"ممتن للمطر الذي أهداك إليّ"... "أشعر كأنني أولد مرة جديدة كل لحظة يبتل بها لساني بكلمة حبيبتي"... "أهدي ما أكتب إلى من أرضعتني لبن الحياة"... عبارات استخدموها للتعبير عمّا يخالجهم تجاه مَن شكّلت نقطة ارتكاز في مسيرتهم. للمرأة صورة متخيلة واحدة شرقاً أو غرباً. ويعترف الجميع بفضلها عليهم، ويحيّونها على ما قدمته في سبيلهم. محبوبة، زوجة، أماً أو أختاً، لا فرق لكنها أنثى. أنثى تركت بصماتها في حياتهم، يشكرونها على طريقتهم. صحافيون وشعراء يتوجهون إلى من ساهمت بتشكّلهم، وأثمر وجودها إلى جانبهم تحولات انعكست إيجاباً على أعمالهم. يشكرونها على مساندتها لهم، وعلى ما أضفته الى حياتهم. الى امرأة بلون الماء حبيبتي... ممتن للسماء التي أعادت خلقي من جديد، ممتن للمطر الذي أهداك إلي، ووهبني عشباً أخضر في عينيك، حين أصحو أجد شجرة لوز تشبهك مزروعة على جسدي، أحاول كسر رتابة الأشياء وتأثيث المكان كعصفور يتيم وتائه، أتردد على المكان الذي إلتقينا فيه للمرة الأولى والذي جعلته مزاري المقدس حين تغيبين، لتتركي القلب معلقاً بين الريح والريح، ممتن لك لأنك تعيدين خلقي كل يوم عشرات المرات، بك عرفت نفسي، عرفت الكون، وآمنت أكثر أن القدر أكرم مما نتخيله. تأتين كافروديت أسطورة ساحرة ونقية ومعشبة، تباغتين الغيم، وتسكبين رذاذك المعتق على وجهي، وتشرقين كشمس متوحشة، فتغيب خلفك كل النجوم الرتيبة، والباهتة، أشعر الآن بالإنعتاق من سديم الزمان، أحاول لملمة ما تبعثر من حلمي، فأجدك على ربوة النور تقطعين تذكرة للقطار الذي مر بغتة، وغاب في ردهة المستحيل، أجدك في حقائبي وبين أشيائي البسيطة، تخاتلين الربيع، وتحلمين... تُغرقين البوح وتحلمين... تكتبين بأنامل من ذهب قصيدة للغيب فيستحيل يمامة مشرعة في وجه الرحيل... ويبدأ حلمك بالتشكل من جديد ليتحول إلى كائن حي يقاسم السهول شهواتها، واشتهاءها، فأتحول بين يديك طفلاً يرى عالمه في مرآة عينيك، ويغرق في لجة من غمام. حبيبتي... أنت من يمنح شعري الحياة، ويهب الروح أحلامها، ويسكنني كقصيدة مخضبة بالسحاب، ليس لها إلا شاعر واحد، ونهر مجنون كشلال شعرك يتدفق من بين أنامل المكان، ليعطي للأشياء من حولي بهجتها وخيالها، أنت من يضع الكلمات على شفاه الليل، ويغترف القمر المسكون بصورتك، ويضعني وجهاً لوجه مع الحب، في مواجهة لا ترحم، عدّتها وعتادها قلب حنون لا يعرف السلام إلا فيك. ممتن أنا للسماء، للزمن، لك، ممتن لهما لأنهما وهباني حلماً أكاد ألمسه بأناملي، وممتن لك لأنك أعطيت الحياة من حولي أقواس قزح، أشاغبها وألعب على متنها، فتضحي السماوات أجمل... إلى امرأة اختزلت كل النساء في عيني أجمل من كل الأشياء إلا منك. أحبك. * صحافي وشاعر عُماني. إلى امرأة اختزلت كل النساء في عيني حبيبتي أشعر كأنني أولد مرة جديدة كل لحظة يبتل لساني بهذه الكلمة... منذ زهرة الحب الأولى طارت عصافير وتكونت أنهار وأزهرت آلاف من عناقيد الياسمين. كأنني حملت عطش السنين التي بدأت بعد صرخة الميلاد الأولى... وسنين أخرى لم أعرفها قبل يومي ذاك. حين تفجر نهر عطائك ألقيت سنوات عطشي ورائي كأنني لم أعطش أبداً... وكأنني لن أرتوي مهما شربت. قدمت امرأة في زمن صعب، زمن يتآكل فيه الزهر والورد، جئت خصباً وربيعاً حالماً يعطي خريطة أيامي معنى. حبيبتي... كم مرة قلتها، لا أعرف، ما اعرفه هو كأنني أقولها للمرة الأولى، وكأن سنوات عمري تبدأ خطواتها الأولى، وكأن الزمان يخضوضر في كفي فتسيل من راحتي أنهار وتزهر ورود وتتدلى كروم. حين أقول احبك أشعر كم أنت قريبة مني، كم أنت تختصرين المسافة ما بينك وما بيني لتكوني أنا وأكونك