خلف عبارة العمل الخيري في روسيا تظهر أمور بعضها لم يكن معروفاً في السابق، بدءاً من"حيتان المال"الذين بدأ بعضهم يلتفت الى اهمية تقديم تبرعات تأتي من خلال اعادة تحف ومقتنيات اثرية كانت سُرقت من روسيا، وكذلك دفع رواتب للطلاب والمبدعين الموهوبين المعدمين، وصولاً إلى من يدفع آخر كوبيك في جيبه الى فقير يصادفه في الشارع. وإن كانت أبرز هذه المظاهر تتجلى في باص"رحيمي القلوب"الكبير الذي يجوب شوارع موسكو، ومهمته التقاط المشردين وخصوصاً صغار السن، وتأمين أسر جديدة لهم. وأمثلة أخرى، منها مجموعات كرست حياتها لجمع الاموال لبناء ملجأ للاطفال، او لرعاية المرضى، وايجاد متبرعين دائمين بالدم. وتجول يومياً طرقات موسكو، سيارة إسعاف تختلف قليلاً عن السيارات المماثلة، إذ انها متخصصة في تقديم الخدمات الصحية لمن لا يحمل أوراقاً ثبوتية ولا بطاقة تأمين صحي، وهؤلاء لا يتلقون الخدمات الصحية في المستشفيات العامة، او على الاقل لا يملكون ثمن تلك الخدمات. السيارة ملك لصندوق"فال هوسبيس انترناشيونال"الذي تأسس أخيراً في روسيا ليحقق حلم راود مديرته العامة اليزابيتا غلينكا لمدة عشرين عاماً شهدت فيها روسيا كثيراً من التغيرات. ويمكن القول باختصار ان مفهوم العمل الخيري بدأ يعود الى روسيا. بعد أن كان في العهد السوفياتي ساد اعتقاد بأن الاعمال الخيرية"انعكاس لمرض في مجتمع طبقي"لا يعاني منه الاتحاد، باعتبار ان حاجات الشعب بكل فئاته متوافرة من جانب السلطات السوفياتية، وعلى رغم ذلك تجلى العمل الخيري بأشكال اخرى مثل فرق الطلائع التي كانت تساعد العجزة، ومجموعات الشبان التي كانت تجمع الاموال والملابس لترسلها الى المحتاجين في اوقات الحرب او الكوارث الطبيعية. بعد انهيار الاتحاد لم يعد العمل الخيري يتخفى وراء اقنعة او شعارات ايديولوجية. واذا كان الروس في مطلع تسعينات القرن الماضي يعتمدون على مساعدات من الخارج فقد انتشرت الآن ظاهرة المؤسسات الوطنية المتخصصة في البحث عن سبل تقديم مساعدات لمن يحتاج. وبحسب احصاء أُجري عام 2005 فإن الشركات الروسية تنفق سنوياً 11في المئة من مداخيلها على العمل الخيري، وان كل شركة تجارية تضع موازنة خيرية كاملة في كل عام، لكن ثمة عوائق جدية تعترض حالياً نمو العمل الخيري في روسيا، وعلى رأسها النظام الضريبي وهو موضوع يجد حلولاً بحسب رأي الخبراء ولكن ببطء شديد. المشكلة الثانية الكبرى هي ان غالبية الروس لا يعرفون شيئاً عن نشاط المؤسسات الخيرية، وبحسب دراسة متخصصة يجهل 55 في المئة من الشعب اهداف هذه المؤسسات، ومن لا يعرف يصعب عليه ان يساعد. وتقول آنا 30 سنة ان والدتها عنفتها بقوة لأنها قدمت مبلغاً الى صندوق يعنى بجمع الادوية للاطفال المحتاجين، وبررت غضبها بأن العائلة تحتاج الى كل قرش لپ"يومها الأسود". من جهة ثانية لا تتبرع ايرينا 35 سنة لأحد لعدم ثقتها بأن نقودها ستجد طريقها الى المحتاجين فعلاً. اما سيرغي 40 سنة فالمشكلة الكبرى بالنسبة اليه هي البيروقراطية، لأن عليه ان"يضيع وقتاً طويلاً في عمل شاق"عند تعبئة البيانات اللازمة لتقديم التبرعات في المصارف. وهذه مشكلة لم تجد حلها في روسيا بعد لأن التبرع عبر شبكة الانترنت ما زال ضعيفاً جداً. هناك وسائل مختلفة تلجأ إليها المؤسسات المعنية للحض على دعم العمل الخيري مثل تنظيم الحفلات الراقصة والغنائية والمباريات، كما تعلن بعض المؤسسات ان موظفيها مستعدون لزيارة المتبرعين أينما كانوا. وثمة أسلوب جديد نسبياً في روسيا، يتعبه حالياً المشرفون على برنامج"خط الحياة"الخيري، وهم يساعدون الاطفال المحتاجين الى عمليات جراحية صعبة ومكلفة مثل امراض القلب والدماغ والسرطان، اذ نُظمت اخيراً حملة بالتعاون مع شركة تجميل كبرى، ويكفي المواطن ان يشتري منتجاتها حتى يذهب قسم من امواله لمصلحة البرنامج الخيري. وجمع البرنامج منذ بدء نشاطه عام 2004 نحو 7.5 مليون دولار، وبحسب المسؤولين عن البرنامج حصل 1400 طفل على فرصة لحياة جديدة بفضل نشاطهم الذي تدعمه 18 مؤسسة داخل روسيا وخارجها، وتقول الناشطة في البرنامج، فاينا زاخاروفا:"رجال الأعمال عندنا بدأوا يفهمون اهمية القيام بتبرعات، لكن بالنسبة الينا كل تبرع محمود، ألف دولار أو خمسون روبل، كلها نحتاجها بشدة". الأعمال الخيرية، تشهد تطوراً بطيئاً، ويشكو ناشطو المؤسسات الخيرية من قلة الامكانات في شكل حاد، وعدم تحول النشاط الخيري التبرعي الى تقليد ثابت يوفّر لهذه المؤسسات دعماً مستقراً ودائماً. وتقول تشيلبان خاماتوفا احدى ناشطات صندوق"امنحه الحياة"الذي يساعد الاطفال المرضى بالسرطان، ان قلة الامكانات تجعل القائمين على الصندوق يعيشيون في رعب دائم خشية عدم تمكنهم من الوفاء بالتزاماتهم حيال اطفال بدأوا العلاج، إذ إن التبرعات لا تزال خجولة مقارنة بالمصاريف الكبيرة. وتوضح:"نعمل في ظروف قلق مستمر وقد نطلق في أي لحظة نداء الخطر سوس".