لو التفت متفرج صالة كارزون اللندنية السينمائية، صوب غرفة العرض في ذلك اليوم الشتائي البارد من عام 1971، لكان قيض له أن يرى مشهداً تاريخياً، تتحدث عنه الكتب والدراسات ولكن ندر لأحد أن شاهده فعلياً: في المشهد المخرج الأميركي ستانلي كوبريك، الذي كان مقيماً في لندن في ذلك الحين بعدما بارح بلاده الأميركية ضجراً وغضباً. وفي تلك اللحظة كان كوبريك قد جاء متخفياً بعض الشيء ليتابع انطلاقاً من غرفة العرض، النواحي التقنية المتعلقة بذلك العرض الأول لفيلمه الجديد في ذلك الحين"البرتقال الآلي". وكانت تلك عادته: يشاهد الفيلم مع الجمهور من ذلك المكان ويضبط الصورة والصوت متأكداً من أن كل شيء على ما يرام. في غرفة العرض أبدى كوبريك سروره وكذلك أبدى رضاه عن رد فعل الجمهور الحاضر في الصالة إزاء الفيلم. لكنه لم يكن يعرف أن الرقابة الإنكليزية ستمنع فيلمه ذاك من العرض بعد أيام قليلة بسبب إفراطه في اللجوء الى العنف في موضوعه ومشاهده. وأن الفيلم سيظل ممنوعاً، في بريطانيا، لفترة طويلة. لكن بريطانيا لم تكن البلد الوحيد الذي منع"البرتقال الآلي"يومها. وثمة بلدان لا تزال تمنعه حتى اليوم على الأرجح. وفي المقابل، نرجح أن ما من بلد منع تداول الرواية التي اقتبس كوبريك الفيلم عنها، وهي تحمل العنوان نفسه وتوقيع أنطوني بارغس أحد كبار الروائيين البريطانيين في النصف الثاني من القرن العشرين. صحيح أن الرواية بدورها عنيفة، ولكن الفارق كبير بين أن يتحول الحديث عن العنف الى كلمات، وأن يتحول الى صور. غير أن كوبريك، وكذلك كانت حال بارغس من قبله، لم يكن راغباً بالطبع في أن يدعو في"البرتقال الآلي"الى العنف، بل أكثر من هذا: كان يتطلع الى التنديد به والى إفراغه من مبرراته، ومن ثم تصوير أكثر من أسلوب لممارسة العنف، ستقول لنا نهاية الفيلم، أن الجسدي كان أسهلها، في مقابل العنف السلطوي الذي مورس على ممارسي العنف أنفسهم، في محاولة اجتماعية نفسية، لتدجينهم. مهما يكن فإن"البرتقال الآلي"يبقى حتى اليوم واحداً من أكثر الأفلام عنفاً في تاريخ السينما، شرط أن ننحي جانباً أعمالاً كثيرة بدورها عنيفة ولكن في شكل مجاني، أي من دون فاعلية. أما"البرتقال الآلي"فإن عنفه فاعل وخطير. أو هذا ما رأته الرقابة الإنكليزية على الأقل. موضوع الفيلم يبدو، للوهلة الأولى بسيطاً: في مستقبل لندني غير بعيد من الزمن الذي صور فيه الفيلم ? خصوصاً أن ثمة ما يوحي على رغم مستقبلية الفيلم بأننا لا نزال في عهد إليزابيث الثانية -. في ذلك المستقبل يقوم لنا الفيلم مجموعة من الشبان الذين يعيشون حياة متحررة من كل قيد، وحتى من قيود اللغة طالما أن اللغة التي يستخدمونها في ما بينهم هي مزيج من الإنكليزية والروسية والهمهمات غير المفهومة لغيرهم. وهؤلاء الشبان يتحلقون في نوادي شرب الحليب، من حول زعيمهم الشاب اليكس دي لارج يذكر اسمه بالاسكندر الكبير طبعاً، ويمارسون عنفهم وحياتهم المنفلتة على إيقاع واحدة من أجمل وأروع سيمفونيات بيتهوفن: التاسعة. بل إن اليكس وقام بالدور مالكولم ماكدويل في واحد من أقوى أدواره إطلاقاً، يعيش الحال الموسيقية البيتهوفنية حتى أعماق روحه، الى درجة أنه لاحقاً حين يقبض عليه المجتمع والسلطة، يعاقب هو بدوره على إيقاع تلك السيمفونية. وهنا ربما يكون علينا أن نلفت النظر الى الحضور القوي للموسيقى من بيتهوفن ومن غيره، وصولاً الى موسيقى الكترونية صاغها والتر كروس، الذي كان في ذلك الحين يتحول الى أنثى تحمل اسم وندي -. وهو حضور معهود دائماً في سينما كوبريك. ولعل من المفيد في هذا السياق أن نذكر أن المشروع الأول لتحقيق"البرتقال الآلي"كان يفترض أن يقوم أعضاء فريق الرولنغ ستون بأدوار الشبان، بما في ذلك دور اليكس دي لارج. هؤلاء الشبان يدورون خلال القسم الأول من الفيلم، من مكان الى آخر ممارسين أقصى درجات العنف لا سيما ضد موسيقى