الجنون والعبثية كما يتعامل معهما ستانلي كوبريك في سينماه، هما عصب «سترة معدنية كاملة» (1986) الفيلم الذي به ساهم هذا المبدع في الحديث عن حرب فييتنام. فهذا الفيلم ينقسم الى قسمين، شبه متساويين، في الأول نشهد عملية تجنيد وتدريب المجندين الذين سيلحقون بالحرب الظالمة والعابثة التي تخوضها القوات الأميركية في الهند الصينية (فييتنام تحديداً). هنا لدينا الجنون المطلق، في العلاقة بين المدرّب (وهو من قدامى حرب فييتنام) وبين المجندين. وهذا الجنون يتبدى، خصوصاً، في اللغة، لغة التخاطب بين الملازم والجنود، لغة قارصة عنيفة مبتذلة، مهمتها ان تحوّل الشبان الآتين حديثاً من أجوائهم العائلية ومن مدارسهم الثانوية الى قتلة أشرار. هذه اللغة هي التي تدفع واحداً من الجنود الى الانتحار في المرحاض بإطلاق رصاص بندقيته على نفسه. وهذا الجنون يستبق الجنون الآخر الأكبر: جنون الحرب نفسها، هذه الحرب التي يقدم لنا كوبريك في القسم الثاني من الفيلم جانبها العبثي من خلال المعركة الوحيدة التي نشهدها وتشغل النصف الثاني من الفيلم كله. هل نحن هنا، حقاً، أمام معركة من معارك حرب فييتنام؟ لقد صوّر المشهد بأكمله في مصنع نصف مهدّم، متوقف عن الانتاج في الضاحية اللندنية. والمعركة العنيفة التي يخوضها جنود أميركيون مدججون بالسلاح، سينكشف في النهاية أنها معركة ضد مقاتل فييتنامي واحد، والأدهى من هذا سيتبين ان المقاتل، امرأة. من جديد، الجنون يقود في سينما كوبريك الى العبثية، والمعركة تنكشف على حقيقتها: أدواتها وثمنها أكبر بكثير من غايتها ونتيجتها. عندما عرض «سترة معدنية كاملة» دهش الكثير من النقاد أمام قسمين للفيلم يبدوان لا علاقة عضوية بينهما. ولكن تماماً كما أن أجزاء «أوديسا الفضاء» تبدو منطقياً غير ذات علاقة في ما بينها، ها هي الأمور تكشف بالتدريج: إن المقدمات تؤدي الى النتائج. ستانلي كوبريك أراد أن يقول – مثلاً – إن كل هذا الإعداد وكل هذه الجهود لتحويل المراهقين الأميركيين الى جنود، حولتهم الى قتلة عابثين عبثيين. وهذا التفسير هو الوحيد الذي يمكنه أن يبرر ربط كوبريك لقسمي الفيلم. «سترة معدنية كاملة» كان رابع فيلم يحققه ستانلي كوبريك عن الحرب، بمعنى ان الحرب، في شكل عام، شغلت ثلث مساره السينمائي: من الحرب العالمية الثانية (في «خوف ورغبة») الى الحرب العالمية الأولى (في «دروب المجد») الى الحرب النووية الجنونية – حرب المستقبل – (في «دكتور سترانجلاف») الى حرب فييتنام، أخيراً. فما الذي فتن كوبريك الى الحد الذي جعله يخص الحرب بهذا العدد من أفلامه؟ بالنسبة الى كوبريك، الحرب هي المكان الذي يبدو فيه الجنون البشري معطوفاً على العبثية، في أبشع صوره وأكثرها عادية. وهنا علينا ألا ننسى بأن واحداً من المشاريع التي كانت على الدوام عزيزة على كوبريك، كان مشروعه المجهض، عن نابوليون وحروبه. ويروي الناقد الفرنسي ميشال سيمان، الذي يعتبر من أكثر نقاد العالم خبرة بسينما كوبريك ومعرفة به، ان هذا الأخير كان لا يفتأ في كل مكالمة هاتفية بينهما، يطلب منه معلومات عن نابوليون وحروبه، وعن رأي المؤرخين الفرنسيين به. طبعاً، بموت ستانلي كوبريك انطوى هذا المشروع في شكل نهائي. ومن المستحيل معرفة الكيفية التي