صباح جديد استيقظ مبكراً... كانت الشمس تكحل سماء زرقاء إلا من غيمات متقطعة هنا وهناك. نظر الى سماء بغداد... وتذكر صباحاتها... وأسراب الحمام التي كانت تزينها... وضجيج زملائه وجيرانه وهم يتابعون رقص الحمام في سماء المدينة. كان احتفظ بكل طيوره... اغلق عليهم الأقفاص، قص بعض ريش اجنحتها... ايام طويلة من الموت والحرب والقنابل والصواريخ والطائرات مرت، وهو يدرك ان الحمام والحرب لا يتعايشان او يترافقان... طويلاً فكّر وهو يراقب سماء بغداد... تذكر وجوه من فقدهم وتفاصيل الأيام الطويلة التي مرت. نهض... فتح باب قفص الحمام... في البداية لم يصدق الحمام ان باب القفص فتح على مصراعيه... لم تخرج ولا حمامة! دخل القفص... وأخرجها... الحمام ينوح ويشتكي لصاحبه، وهو يناغيه مبشراً بصباحات جديدة، ثمة لغة مشتركة بينهما. خرج الحمام الى سطح الدار... بين الخوف والاطمئنان تقافزت الحمامات على سور السطح. امسك عصاه الطويلة المنتهية بقطعة قماش... وهش حماماته. طارت الحمامات وحلقت... وزينت سماء بغداد من جديد، نام على ظهره فوق سرير حديد قديم فوق سطح الدار. الحمامات تتراقص في السماء... وعيناه تتراقصان معها. فرح قديم مخزون، تفجّر مع سرب الحمام. سطوح المنازل الأخرى كأنها كانت تنتظر ساعة الصفر. انطلقت عشرات الأسراب من الحمامات، طرزوا من جديد صباحات بغداد، ورسموا فرح الناس. بكارة الورق في اللقاء الأول: أدهشته لوحتها، مثلما أدهشه وجهها، فيه ثمة جمال غامض قد لا يتكرر في وجوه النساء، في اللوحة ثمة ألوان تروي حكايات، وتقول ما لا يمكن ان يقال في العلن. في اللقاء الثاني: كان الكتاب رسولاً، مجموعة من إصداراته الأخيرة، وعلى غير عادة من ادركته مهنة الأدب، لم يكتب اهداء، لم يوقع او يبصم، او يختم... ظلت الورقة في صدر الكتاب عذراء. قال لها: لا أكتب إهداء لمن احب... بياض الورق اكثر نطقاً وتعبيراً... وإبداعاً، دع الورقة عذراء لم تلوث. في اللقاء الثالث: رسالتها ديوان شعر، امتلك كل العواطف، وأحاسيس امرأة لا تبوح بالأسرار بقدر ما ترسم صورة قلب يتفجر بالحب، وسفر يمتد ما بين الصمت والصمت والابتعاد، والدنو... بساتين القداح والرازقي، وبيارات البرتقال ولا عجب!! "فالله محبة" "والخير محبة" والفن محبة... والعشق سيدتي... نهاية طريق المحبين. حين فتح كتابها... لم يجد إلا ثمة ارقاماً كتبت بأناقة... ادرك انها ارقام هواتفها. في اللقاء الرابع... والخامس... والسادس... و... عانق عينيها وهمس في اذنها: - ألم أقل لك حبيبتي، اتركي بكارة الورقة الأولى، دعيها بيضاء كالثلج، نقية كعذراء، عطرة كوردة... بالضرورة ستمتلئ الكلمات وإن كتبت بالحبر السري...! حبر سري بعد سنين... كان خلالها يكتب بالحبر السري حكايتهما... كان جل ما يخشاه ألا يجد حيزاً في ورقته البيضاء، مثلما كانت تخشى ان تزدحم الكلمات. ذات يوم، حاولا ان يقيسا مساحة البياض المتبقي في ورقتيهما... استغربا... كانت الورقة بحجم المدى، وعمق البحر، وبعد السماء. لم يقرآ سوى كلمات الحب التي شكّلت الحياة. أدركا ان الحب هو الوحيد الذي يعانق المدى، ولا ينام في ظلام الأزقة... إنه في كل منعطف من مسيرتهما، وما عاد الحبر السري يخبئ الحب... بل كان يلونه بكل ألوان قوس قزح. كانا يكتبان... عن الحب الذي شكّل حياتهما... عن كل حزمة ضوء تشرق كل فجر، وعن آلاف النجوم التي تطرز ليالي العشاق. بعد مئات الأعوام لم يبق إلا الورق... كان العشاق... كل العشاق... لا يقرأون إلا ورقهم الأبيض، المكتوب والمطرز بالشوق، وبكل ألوان الأحبار التي عرفها البشر. * كاتب عراقي مقيم في الإمارات