إنها قناة سويس رقمية. تلخص هذه الكلمات المعنى العميق للخبر الذي تداولته وسائل الإعلام عن توقيع"وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات"في مصر وشركة"أوراسكوم تيلكوم"أخيراً، اتفاقية تسمح بإنشاء شبكة كوابل بحرية وتشغيلها وتأجيرها لتشكل بنية تحتية للاتصالات الدولية تربط أوروبا وآسيا مروراً بمصر. وتعتبر هذه الخطوة غير مسبوقة عربياً، خصوصاً لجهة علاقة الشركات العربية في الاتصالات مع شبكات الألياف الضوئية التي تُشرنق الكرة الأرضية، حاملة معها حزماً من الاتصالات الرقمية، وخصوصاً شبكة الانترنت. ومن المعروف أن ثمة شبكتين أساسيتين للانترنت تمدان أليافهما الضوئية عبر آلاف الكيلومترات، وهما"فلاغ" FLAG اختصاراً لعبارة"فايبرو أوبتيك لاينز أراوند ذي غلوب Fibroptic Lines Around the Globe وپ"وي سي مي"We-See-me، فتصنعان الاتصالات الرقمية المتطورة التي رسمت للمجتمعات المعاصرة أفق الاتصال المستمر، فردياً وجماعياً، بين سكان المعمورة قاطبة. وترافق تلك الكوابل 3 خطوط أساسية للاتصالات الدولية، كما سيرد لاحقاً. واستطاعت شركة"أوراسكوم تيليكوم"أن ترتقي بنشاطها إلى هذا المستوى، عبر الاتفاقية المشار اليها آنفاً، إضافة إلى تحقيقها قصب السبق عربياً في هذا المجال. ويدفع الأمر الى السؤال عن الأثر الذي قد تتركه هذه الاتفاقية على مسار خصخصة قطاع الاتصالات المتطورة عربياً، والذي لم يشمل سابقاً خطوط الانترنت وكوابلها. هل تصبح هذه الاتفاقية سابقة لدخول النشاط الخاص عربياً على تلك الخطوط؟ وفي المقابل، من هي الجهة التي تضمن حقوق المواطن والدولة في حال وقعت تلك الخطوط تحت هيمنة القطاع الخاص ومصالحه وتنافساته؟ الارجح أنها اتفاقية تضيف بعداً آخر إلى النقاش عن خصخصة الاتصالات وخطوط الانترنت ودور الدولة في هذا القطاع الحساس. ويزيد من حدّة النقاش أن الجمهور العربي الواسع يتطلع إلى الانترنت والمعلوماتية باعتبارهما معقد رهان أساسياً في عملية التنمية والخروج من ربقة التخلّف، فكيف سيرتسم التوازن بين تلك المصالح الأساسية الواسعة، والاهتمامات الأساسية للقطاع الخاص وشركاته وأمواله؟ ولعل التشبيه مع قناة السويس، التي مثّلت مصلحة وطنية مصرية خيضت من أجلها الحروب وعُقدت عليها الرهانات لأجيال، يزيد في عمق النقاش حول ما يرتبط بمعطيات ثورة المعلوماتية والاتصالات وعلاقتها بالتنمية في العالم الثالث. الخليوي وكوابل الإنترنت الأرجح أن اختيار شركة"أوراسكوم"يرجع الى نشاطها في مجال الاتصالات المتطورة، وخصوصاً بالنسبة الى شبكات الخليوي. فمن المعروف أنها نشرت شبكات خليوية في دول عدة افريقية وأوروبية وآسيوية. ومن المتوقع أن تصل كلفة مشروع كوابل"قناة السويس الرقمية" إلى 400 مليون دولار، هي تكلفة شبكة ألياف ضوئية تمتد من مدينة صقلية ايطاليا الى الاسكندرية. وتستمر الرخصة ل 20 عاماً. وفي تعليقه على الاتفاقية عن الكوابل البحرية للاتصالات، أوضح وزير الاتصالات الدكتور طارق كامل انها جاءت في إطار تنفيذ سياسة الدولة لتحرير الاتصالات الدولية"كما بيّن أنها تضع مصر على الخريطة العالمية كمشغل لكابلات الاتصالات الدولية وكنقطة محورية لمرورها عبر مياهها الإقليمية مستغلة في ذلك موقعها الجغرافي المتميز. وبيّن أن الاتفاقية تمثّل تعاقداً بين"الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات"وشركة"أوراسكوم تليكوم"، وهي الراعي الرئيسي لتحالف"مينا"MENA المُكون منها بنسبة 94 في المئة، وشركات"لينك ايجيبت"للتجارة والخدمات 4 في المئة، وپ"إن تاتش"لخدمات الاتصالات 1 في المئة، وپ"موبيسيرف"1 في المئة. ومن المتوقع أن تجذب هذه الاتفاقية