كان كوبريك سيعالج بها هذا الموضوع. ومع هذا لدينا هنا إشارتان: أولاهما ان كوبريك كان كثيراً ما يشبه عمله على فيلم من أفلامه بتحضير نابليون لمعركة من معاركه. وهو لم يكن أبداً يخفي إعجابه الشديد بهذا القائد الفرنسي، وثاني الإشارتين يمكننا استخلاصها من نظرة كوبريك في شكل عام الى الحروب، وفحواها انه ربما أراد دائماً أن يقول، ان الحروب أمر عبثي وإن أول ضحاياها، هو جلادها. نابوليون هو الضحية الأولى لحروبه ولتطلعاته؟ إن في إمكاننا الوصول الى هذا الاستنتاج، ان نحن تفحصنا، من جديد، لعبة الجلاد والضحية في أفلام كوبريك، أو في أبرزها على الأقل. ففي «لوليتا» يقع هومبرت ضحية لولعه بالصغيرة المراهقة، وهو في قتله لمنافسه على قلبها، كلار كويتلي، إنما يضع نهاية لحياته نفسها. وفي «دكتور سترانجلاف» يقع بيتر سيلرز الذي يمثل أربعة أدوار رئيسية (الرئيس والعالم وضابط الجيش... إلخ) ضحية لجنونه ورغبته في اللجوء الى استخدام القنبلة. وفي «باري ليندون» يختلط الضحية والجلاد في شخصية هذا الأخير ويتمكن بالتالي، ابن زوجته المراهق من أن يوصله الى الجنون والى إدراك عبثية كل الصعود الاجتماعي الذي حقّقه. وفي «البرتقال الآلي» تدجّن السلطات أليكس دي لارج، بعد أن يزرع القسم الأول من الفيلم رعباً وعنفاً، وتجعل منه ضحية وديعة لتجاربها العلمية. وفي «2001 - أوديسا الفضاء» يفلت الكومبيوتر هال 9000 من عقاله، ويجن ويقضي على رواد الفضاء فيكون مصيره التفكك والزوال. وفي «إشراق» ينحدر جاك تورانس الى جنونه والى الجريمة، لكنه هو العاجز عن كتابة روايته، يعجز عن القضاء على ضحاياه، فتكون النهاية العنيفة نهايته بدلاً من أن تكون نهاية الضحايا. وفي «سترة معدنية كاملة» يقضي المجندون الأميركيون على المقاتلة الفييتنامية الشابة، لكنهم لن يفلتوا من انهيارهم هم الذين تأخذهم الحرب في طاحونتها... الخ. إنه الإنحدار الى الجحيم بالتأكيد.. غير ان النهايات التي تأتي على هذه الشاكلة، لا تنضوي في سينما ستانلي كوبريك، ضمن إطار رغبته في أن يجعل من أفلامه دروساً في الأخلاق. شخصياته ليست شريرة في طبعها لكي تستحق هذه النهايات. بل ليس ثمة شرّ في الأمر على الإطلاق. ربما يكون أليكس دي لارج (في «البرتقال الآلي») والجنرال والعالم سترانجلاف (في «دكتور سترانجلاف») شخصيتين عنيفتين، لكنهما في نهاية الأمر ليسا أكثر من نتاج لظروف أكبر منهما وأكثر عمومية، ظروف تجعل من الصعب اعتبار القرد مسؤولاً، مهما كان جنونه، عما يقترفه. إنهما في هذا مثل جاك تورانس في («إشراق») الذي توصله الى جنونه عزلته في الفندق وعجزه عن إنجاز روايته، وربما سأمه بالحياة العائلية التي تتناقض مع حياة الابداع. وهما أيضاً مثل باري ليندون الذي لا يمثل هنا نفسه الفردية بقدر ما يمثل صعود البورجوازية الهجينة في صراعها مع الرأسمالية وأخلاقها. وكذلك مثل الجنود الأميركيين الذين، في «سترة معدنية كاملة» لم يختاروا أن يكونوا جنوداً أو قتلة. ومن المؤكد هنا ان نابوليون، في المشروع الذي لم يتحقق، ما كاد ليشذ عن هذه القاعدة بين يدي كوبريك...ولعل قراءة بعض فصول الكتاب المذكور أعلاه تكفي للتيقن من هذا. * من دراسة طويلة في كتاب «سينما الإنسان» لإبراهيم العريس