كهل يغتصبون زوجته ويقتلونها وشيء مثل هذا كان الكاتب انطوني بارغيس قد تعرض له على يد عصابة شبان، ما دفعه أصلاً الى كتابة الرواية متسائلاً، بسخرية، ما هو مستقبل البشرية إزاء ذلك الانفلات العنفي. لكن هذا كله لا يشكل سوى القسم الأول من الفيلم. أما القسم الثاني، فيقوم على اعتقال اليكس من قبل السلطات، خصوصاً بعد أن يكون رفاقه أنفسهم قد انضموا الى سلك الشرطة، وصاروا يساهمون في معاقبته. أما هذه المعاقبة فتقوم في تدجين اليكس الى درجة لا يُكتفى معها بأن يفقد القدرة - أو حتى الرغبة على ممارسة العنف، بل يصبح مطواعاً يتحمل الإهانات وعنف الآخرين من دون أن يبدي أي رد فعل. ومن هنا عبارة"البرتقال الآلي"التي عنون الفيلم بها. فذلك النوع من معالجة نزعة العنف، الذي مورس على اليكس، حوله الى خرقة لا حياة فيها ولا حيوية. ومن الواضح أن هذا التحول لا يرضي ستانلي كوبريك الذي نجده في المحصلة النهائية يعتبر هذا التدجين عنفاً لا يقل قوة وإهانة للكائن البشري عن العنف الجسدي الذي يمارسه هذا الأخير. بهذا التفسير والتأكيد يكون ستانلي كوبريك قد افترق، ضمنياً، عن رواية بارغيس - أو لعله أعاد تفسير ما كان يريد هذا الأخير أن يخلص إليه لكنه لم يفعل، علماً أن بارغيس أبدى دائماً رضاه عن اشتغال كوبريك على روايته التي كانت صدرت للمرة الأولى سنة 1962 -. والحقيقة أن هذا الافتراق يعتبر أساسياً في تعامل كوبريك الدائم مع الكتّاب الذين كان اعتاد أن يقتبس أعمالهم للسينما مطوّعاً هذه الأعمال لمفاهيمه الخاصة، لا سيما منها المفهوم الذي يمكن تلخيصه بفكرة أساسية تقول: في البدء كان الجنون. ففي هذا الفيلم صور كوبريك بقوة، العنف، لكنه صوره كي يصور الجنون من خلاله: جنون اليكس وصحبه، ولكن جنون مجتمع القمع"الهادئ"أيضاً. هذا القمع الذي لم يفت المخرج أن يصوره وهو يمارس من قبل سلطات فرحة بنفسها، أمام أجهزة الإعلام التي لا يقل فرحها بما يحدث عن فرح السلطات. والحقيقة أن مخرجاً طوّع نصاً عن سبارتاكوس، وآخر عن الحرب العالمية الأولى "خطوات المجد"، وثالثاً عن الحب وجنونه "لوليتا" ثم نصاً لتاكري عن الانتهازية والصعود الطبقي في إنكلترا القرن الثامن عشر "باري لندون" وصولاً الى جنون الحاسوب الآلي في"أوديسا الفضاء" والحرب النووية وجنرالاتها الأميركيين "دكتور سترانجلاف" وحرب فيتنام في"سترة معدنية كاملة"، مخرجاً مثل هذا ما كانت لتفوته إمكانية تصوير الجنون في حالته المطلقة من خلال نص بارغيس الذي كان أكثر مستقبلية وأقل جنوناً وأشد طرافة في شكله الأدبي. ولا بأس أن نذكر هنا بأن كوبريك في"البرتقال الآلي"وضعنا منذ اللقطة الأولى للفيلم صورة تملأ الشاشة لوجه اليكس المكحّل وهو ينظر إلينا بجنون ونزق، في قلب عالمه وفي قلب عالم الجنون، إذ يعرف متابعو أعماله أن لمثل هذه اللقطة وجوداً، وبالتعبير والمعنى نفسه، في معظم أفلامه، لا سيما في لحظة العنف والرعب القصوى في"الاشراق"من بطولة جاك نيكلسون، حين ينكشف جنون هذا داخل الفندق الجبلي المعزول، ويبدأ مطاردة زوجته وابنه الصغير لقتلهما. ستانلي كوبريك 1928 - 1999 لم يحقق طوال نصف قرن سوى 13 فيلماً طويلاً، ربما يكون"البرتقال الآلي"أشهرها بفضل تصدي الرقابات له. ولكن كذلك لمزايا ذاتية فيه تجعله صنواً لأعمال كبيرة أخرى لكوبريك الذي بعد بدايات أميركية سينمائية جيدة، تلت تحوله من مصور فوتوغرافي الى مخرج سينمائي، من دون أن يدرس أياً من الفنين رسمياً أو أكاديمياً، بارح الولاياتالمتحدة ليعيش ويعمل هناك، محققاً ما معدله فيلماً واحداً كل 5 أو 6 سنوات. غير أن أفلامه، على قلة عددها وتباعد المسافة الزمنية بين تحقيق كل اثنين متتاليين منها، تعتبر، وكل في مجاله وموضوعه، من الأفضل بالنسبة الى النوع. وهذا ينطبق على"أوديسا الفضاء"كما على"دكتور سترانجلاف"وپ"باري لندون"وغيرها. [email protected]