استثمارات أجنبية إلى قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، ما قد يزيد في المنافسة التي يؤمل أن تساعد على خفض أسعار خدمة الإنترنت، إضافة الى نشر خدمة الإنترنت السريعة مصرياً. ومن المأمول أن يؤدي ذلك الى التوسع في انتشار المعلوماتية وما يتصل بها من نشاطات الاقتصاد الرقمي، مثل التجارة الإلكترونية وأسواقها. وفي هذا السياق، توقّع نجيب ساويرس رئيس"أوراسكوم تيلكوم"أن يكون تحالف"مينا"منافساً قوياً لمؤسسات عالمية في الاتصالات الدولية. وقال:"لقد تأثرت كثيراً بالرخصة عاطفياً، أكثر منها اقتصادياً أو تجارياً... إن موقع مصر الجغرافي المميز، كما تُعبّر عنه قناة السويس، يساعد مشروعنا في الانتشار وتسويق خدماته وسنكون أكبر مشغل للاتصالات الدولية يجلب موارد كبيرة إليها". وتوقع ساويرس أن تساهم المنافسة في كوابل الاتصالات الدولية في خفض أسعار شبكة الإنترنت وزيادة عدد مستخدميها الذي ما زال ضئيلاً جداً مصرياً بالنسبة إلى عدد السكان. وفي سياق مُشابه، أعرب الدكتور ناجي أنيس المدير التنفيذي لشركة"مينا"للكوابل البحرية في الشرق الاوسط وشمال افريقيا، عن قناعته بأن المشروع يساهم في الانتقال بمصر من مستورد لخدمات الاتصالات عبر الألياف الضوئية البحرية، إلى مُصَدّر لها. كما توقع أن يبدأ تشغيل هذه الشبكة قريباً لتلبية الطلب المتزايد على الاتصالات الدولية وخدماتها، بما فيها الانترنت السريعة التي تُنقل عبر"الحزم العريضة""البرود باند"Broad Band. وأوضح أن تحالف"مينا"شرع في العمل فعلياً، فاتفق مع مجموعة من الشركات التي ستنفّذ المشروع. وبيّن أن شركة"ألكاتيل لوسنت"الفرنسية ستتولى خط البحر المتوسط، فيما تنهض"تابكو"الأميركية بخط البحر الأحمر، وتنفّذ"مجموعة السويدي"المصرية الجزء الأرضي منه. وأشار إلى أن الرخصة تسمح بإنشاء كابل بحري، تحت مياه البحر المتوسط، بين مدينتي"صقلية"الإيطالية والاسكندرية، يتفرع منه خط يصل إلى اليونان انتهت الدراسات في شأنه، إضافة إلى فروع موقتة قيد الدرس تمتد إلى ليبيا وسورية وتركيا. وأوضح أنه سيجري ربط هذا الجزء من الكابل مع خط ألياف ضوئية تمتلكه شركة"أوراسكوم"في الجزائر، ويمر إلى تونس ليكمل سيره إلى مدينة مرسيليا في فرنسا. الألياف الضوئية تلاقي"القرية الذكية" تستضيف الاسكندرية"العقدة الأولى"لكابل الألياف الضوئية البحرية، وهي غير المحطة التي تعتمدها مؤسسة"المصرية للاتصالات"الحكومية. ويتابع الكابل سيره في خطين، يعبر أولهما في الطريق الصحراوي قاصداً القاهرة، حيث يصل الى"القرية الذكية"وهي تجمّع لمشاريع في الكومبيوتر والمعلوماتية، التي يتوقع أن تصبح مركزاً للتحكم في الشبكة بأكملها. ويغادر الكابل"القرية الذكية"قاصداً طريق السويس حيث محطة الانزال البحري الثانية. في المقابل، يحاذي قناة السويس حتى بورسعيد، ثم ينعطف إلى الطريق الساحلي متجهاً إلى الاسكندرية. وهكذا ترتسم دائرة متكاملة من الألياف الضوئية داخل البلاد، فلا يؤدي عطل طارئ في قسم من الكابل الى توقفه عن العمل، لأن بقية الأقسام تعوض غيابه. وفي السويس، يسير الكابل تحت البحر في اتجاه مدينة جدة السعودية. ويجرى التفاوض حالياً مع مُشغّل محلي ليتولى أمر المحطة في تلك المدينة، التي سينطلق منها الكابل عابراً الأراضي السعودية ليصل إلى الخليج الخُبر - الفجيرة حيث تنتهي المرحلة الأولى. وتبدأ المرحلة الثانية من جدة إلى باب المندب على البحر الأحمر ثم المحيط الهندي والخليج وصولاً إلى الفجيرة أو سلطنة عمان، حيث يتصل بكابل آخر تمتلكه شركة"أوراسكوم"في باكستان. ويعني ذلك أن المشروع يمتد من صقلية في ايطاليا حتى كراتشي في باكستان، بحيث تكون