إن تفادي التمييز وعدم التسامح تجاه الذين يعتنقون الإسلام، وخلق مناخ من التعايش السليم، الذي يتيح بسهولة ممارسة مختلف العقائد أصبح يمثل اليوم ضرورة ملحة وحاجة أخلاقية لا مناص منها. وفي هذا الإطار، سأقوم بافتتاح مؤتمر منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وذلك بمدينة قرطبة، وسيتمحور حول"عدم التسامح والتمييز ضد المسلمين". إنها المرة الأولى التي سيتم فيها عقد مؤتمر دولي، في إطار منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، حول هذا الموضوع. وستشارك فيه وفود من الدول الأعضاء في المنظمة من أميركا الشمالية وأوروبا وآسيا الوسطى علاوة على الدول الشريكة من حوض البحر الأبيض المتوسط وآسيا. إننا نتحدث بالتحديد عن منطقة جغرافية يقطنها عشرات الملايين من المسلمين. ولقد عبّرت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا عن قلقها إزاء التمييز وعدم التسامح تجاه المسلمين. وقد وضعت الرئاسة الإسبانية لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا في صدر أولوياتها تطوير وترسيخ ما يسمى بالبعد الإنساني، حيث أولت اهتماما أيضا للتعامل مع مسألة اللاسامية إضافة إلى أشكال أخرى من التمييز العرقي أو العقائدي. ولقد أرادت إسبانيا أن تغتنم فرصة رئاستها للمنظمة، خلال عام 2007، من أجل مواجهة هذه المشكلة ومعالجة هذا الوضع الغريب عن قيمنا والذي لا يتفق مع أبسط مبادئ احترام الكرامة الإنسانية. ويستمد هذا المؤتمر أهميته القصوى، من كون السنوات الأخيرة شهدت تغيراً ديموغرافياً ملموساً جداً في كثير من البلدان، حيث أن المسلمين اليوم أصبحوا يعدون بالملايين في دول الاتحاد الأوروبي، بل ان في إسبانيا وحدها مئات الآلاف من المسلمين الذين يتعايشون معنا ونتعايش معهم. وتجدر الإشارة إلى أنه سبق لإسبانيا أن نظمت في عام 2005، في قرطبة، في إطار منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، مؤتمراً حول اللاسامية، وأبرزت فيه جهودها ومبادراتها إزاء هذه الإيديولوجية الحقيرة التي كثيراً ما أساءت إلى أوروبا. ويطمح هذا المؤتمر إلى تشجيع مبادئ التعايش والحوار. حيث ينبغي لروح التسامح واللقاء بين مختلف الديانات والثقافات أن تسهم في تحسين التعارف المتبادل، وتجنّب عملية تهميش وإقصاء من لا يدينون بديانتنا. فلابد إذن من مكافحة التصورات الجاهزة والأحكام المسبقة التى عفا عليها الزمن، وأن نعزز التماسك داخل مجتمعاتنا التعددية. كما أن علينا أن نتفادى التمييز ضد من يعتنق الإسلام أو من يتبع أسلوباً في حياته يتفق مع هذا الدين. وسأفتتح المؤتمر الآنف الذكر، برفقة الممثل السامي لتحالف الحضارات، الذي سيمثل الأمين العام للأمم المتحدة، الأمر الذي سيعكس الاهتمام الذي يوليه المجتمع الدولي لهذا الحدث. وستشارك في النقاش شخصيات عدة من عالم السياسة والبحث الأكاديمي والاجتماع والديبلوماسية، مع إيلاء اهتمام خاص بالمسلمين الذين يعيشون في بلدان منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، إذ أعتقد أنه حان الأوان كي نصغي إلى آرائهم. وسنتطرق إلى عواقب عدم التسامح والتمييز الذي يطال المسلمين من وجهة النظر الدولية وانطلاقا من مقاربة تقييم مدى تأثيرهما على مجتمعاتنا. إذ أن من شأن مساواة الفرص أن تعم بالنفع على الجميع، طالما أنها تمثل مبدأ أساسيا للتعايش. كما أنه لا يمكن للتمييز في سوق العمل والسكن أو التعليم إلا أن يؤدي إلى تطرف البعض. سنتحدث عن وسائل الإعلام والخطاب العام كأدوات مهمة للتصدي لعدم التسامح والتمييز ضد المسلمين. وأنا أرى أهمية بالغة لهذه القضية نظرا الى الدور الذي تضطلع به وسائل الإعلام، في تطور التصورات والسلوكيات الجماعية، بوصفها صانعة للرأي. وبالتالي فإن من الضروري أن تقوم هذه الوسائل بعملها سواء كان كتابة أو إعلاما، انطلاقا من حرية التعبير والموضوعية، لكن من دون السقوط في الأحكام المسبقة أو المواقف الذاتية. وفي السياق التربوي والتعليمي، ينبغي لأنظمتنا أن تشجع التسامح وعدم التمييز، حتى يتسنى تجاوز عدم التسامح والتمييز. حيث يجب أن يمثل هذا هدفا مشتركا تتشاطره جميع المجتمعات. وعلينا أن نروّج لصورة موضوعية عن الإسلام، من خلال التربية والتعليم. وقد أدى التمييز الذي طال الطلبة المسلمين في مجتمعات عدة إلى دفع العديد منهم إلى الفشل الدراسي والإقصاء. سنعكف أيضا على دراسة الردود النشيطة على عدم التسامح والتمييز ضد المسلمين، بما في ذلك التجارب التي شهدتها مجموعات أخرى. وهنا أرى أن تشجيع التفاهم بين الثقافات وبين الديانات سيسهل احترام التنوع والاختلاف. وفي هذا الصدد، فإن المطلوب من القوانين الداخلية للبلدان أن تأخذ بعين الاعتبار الحاجة إلى تشجيع التسامح وملاحقة السلوكيات التمييزية. وعلينا أيضا أن نولي اهتماما خاصا بتنامي عدد المنظمات الإسلامية التي تمارس عملا نشيطا وبناء في مجتمعاتها. إن عدم الاندماج ومشاكل الهوية تمثل عامل خطر اجتماعي، حيث أن مشاعر الذل والتطرف تؤدي إلى الإحباط وتبعث على اليأس. بل ان المسلمين أنفسهم مطالبون بتفادي الغموض والخطاب المزدوج وأن ينخرطوا في حياة المجتمعات التي ينتمون إليها. إن مجتمعنا يستند إلى التسامح والاحترام، وإلى حرية التعبير والتفكير، وقيم أخرى يمارسها ويتمتع بها الجميع. إنها القيم التي يجب أن تتبناها المجتمعات كافة. حيث أن تقليص الحقوق أو الحريات يضر بمعنى المجموعة والانتماء بين المسلمين وغير المسلمين. إننا كلنا مواطنون. وكل المجتمعات تكسب ثراء من خلال تنوع الثقافات الموجودة فيها. كما أن قرطبة التي ستحتضن المؤتمر، تتمتع برمزية عالية، ستساعد ولا ريب على بلورة أحسن التجارب والأفكار، بشأن قضية بهذه الحيوية لزمننا الراهن. * وزير خارجية اسبانيا