في لحظة توحد خرافية، يمر الزمن بيننا ونحن ربيع واحد، السنة تتوحد في موسم أبدي، تلك الحياة التي حين تتحول الأزمنة إلى امرأة تكون كل الزمان تورداً واخضراراً. قبلك... قبل ميلادي الحقيقي. كانت النساء تتشابه على معصم أيامي، أسماء لامرأة واحدة لها اكثر من وجه واكثر من اسم... معك... اختصرت كل النساء وصرن أنت، واحدة. فيك عرفت أمومتي واكتشفت حنان الزوجة ووهج الصديقة ووداعة الأخت، صرت اكثر من امرأة احتاجها في عصر معولم ومفخخ بالكلمات المعلبة والمفردات التي تتناقلها التكنولوجيا فخاً اثر فخ. حبيبتي: كم من العمر مر؟ منذ اللقاء الأول، كان الحب ميعاداً قديماً نسيته في الزحمة، كانت المرأة غائرة في ذاكرتي الريفية التي فقدت مشروعية الحنين إلى عالم اللطافة المفترض، في ليلة اللقاء الأول كنت المرأة الأولى التي عرفتها بعد أن طاف بي العمر بعيداً من جناح أمي، كنا غريبين يسردان دهشة الاكتشاف، رأيتك في اللحظات القليلة التي يسمح بها الزمن العصي كقريبة ولدت وشبت على غفلة مني، حملتك اليّ رغبة والدي في أن ارتبط، لم تشغلني الأسئلة والهواجس كثيراً كي أفكر وأقرر، كأننا طفلان التقيا على غير موعد ليهجسا بأحلام يريدانها معاً، للتو أغلقت العقد الثاني من عمري وكنت بالكاد تستشرفين هذا العمر، نبتنا معاً وحلمنا بأبعد حدود الكون، لم نفهم حينها كيف نكون أزواجاً ولم نسأل، اكتشفنا العالم كأصدقاء، عرفتك بأن هناك عالماً خارج حدود منزلك القديم وعرّفتني بأن هناك كوناً تسكنه امرأة... لم نلتق لنحلم بعش الزوجية ونقاتل الظروف من أجله... لم نلتق بعد عقد قراننا لنفكر في أشيائنا المشتركة، كنت أتخيل ذوقك لأرتب أثاث غرفتي الوحيدة في بيت والدي وأختار الستائر ولون السجادة. في يومنا الأول معاً بدأنا نشكل ذوقنا المشترك ونقارب ما تباعد بيننا، لم يكن الكثير لبساطة هي نحن كما ولدنا وعشنا... عرفتك فأحببتك... وصرت الملاذ الجميل الذي آوي إليه كلما زادت الحلقات حول عنقي... استوعبت ثورتي بهدوئك وتوتري بصفائك. لم نعرف شهر العسل إلا في المسلسلات، لكنني جربته كل حياتي معك، كبرنا وعبرنا السنوات، صرت أباً وصرت أماً، وما زلت ذلك العاشق الذي يبلل لسانه بكلمة احبك، ويهمس في شوق: وحشتيني. أسافر إلى أمكنة كثيرة ويبقى وجهك الأقرب اليّ من نفسي، وأرتحل في بلاد الله الواسعة وتظل روحك اقرب اليّ من روحي، في كل نجاح أراك فهو منك واليك وبك. بعد اكثر من عقد من السنوات ما زلت أترقب ذكرى يوم زواجنا لنحتفل به على طريقتنا، رسالة حب وفسحة.كمن يتنفس تحت الماء .. وإذ نراقب عصافيرنا الصغيرة تكبر فإننا نرى فيهم طفولتنا التي لم تكن تلك الطفولة الهانئة، العصافير تكبر وكبارها يحلمون بغد اكثر زهواً وأكبر مساحة للحب والعنفوان الجميل. حبيبتي: هذه هي الشعرات البيض تبدأ في ممارسة طقوسها، كأن العمر يتجول في سواد الشعر لكنه لا يمس ذلك البياض الذي آويناه قلبينا منذ اللقاء الأول... وكلما تعبنا من الأيام نرتد إلى قلوبنا التي تغدو كفرس شاب تمارس الركض باتجاه حدائق الفل والياسمين... نقولها: أحبك، فيتحول زمن الجدب إلى موسم حصاد، تنساب أغنية في عيوننا، ويزهر اللوتس والنرجس في أحداقنا... وأقولها أحبك فيهتدي عصفور إلى عشه ويطل من عل على صغائر الحياة... امرأتي... امرأة احتوتني بكلي وقرأتني تفاصيل صغيرة خبأتها في مذكرات عمرها... بدأ عمري بك، لا أريده أن ينتهي. لا ادري عن أولئك الذين يقولون أن الزواج يقتل الحب، معك بدأت ارتعاشة الحب، وسافرت إلى مدن العشق القصية وأعود في كل مرة بقلب اكثر قدرة على الحب وبعيون ترى الكون جميلاً جميلاً... يا من لونت الكون