تطرقت المحادثات التي جرت بين العاهل السعودي الملك عبدالله والبابا بنيديكتوس الى قضايا ذات اهمية مشتركة بالنسبة الى اوروبا والمنطقة العربية. وافصح بيان الكرسي الرسولي عن جانب من هذه القضايا اذ اشار الى ان الجانبين جددا الالتزام بالتعايش بين الشعوب والتعاون بين المسيحيين والمسلمين واليهود للنهوض بالسلام والقيم الاخلاقية. وربما لا تخرج هذه الاشارات والتأكيدات عن التعابير المألوفة التي تتضمنها البيانات المشتركة بين الكرسي البابوي من جهة، وضيوف الفاتيكان من القادة العرب. الا ان شخصية كل من العاهل السعودي ورأس الكنيسة الكاثوليكية وظروف الزيارة تضفي على الكلمات التي صيغ بها البيان الفاتيكاني دلالات اضافية. الملك عبدالله لا يحكم البلد ذا الاقتصاد الاكبر في المنطقة فحسب بل هو ايضا رئيس القمة العربية، وبلاده تلعب دورا حاسما في منظمة المؤتمر الاسلامي يُستمد من دورها الديني. فضلا عن ذلك، فإن التطورات الاقليمية، مثل حرب العراق وارتفاع اسعار النفط، عززت دور السعودية داخل منظمة الاوبك. فبينما كان احد اغراض الغزو الاميركي للعراق، كما ارادها المحافظون الجدد الاميركيون، التخفيف من الاعتماد الاميركي على النفط السعودي، انتهت الحرب الى مزيد من الاعتماد الاميركي عليه. وفضلا عن الاهمية المتزايدة للسعودية، فإن الملك عبدالله استطاع ان يوطد مكانته داخل بلاده عبر نسج تحالفات شملت، في الوقت نفسه، اوساطا اصلاحية ومحافظة. وكما افتقر البابا بيوس الثاني عشر الى الدبابات خلال انعقاد قمة الثلاثة الكبار في يالطا، فإن البابا بنيديكتوس لا يملك النفط او اسباب النفوذ المادي. ولكن الفاتيكان يكتسب المزيد من التأثير والنفوذ بسبب نمو النزعة الدينية في المجتمعات الكاثوليكية، وبسبب المواقف القوية التي يتخذها تجاه القضايا الدولية الكبرى. فالفاتيكان لم يتمكن من منع حرب العراق، ولكن موقفه السلبي منها ساهم الى حد بعيد في حرمان ادارة بوش من التغطية المعنوية ومن المشروعية الدولية اللتين سعت الى الحصول عليهما. وكما امكن للعاهل السعودي ان يوطد مكانته داخل بلاده، فإن البابا تمكن من ترسيخ مكانته حتى قبل ان يصل الى السدة البابوية. فبفضل مكانته هذه كان يتقدم على اقرانه وحتى على رجال الدين الذين سبقوه في الاقدمية وفي المرتبة الدينية في تمثيل الفاتيكان في المحافل الدولية والمؤتمرات الدينية. فضلا عن هذه الاعتبارات التي تضفي على الالتزام بالتعايش المزيد من المصداقية، فإن هناك اعتباراً آخر ومهماً يتمثل في حرص الزعيمين على هوية المنطقة التي ينتميان اليها. فالملك عبدالله دأب في كلماته ومواقفه على التأكيد على اهمية احترام الهوية العربية، كما فعل عندما وجه نداء يحث فيه القيادات الفلسطينية على انهاء الصراع المسلح في ما بينها. والبابا بنيديكتوس لا يفتأ يعبر عن حرصه على الهوية الاوروبية، كما فعل بمناسبة الذكرى الخمسين لبدء مسيرة الاندماج الاوروبي. فالالتزام بالتعايش ينطلق من احترام مصالح الآخرين وتطلعاتهم وحقوقهم. وهذا الالتزام والاحترام يوفران اطارا مناسبا لقيام علاقات سليمة ومثمرة بين الجانبين، وكذلك لقيام تعاون حثيث من اجل التغلب على مشاكل مشتركة تواجه الطرفين. ولعل اهم هذه المشاكل التي جرى بحثها مرارا بين القيادات العربية والقيادات الاوروبية، والتي بحثت ولا ريب خلال جولة الملك عبدالله الاوروبية، هي مشكلة التعصب الديني والقومي الذي ينمو على ضفتي المتوسط والذي يقوم على انكار الهوية الدينية المغايرة. وترتدي هذه الظاهرة احيانا ظاهرة التعصب الاسلامي ضد الدين المسيحي وضد الشعوب التي تعتنق المسيحية، كما يرتدي طابع التعصب المسيحي ضد الاسلام وضد الشعوب التي تعتنق الاسلام. وفي ذلك خطورة كبيرة لأن مثل هذا التعصب يؤثر على العلاقات بين الدول وعلى السلام العالمي. فالتعصب الديني لعب دورا في تهيئة مناخ الحرب ضد العراق. والتعصب الديني يلعب دورا مهما في التحريض حاليا ضد السودان. كما ان التعصب الديني يلعب دورا مهما في التحريض على القيام بالاعمال الارهابية في دول اوروبا. الطابع الآخر الذي يرتديه التعصب الديني والذي لا يقل خطورة عن الاول هو التعصب الاسلامي ضد ابناء الطوائف المسيحية في الدول العربية والتعصب الديني والقومي