قال سعيد تقي الدين، الأديب المميز بأسلوب الوخز الرحيم، في المحامي والأديب فايق الرجي، عام 1955، أي قبل أبعد من نصف قرن:"طالعتك بلذة فائقة واكتشفتك أديباً أصيلاً، فإن كنت فتياً وقاك الله الغرور، وإن كنت موغلاً في العمر فأين انتاجك؟". هذه الشهادة اقتطفتها من كلمات في المؤلف تصدرت كتابه، اليتيم، الصادر عن منشورات مجلة"الغربال"الذي وقّعه في ربيع هذا العام، تحت عنوان:"ورق الورد"وفيه حصاد اثنين وخمسين عاماً، هي كل نتاجه بعد أن أوغل به العمر، على رغم أن أديباً آخر هو توفيق يوسف عوّاد، نهره بصراحته المعهودة وبصدقه، عام 1982:"يا فايق الرجي، أنت أديب أديب، فلماذا لا تكتب؟ لماذا تطفئ الشعلة بيديك؟"وكأني به قد حاول أن يحرضه على الكتابة، وهو يصرخ في وجهه في شكل مبطن: أيها المجنون؟ لماذا اخترت الانتحار؟ هل أطفأ فايق الرجي شعلة الأديب فيه بيديه فعلاً؟ ولماذا لفّ نتاجه بورق الورد؟ ألأنه أراد أن يستغل ضعف الحواس عند الإنسان فقدّم له بشفافية مفرطة هذا النوع من المتعة، التي لا تتوافر إلا بالورد: متعة النظر، ومتعة الشم، ومتعة اللمس، ومتعة التذوق، ومتعة الوشوشة والهمسات التي بها وعليها تبنى الأحلام وتستفيق المشاعر وترقص قلوب العشاق والمحبين، وتتردد صلوات الرجاء في ليالي القلق والأرق؟ أم لأنه عمل بوصية أبي العلاء المعري فخفف الوطأ... وتأنى الى حد الوسوسة ملتزماً بأخلاقيات الروحانيات النظيفة من دنس الرياء؟ هذه الأخلاقيات التي حددت له مسراه، وبانت جرأته بسببها مستضعفة بتردده، ونكوصه، وقلقه، وحذره، وخوفه، فإذا به يخبئ الوزنات فلا يستخدمها إلا بمقدار، مقيماً لنكسات الزمان وغدره ألف حساب وحساب، فضيّع على نفسه فرص الإبداع... ورزح تحت أحمال الحياة وأعبائها، وتاه بثوب المحاماة في محراب العدالة وبين أقواس المحاكم وإضبارات المتقاضين المتربصين لاقتناص بعضهم بعضاً بأحابيل الكذب والنفاق فتحمّل الأديب فيه وزر كل الرزايا، فقلّ نتاجه في شكل سافر. فماذا نقرأ في كتاب"ورق الورد"؟ فلذات من كبده، اكتفى بها مئة وسبع فلذات فقط، سكبها من وجدانه وذهنه، كأنها مستشرفة من برج عاجي واهٍ، ترتكز حيناً على إحساس ضامر، وحيناً آخر على انفلاش مقتّر بالبخل البياني. فلذات كأنها الإبداع المنقوص، الخامد الأنفاس، لو أعطيت مداها لرقصت رقصة البلور النقي، ولكنها مخنوقة بحبكة معقدة بأوصالها وأبعاد مراميها، إنها الصور المرسومة بإحساس الغروب، وألوان الغروب، وهي تتقصّد الشروق في مداها؟ فلذات مقطّرة تقتيراً لا بحبوحة فيها ولا ترف، لا بلاغة مفرطة ببديعها ولا كمال أخّاذ وباهر بتساميه وتعاليه. سكب زجاجٍ مصهورٍ على نارٍ منفوخة يبقى بعيداً من النحت الأنيق محتفظاً ببصمات بدائيته ونمش الإتقان! من قطرات الندى، الى صياح الديكة الى زقزقات العصافير! ومن دفء المواقد الى قناديل العشايا! ومن تلاويح المناديل، الى عصا المكنسة تستعين بها الأم على تربية أبنائها! ومن صلاة المساء الى تنهيدات القلوب الكسيرة! ومن جفاف العروق في الأجساد الذابلة، الى قطاف الكروم المشرورة على الدروب، وروح العنب ينعش الأعطاف اليابسة! ومن لفتة زند الى رفّة رمش! ومن ضمير الغائب الى ضمير المستتر، فضمير المتكلم، يتنقل فايق الرجي كما العصفور الدوري لا يستقر في عش ولا على غصن. وينطنط كأنه السنجاب لا يلتزم بقضية كبرى أو صغرى ولا يناضل من أجل هدف قومي أو وطني غير السكينة والطمأنينة ومراحم الحياة! لا