في خريطتي، لملميني قصاصة قصاصة من مفازات هذا الكون الموحشة، كلما تعبت احتاجك أكثر... ربما لأنك الصدق الوحيد في حياتي، أحس بهذا في لحظات العتمة التي تؤطرني بزوايا حادة وجارحة. حبيبتي، يا أجمل عمر، يا عمري، فاضت الكلمات ولم استطع ان اقبض على الأجمل منها كي أغرسه مشطاً عاجياً في شعرك، أنا طفلك المتعب مدي يديك لتحتويني أكثر فأكثر. * من أسرة "الحياة" كمن يتنفس تحت الماء أعلم أن معظم الكتاب العشاق سيهدون كتاباتهم إلى حبيباتهم، لكنني وفي لحظة من التحرر من أي قيد وعاطفة قررت أن أهدي ما أكتب إلى أمي، لأنها باختصار أرضعتني لبن الحياة. أماه... خمسون عاماً وربما أكثر أطفأت فتيل سنواتها، خمسون شمعة من عمرك احترقت وذابت في معترك الحياة... خمسون لؤلؤة ضاعت في خضم نهر العمر، لكنك لا تزالين صامدة كقلعة حصينة لا تبالي بعصف الرياح العاتية، كصخرة على ضفاف بحر غاضب تضطرب أمواجه بشراسة لتجعل من كل كتلة فتاتاً وذرات متناثرة، صامدة أنت في وجه هذا التيار، كأنما بينك وبينه هدنة. أماه... أي روح عالية تلك التي بين جوانحك؟... أي شمس منيرة تخبئينها في عينيك وقد بدتا تغوران كنجمتين على وشك أن تأفلا في السماء البعيدة؟... أي حنان هذا الذي جعل من شجرة حياتي معك تورق وتزهر وتثمر؟ أماه... 36 عاماً من عمري مرت كحلم ليل، كوميض برق، كسحابة صيف، كذكرى عابرة، كضحكة تبددت في الفضاء، كابتسامة خجلى من فتاة أهدتني إياها ثم ذابت في الزحام... أعلم أنك تحفظين دقائقها وثوانيها... أبحث عن سنوات طفولتي فأجدها محفوظة في قلبك... سنوات طفولتي وعمري الأول لا أتذكر منها إلا القليل... تتذكرين شقاوتي معك وأنا أعاندك، وأتذكر بكاءك بسببي كلما تصنعت البكاء، وتلك الابتسامة التي تشرق من شفتيك كلما ضحكت... هل تتذكرينني يوم أن كنت طفلاً؟... وهل تنسى الأم وليدها البكر؟... أعلم أنك متعبة جداً من كل شيء... مني أولاً لأنني كبرت وتقدم بي العمر... هل ما زلت ذلك الطفل الذي تدللين؟... ها هو غبار الزمن يلون لحيتي، وذلك هو نور الحبو ووهج الدفء يكسو شعر رأسك حتى بدا أشبه بسحابة ناصعة البياض. محفوظ معك ومحظوظ بك... تباريح وجداني كلها تنطفئ عند أول بسمة منك تلامس شغاف قلبي... عذاباتي التي أتجرعها، آمالي وآلامي، كلها تذوب كلما شعرت بأنني قريب منك، فمعك أعيش في جنة عرضها سماوات وجدانك وأرض محبتك. أماه. اسكبي علي بركاتك! أليست الجنة تحت أقدام الأمهات؟ أمطري علي شآبيب رحمتك! أليس رضا الله من رضاك؟ دثريني بحنانك، فمناخ الحياة قارس ومرعب... زمليني بعطفك ورضاك، فأنا أشعر بالتعب دائماً، أشعر كما لو أنني قد بلغت من العمر عتياً، وكما لو وهن العظم مني... لماذا كلما جاءت ذكراك انتفضت كعصفور رشه الندى وبلله القطر؟ كلما داعب طيفك خيالي أشعر وكأنني في بهجة من ليلة القدر. هل تذكرين يوم مات أخي الأصغر؟ كان ذلك قبل 25 عاماً، كنت وإياه كعصفورين في عش دافئ... قبل ربع قرن من الآن انطوى بأحزانه وأتراحه، حينها صرت تنزفين دمعاً... عاماً كاملاً تبكين وتندبين أخي الأصغر الذي كان ريحانة قلبك، تمنيت لو كنت الميت... أكنت تبكين علي أيضاً؟... لا تجيبي عن هذا السؤال فأنا أعلم بعاطفتك نحوي، أنا أبنك البكر وفلذة كبدك الأولى... أتذكر ذلك المشهد جيداً يوم أن رفع جثمانه في التابوت، كنت تبكين كثيراً وكنت وحدي أبكي على بكائك... لقد مات أخي وبقيت وحدي... خلا لي الجو... حينها وحدي صرت بلا أخوة ولا أخوات ولا أصدقاء أيضاً، شعرت بأن روحي معلقة بك، وأن حبل السرة الذي كان بيننا لم ينقطع بعد. لهذا أنا الآن أشعر بالاختناق كمن يتنفس تحت الماء. * صحافي وكاتب.