ضد العرب المقيمين في دول اوروبا. التعصب ضد المسيحيين العرب ادى الى هجرة مسيحية واسعة بخاصة من العراق الذي خسر حتى الآن مئات الالوف من ابنائه المسيحيين. التعصب الديني والقومي ضد العرب لن يدفعهم الى الهجرة ولكنه يهددهم بأخطار كبيرة خاصة مع نمو الاحزاب والحركات النيوفاشية والنيونازية. الشعارات التي تطلقها هذه الاحزاب والأساليب التي تلوح بها في محاربة الهجرة تجعل الكثيرين يعتقدون انها بصدد التحضير ل"هولوكست"جديد ضد العرب هذه المرة، وبمباركة كاملة من نشطاء صهاينة لا يكفون لحظة عن التحريض ضد العرب الاوروبيين. ان حملات التحريض والتهجير ضد العرب الاوروبيين وضد المسيحيين العرب، لن تؤثر عليهم فحسب، ولكنها سوف تؤثر على مصير الديموقراطية في اوروبا وفي الدول العربية. انها سوف تدفع اوروبا الى التراجع المستمر عن الانظمة الديموقراطية باتجاه اقامة انظمة بوليسية تضبط الهجرة وتداعياتها المحلية. كما انها سوف تساعد في تكريس الانظمة المطلقة في البلاد العربية لان الاتجاه نحو التعددية السياسية يقترن عادة بالاعتراف بالآخرين وبمعتقداتهم الخاصة. وكما كانت زيارة العاهل السعودي الى الفاتيكان مناسبة للحديث عن التعايش بين الاديان، فانها كانت ايضا مناسبة للتحدث عن اثر التعايش بين الاديان على لجم اعمال الارهاب والعنف على النطاق الدولي. ولا ريب ان مكافحة التعصب الديني بسائر اشكاله وتجلياته سوف تساهم في الحد من انتشار منظمات الارهاب، وتحرمها من مناخ فكري ونفسي يفيدها في نشر معتقداتها واجتذاب المؤيدين والمحازبين. ولكن فيما يرى الكثيرون في الغرب ان الارهاب هو ظاهرة عربية المنشأ والدوافع والخلفيات، فانهم يغفلون مسؤولية الغرب عن نشوء هذه الظاهرة وتفاقمها. وليس المقصود هنا هو الدعم الصريح الذي قدمته - ولا تزال تقدمه - دول غربية ومنها الولاياتالمتحدة الى بعض المنظمات الارهابية. المقصود هنا هو السياسات الخاطئة التي تنتهجها دول غربية فتفرش الطريق امام المنظمات الارهابية لكسب الانصار والمؤيدين على حساب قوى الاعتدال والاصلاح في المنطقة. ان الموقف تجاه الارهاب الدولي يصلح في حد ذاته كمثال على تلك السياسات الخاطئة. فدول الغرب لا تزال تتجنب تقديم تعريف صريح للارهاب واعتماد هذا التعريف كهدف تتفق سائر الدول على محاربته ومكافحته. والاصرار على مثل هذا الموقف يرتبط بالرغبة في احتكار حق تصنيف الارهابيين في العالم بحيث باتت تستخدم احيانا بصورة تبادلية مع توصيف القوى التي تعارض سياسات ومشاريع هذه الدولة الغربية او تلك. ثم ان بعض دول الغرب تحصر صفة الارهاب، بصورة تعسفية ومعرقلة للحرب على الارهاب الدولي، بإرهاب المنظمات والافراد، بينما ترفض رفضاً باتاً التعرض الى ارهاب الدول وادانته ومعاقبة مرتكبيه كما هو الامر مع ارهاب المنظمات والافراد. ان مثل هذا الغموض المتعمد في بحث قضايا الارهاب وفي تحديد اهداف ووسائل الحرب عليه ليس خطأ عاديا يعالج بالجهود العادية، بل انه نهج متعمد وهو يسلط الضوء على جذر رئيسي ان لم يكن الجذر الرئيسي لظاهرتي التعصب الديني والارهاب في المنطقة العربية. فالظاهرتان هما في الاساس نتيجة ردود فعل خاطئة على سياسات عدوانية مارستها دول غربية وفي مراحل تاريخية مختلفة وبأشكال متنوعة ضد العرب وضد المصالح العربية. ويخطئ من يظن ان هذه السياسات العدوانية تقتصر على الظلم الذي الحقه الغرب بعرب فلسطين، فما يحصل في العراق اليوم لا يقل خطورة عما جرى في فلسطين، وما يُعد للسودان وللبنان في الغد قد لا يقل خطورة عما يجري في العراق اليوم. وينبغي الاعتراف بأن هذه السياسات الغربية لا تنكر"الآخر"العربي. بالعكس انها تعترف بوجوده، واحيانا تعظم وجوده، ولكن كي"تؤبلس"وتشيطن هذا الآخر وتحوله، في نظر المواطنين العاديين في الغرب، الى عدو لا يصح التعاطي معه الا بلغة الحديد والنار. قطعا العرب لا يريدون مثل هذا"الاعتراف"بهم، ولعلهم يفضلون لو ان الذين يمارسون مثل هذا الاقرار بوجود العرب وببأسهم وجبروتهم ينسون كل ذلك ويسحبون مثل هذا الاعتراف بالعرب. اما ما يريده العرب فهو ان يحل محل هذه النظرات العدوانية، تعاون وتعايش حقيقيان. ولعل لقاء العاهل السعودي والبابا يتحول الى مساهمة مجزية على هذا الطريق. * كاتب لبناني