يستعمل الأدوات القاتلة ولا الأظافر الجارحة ولا الكلمات النابية ولا السياط اللاسعة! من هنا تعتبر العبارات والصور عند فايق الرجي مرايا نفسه ومرايا تصرفاته ومرايا مسلكه الهادئ، الصافي، النقي والخفر والوجل الذي إذا ثار كظم ثورته في داخله! وإذا انتفض أمسك بجماع أطرافه وركنها في خبايا الوجدان من دون أي التزام منه. فايق الرجي لماذا اختار"ورق الورد"عنواناً لكتابه فلم يسمه مثلاً"كتاب الورد"أو"الورد"بالذات! ألأن الأوراق تخبئ الورد وتخبئ العطر، والورد يختبئ وراء الأوراق؟ أم لأنه تعبير عن تواضع فايق بالذات! ولا همّ عند فايق إذا كان هذا الورد زاهياً أخضر، أحمر، أصفر، وردياً وحتى أبيض أم أصفر، لا همّ إذا كان لهذا الورد شميم وعبير، لا هم إذا كان يابساً مشرباً بألوان قوس الغمام وهو يقاوم الفناء والذبول، أم محنطاً بأحلام الصبايا وأنفاس العشاق ولهاث المحبين الذين تتفتق بتلات الحياة في حناياهم وتلافيف كياناتهم ووجدهم وصبابتهم! كتاب فايق الرجي هذا ولو جاء متأخراً في زمن كل من فيه يمشي على رأسه لا على قدميه، وفي زمن صار الناس عبدة الكفر، وأوغل المؤمنون المتدينون بأصوليتهم الى حد حولوا فيه الغفران الى حقد ونجاسة، يعتبر كتاب صلاة، نظيفاً من كل لوثة، نقياً، لا يخدش خفر العذارى، لا بل هو من فصيلة الأناشيد والترانيم التي تحاكي قرع الأجراس والنواقيس، وتنصح به الأمهات أبناءها وأحفادها، ويمكن أن يكون من المقتنيات الثمينة في كل بيت، رفيق الوسادة في المساء ورفيق الدروب في النزهات والسكر المذوّب في أكواب الفطور كل صباح. انه صدى لتراتيل المؤمنين وتنهدات المحبين تمجّد الكون بفجره وشروق شمسه وتعاقب فصوله وغبار أرضه ورائحة ترابه ولهاث محبيه بعباراته المخملية وصدق أحاسيسه. وهذا الكتاب يندرج في سياق الأدب النقي الذي تجلّى مع أمين نخله في بديعه بدءاً من"المفكرة الريفية"ومع فؤاد سليمان في تموزياته بدءاً من"درب القمر"ومع رشدي المعلوف في"مختصر مفيد"بدءاً من"أول الربيع"وغيرهم من أئمة البيان والبديع والرومنطيقية والبارنسية! ومن هذا المنطلق يكون الأخطل الصغير قد أنصف فايق الرجي منذ عام 1959 حين قال فيه:"ما سمعته لفايق الرجي لفتني كثيراً لتضمنه عناصر الشعر الحقيقية وإن كانت المقطوعة نثراً". يمكن في زماننا هذا اعتبار فايق الرجي في الساحة الأدبية، الحاضر الغائب! لقد اعتاد تقديم الوجبات السريعة المغذية والمفيدة، ولكنها لا تسمن ولا تغني من جوع. واعتاد قطف قفران النحل قبل أن يكتمل امتلاؤها فيظل في الشهد حسرة الامتلاء، وفي الشمع حسرة الاكتمال! ولكنه حين يسكبُ عصارة عمره الأدبي المنتقاة من كروم مختارة مخمّرة، في دنان مكشوفة على الريح والشمس فتتكاثف عليها كل عوامل الطبيعة التي يولدها الزمان طوال ما يزيد على نصف قرن، ماذا تراه يحصد وأي نوع من العصير يستخرج، غير العصير الذي فقد مذاقه وحلاوته فصار خلاً لا يُستطاب ولا يؤكل إلا ممزوجاً مع العسل. سألت فايق الرجي الذي تعود معرفتي به الى أيام البراءة، أي الى خمس وستين سنة: ماذا فعلت بورق الورد طوال هذا العمر المديد! فأجاب: خبأت فيه عمري! غطيت به سر تقاعسي وقعودي وكسلي وإهمالي ولا مبالاتي. يبّسته كعاشق مع أحلامي! وحين سألته: وماذا فعلت بالشوك؟ أجاب: وهل بقيت للشوك أسنان جارحة لم تتكسر في جسدي الفاني وفي عظامي؟ صارت أشواكه جزءاً من كياني، كريات بيضاء وحمراء تسري مع الدم في عروقي وتسمم حياتي!