذهاب بعيداً في الأثر وتأكيد قوة العزلة وظفت المخرجة ممثلات هاويات من بنات المنطقة، يؤدين الدور الذي هو دورهن في حياتهن الخاصة، باستثناء دور حليمة الذي أدته رشيدة براكني. جاذبية التسجيلي اختيار ممثلات هاويات أملاه سبب ثان هو تعلق المخرجة بالجانب الوثائقي للعمل السينمائي. وفعلاً فنصف الشريط تقريباً يعانق الفضاء الخارجي والفضاءات السكنية من دواوير وأعراش بحيث تتحرك النساء ويعشن. الهاويات يلعبن الأدوار في مجالهن الحقيقي مما يمنح قوة إقناع واستجابة تجاه الشريط. والمشاهد يجد نفسه يتعرف على منطقة لم تلق من قبل أي اهتمام من طرف السينما المغربية ويتعرف على عادات وسلوكيات خاصة. وقد ارتأت المخرجة أن لا تغير من المعطى الطبيعي والثقافي الموجود. فاللغة محلية تماماً ما بين عربية وأمازيغية تنتمي للجهة، والممارسات العامة أيضاً والألبسة وعادات الاجتماع... تتلاحق الصور تباعاً من خلال كاميرا ومونتاج متخير يلجأ إلى النقل مع التحسين الجمالي والإستيتكي. الوجوه مؤثرة والجبال والهضبات تمسكها المخرجة في أزمنتها الليلية والنهارية مانحة للعين متعة بصرية"تخفف"من وطأة القسوة الملقاة على النساء ومن الصبغة المأسوية لحكاية الفيلم. تخففه وأيضاً تكثفه أحياناً خصوصاً حين يتعلق الأمر بالليالي الطويلة الباردة. والانتقال من الجغرافيا كمعطى عام في اتجاه الإنسان كمعطى خاص حميمي يجعل الكل مزيجاً من الاغتناء الحكائي اللازم لكل عمل فني روائي والاغتناء الروائي اللازم لكل عمل يتوخى أن يكون شاهداً وملتزماً في ذات الوقت. المدرسة السينمائية البلجيكية هذا المزج ليس غريباً في حقيقة الأمر. فياسمين قصاري خريجة معهد"إنساس INSAS"البلجيكي، ومن ثوابت التدريس السينمائي فيه التركيز على الجانب الاجتماعي الروائي في السينما كما هو معروف. والدليل على ذلك حصول البلجيكيين الاخوة داردين على السعفة الذهبية لمهرجان"كان"مرتين وعن المعالجة السينمائية نفسها. هذه الأخيرة التي تتحكم في عمل المخرجة المغربية. وقد أبانت عن ذلك من قبل من خلال فيلمها التسجيلي"عندما يبكي الرجال" 2002 والذي تحدثت فيه عن معاناة المهاجرين السريين المغاربة القاسية في إسبانيا. وقد حصل الفيلم على عددٍ من الجوائز الدولية. لذلك كان طبيعياً أن يكون في فيلمها الروائي"الراقد"طابع وثائقي عن الغربة والهجرة والفقر مجتمعين، بعين النساء في هذه المرة. "الراقد"هو في حقيقة الأمر ذلك العنف وتلك القسوة يفرضان على نسوة بلا حول ولا قوة في مجتمع ينخره الفقر."الراقد"هو الوضع الراقد النائم الذي لم يوقظه أحد ويغيره كما قد يستشف، فالمخرجة امرأة وأصلها من المنطقة التي صور الفيلم فيها. لكن المخرجة لم تقع في مطب"النسوانية"المغالية، بالعكس قدمت فيلماً نالت عنه جوائز كثيرة في إسبانيا وإيطاليا والأرجنتين وغيرها من المهرجانات. ربما يكون موتيف الحكي أي عادة"إنامة"الأجنة فيه نزوع أنثروبولوجي لترضية ذوق لا عربي لكنه مكّن من إخراج الفيلم بالاقتدار الفني لمخرجته، عكس بعض المخرجين الذين يغلب عليهم الموضوع بلا الوازع الفني فيسقطون في الغرائبية.