مصر"النقطة المركزية"لهذه الشبكة. تصنيف المشروع تسير الاتصالات الدولية من طريق الكوابل البحرية عبر 3 خطوط ضخمة أساسية، ترافقها مشاريع الألياف الضوئية للإنترنت. ويضم الخط الأول"ترانس اتلانتك"الذي يمتد بين أوروبا وأميركا في الغرب، وتجعل سعته الكبيرة عملية الاتصال بين تينك القارتين رخيصة ودقيقة. في المقابل، يصل خط"ترانس باسيفيك"بين أميركا ودول الشرق الأقصى وهي الصينوالهند وكوريا وروسيا. ويعتبر هذان الخطّان الأهم عالمياً. وتستخدم بقية الدول خارجهما خط"ويست دون"الذي يمتد من الخليج العربي إلى البحر الأحمر، ويشمل المنطقة العربية ودولها. وبذا، يُلاحظ أن الدول التي يمر بها الكابل الذي تتولاه"أوراسكوم"ما زالت في طور تحرير الاتصالات وأنها تضع شروطاً صعبة أمام توسّع عمل القطاع الخاص. ولذا، لا تتساوى الكابلات التي تعبر مصر راهناً مع الوضع الذي يوفره لها الكابل الجديد، والذي يستفيد من وضعها الجغرافي الوسيط بين الشرق والغرب. وببساطة، فكما الحال في تعاطي التجارة العالمية مع قناة السويس باعتبارها محور ربط الشرق والغرب، يعطي الكابل الموعود وخصوصاً محطة الإنزال البحري قناة سويس رقمية للمنطقة، كما يرفع من تدفق الاتصالات فيها الى ما يسميها الاختصاصيون"الكتلة الحرجة"وهي النقطة التي تتحوّل فيها الاتصالات إلى عنصر مهم في النمو الاقتصادي. وعلى سبيل المثال شخص في الهند يقوم بالبحث في"غوغل"ويعطي الأمر من الهند ويسير في الكابل البحري مروراً بمصر حتى أوروبا ثم أميركا ثم العودة بخط السير نفسه، يعني ذلك أن المرتين اللتين مر بهما الباحث الأمر المطلوب في مصر يُطلق عليهما"اتصالات عابرة"لأنه لم يتوقف في مصر. من هنا تفكر"غوغل"في وضع خادم إنترنت أساسي في القاهرة، للتخفيف من الضغط على خوادمها الرئيسة في أميركا. وفي هذا المجال، تطرق أنيس أيضاً، والذي عمل سابقاً في شركات للاتصالات ووضع دراسات عن الكوابل الضوئية، إلى الوضع في العالم العربي. ولاحظ أن تحرير الاتصالات عربياً تعوقه مشاكل وتناقضات داخل تلك الدول. فتظهر الامارات مثلاً باعتبارها أكبر البلدان المفتوحة عربياً في كثير من المجالات، لكنها تعاني بعض الانغلاق في قطاع الاتصالات. وعندما حصلت شركة"دو"على رخصة النقّال لتنافس الشركة الحكومية منحت تسهيلات بسيطة لا تتناسب مع نشاطاتها الواسعة. وكذلك استبعد أنيس دخول شركة مصرية ثانية مجال الكابلات البحرية، بالنظر الى ارتفاع تكلفة تلك المشاريع التي لا تعطي أكلها إلا على المدى الطويل. وأشار إلى أن إدارة"أوراسكوم"ترى أن ثورة"الإنترنت السريعة"، التي تتطلب حزماً واسعة"برود باند"، لم تبدأ بالتشكل، كما تراهن على هذا الكابل في تسريعها. وفي سياق متصل، توقع أنيس إغلاق ملف الإنترنت العادي في البلاد قريباً. واعتبر أن المسمار الأخير في نعش الإنترنت العادي هو الخفض الأخير لأسعار الإنترنت التي صارت تصل الى المستخدم ب 8 دولارات شهرياً. وأوضح أن الكابل يتلاءم مع ميل الجمهور الى التطبيقات الجديدة والسريعة في الانترنت، والتي تعمل على مدار الساعة، كما يظهر في الاقبال على موقع"يوتيوب"وغيرها. وعند تشغيل الكابل المنتظر، سيستطيع الجمهور المصري الحصول على سعات تتراوح بين 2 و10 ميغابايت بسهولة، الأمر الذي لا توفره الخطوط الراهنة. وأوضح أن نسبة مستخدمي خطوط"برود باند"مصرياً لا تزيد عن نصف المليون، وهو رقم صغير في بلد يزيد تعداده عن 77 مليوناً. وأخيراً، استبعد أنيس ظهور تعاون عربي - عربي في خطوط"برود باند"، مرجعاً ذلك الى غياب التفكير الجماعي، وارتفاع حدّة الاختلاف السياسي، إضافة الى غياب المنظومة التكنولوجية المُنسّقة بين بلدان العرب.