فلسطين ليست جزءاً من تكساس ... فكيف يحق للرئيس جورج بوش ان يفاوض عليها؟ التساؤل طرحه صائب عريقات بعدما أُخِذ وكثيرون غيره، بدهشة حيال تعهد بوش في خطابه في افتتاح اجتماع انابوليس، تمديد ذاك الوعد الأميركي الأبدي بالتزام أمن إسرائيل، إنما هذه المرة بوصفها"وطناً للشعب اليهودي"... بما يثبت الشكوك بأن حكومة ايهود أولمرت ذهبت الى انابوليس لانتزاع الوعد الجديد الذي يُسقِط عملياً حق عودة اللاجئين الفلسطينيين الى دولة"يهودية". في حرم الكلية الحربية في مدينة انابوليس، كان الحاضر الأكبر بين الوفود، القلق من هدر"الفرصة الأخيرة"لتسوية الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي الذي حوّل المنطقة ملعباً فسيحاً للتطرف، ويقودها الى فوهة بركان مرعب. وحده أولمرت كانت حساباته مختلفة في القاعة التي أُعلن فيها تدشين حقبة جديدة في الشرق الأوسط، يفترض ان تنتهي قبل توديع عام 2008 وتوديع بوش البيت الأبيض، بقيام الدولة الفلسطينية. ولكن، في كلية الحرب، لم يكن رئيس الوزراء الإسرائيلي ليقتدي بإسحق رابين الذي اغتيل قبل 12 سنة، حين حاول إقناع شعبه بعبثية الهروب من مواجهة أثمان الصراع الأبدي. بل إن ما قاله أولمرت وبوش هو ببساطة إعلان لبدء مرحلة الصراع على تكريس"يهودية"الدولة العبرية، لينضما الى مربع سيحاصر المسار الفلسطيني بالقنابل الموقوتة: ان تلفظ بوش بصفة اليهودي لشعب إسرائيل إذ ينحاز كلياً الى رغبة حكومة أولمرت في شطب حق العودة للاجئين، إنما يفرض على الفلسطيني المفاوض القبول بما لا طاقة له على التفريط به. والأهم ان سيد البيت الأبيض المهرول الى الفرصة"التاريخية"في السنة الأخيرة من ولايته، يحشر السلطة الفلسطينية بين فكي كماشة: إسرائيل التي ستحاول ابتزاز محمود عباس ليرضخ لموجبات"الصفقة"الشاملة وليقدم ورقة الاعتراف بشطب حق العودة، مثلما ابتزت الرئيس الراحل ياسر عرفات في ملف القدس، فانتهت المفاوضات معه الى الصفر. أما الفك الآخر فهو سلطة"حماس"التي منحها بوش وأولمرت فرصة ذهبية لتعزيز طروحاتها، إذ تدلّل على ان الجوهر الديني هو المنحى الحقيقي للصراع، بعدما"انكشفت"خطة إسرائيل اليهودية. والأرجح انها ستتحول رصاصاً في بنادق الإسلاميين و"حماس"الذين سيقذفون عباس وسلطته بحمم التخوين والتفريط، فتنفلت مجدداً حروب الإخوة الأعداء. وكعادته، لم يتأخر بوش في إثبات عشوائية"استراتيجياته"، حين ساوى في خطة انابوليس بين تفكيك إسرائيل التوسع الاستيطاني وتفكيك عباس البنى التحتية ل"الإرهاب". فتصبح المعادلة جزرة وقف الاستيطان مقابل تحريض"فتح"على اقتتال بلا نهاية مع"حماس". ولأن أولمرت يعامل الفلسطينيين ب"عدالة"إسرائيلية، لا يفرّق بين الضفة الغربية وقطاع غزة، إذ يشدد الضغوط على"أبو مازن"للتخلي عن"تلكؤه"في"مكافحة الإرهاب". وحين يلح رئيس الوزراء الإسرائيلي على أولوية التطبيع مع الدول العربية، في مقابل مجرد بدء التفاوض على الوضع النهائي الفلسطيني، يقدم ل"حماس"سلاحاً آخر للطعن في جدية المفاوضات، وذريعة للارتياب بوجود خطة شاملة، بين أركانها قطف رأس الحركة... فيما المؤسسة الأمنية الإسرائيلية توصي أولمرت بالمماطلة مع عباس، وعدم استعجال تطبيق خريطة الطريق. لكن"حماس"نفسها هي الضلع الثالث في مربع الحصار الذي يطوّق المسار منذ اليوم الأول للمفاوضات. فرفض الحركة المبادرة العربية للسلام، والعودة الى شعار"أرض فلسطين من البحر الى النهر"، سيعنيان شراء مزيد من أطواق العزلة العربية - الأوروبية التي تعانيها"حماس"منذ وضعت يدها على قطاع غزة. وسيعنيان ايضاً زيادة نقمة الفلسطينيين المحاصرين في القطاع، على استعداء الحركة الإجماع العربي حول المبادرة. اما الحصن الأخير ل"حماس"فهو الضلع الرابع، الغائب الحاضر في انابوليس، ايران المتأهبة للانقضاض ب"الممانعة"على نتائج الاجتماع الدولي، عبر مؤتمر مضاد يمهد لحرب على سلطة عباس، تخوضها طهران بالفصائل الفلسطينية المعارضة. وحيث يتحدى خامنئي"مؤتمر الخريف"في انابوليس، بالتنازع على شرعية تلك السلطة، يجدر ترقب فصل آخر من الصراع الأميركي - الإيراني على المنطقة. وأما رغبة بوش في إغراء سورية بتحريك مسارها مع إسرائيل، في مقابل إطلاق المسار اللبناني الداخلي، فهي مسعى آخر لتفكيك التحالف السوري - الإيراني، ما زالت دمشق تعتبره غير مضمون النتائج، ولا الكلفة. أنابوليس، مجرد بداية لحقبة مكلفة، وإذا كان الإسرائيلي يناور كالعادة باستعداده ل"تنازلات مؤلمة"، فالسؤال الكبير الذي يبدو جوابه الآن أشبه باليقين، هو مَن سيتألم أكثر؟