لم تكد "حرب لبنان الثانية"، وفق التسمية الإسرائيلية لعدوان تموز يوليو العام الماضي، تضع أوزارها، حتى انهمرت الدراسات والتقارير التي تتناول واقع اليهود ومستقبلهم في ظل رزمة الأخطار التي تتهدد وجودهم في إسرائيل وفي ما يسمى"بلدان الشتات"، ولا سيما في الولاياتالمتحدة التي تضم أكبر تجمع ليهود العالم، وتحت وطأة الأسئلة الصعبة التي تدور حول الديموغرافيا اليهودية المهددة، ونوع العلاقات المستجدة بين إسرائيل ويهود العالم، وتأثير الأوضاع السياسية المتفجرة في المنطقة والأزمات الدولية ذات العلاقة بالصراع العربي الإسرائيلي على يهود إسرائيل، واليهود عامة، وإمكانيات مواجهة التحديات الشاخصة وانتهاز الفرص المتاحة لضمان استقرار مستقبل اليهود. فكان"مؤتمر مستقبل الشعب اليهودي"الذي افتتحت أعماله في مدينة القدسالمحتلة في تموز الماضي، وجرى فيه تسليط الضوء على واقع اليهود الديموغرافي في العالم، وتفصيل ما سمي"التهديدات الجغرافية السياسية المركزية التي تعرض وجود الشعب اليهودي للخطر"، بما في ذلك كوابيس تهديدات سلاح الإبادة الجماعية، والإرهاب العالمي، ومعاداة السامية، والميزان الديموغرافي وسوى ذلك من الأخطار المفترضة، إضافة إلى عدد من المشكلات الرئيسية الأخرى مثل"اليهود والجغرافيا السياسية"،"القيادة اليهودية"،"مستقبل الجاليات اليهودية"،"الهوية والديموغرافيا اليهودية". وبعد عدة أيام فقط، جاء دور يهود أميركا ليحذروا من"الخطر الديموغرافي"الذي يتهددهم وذريتهم في المستقبل، حيث نشرت صحيفة"جيروزاليم بوست"الإسرائيلية الصادرة بالانكليزية، مقالا يوم 11/ 8 الماضي، تحت عنوان"قادة اليهود الأميركيين يحذرون من خطورة تناقص عدد اليهود الأميركيين"، جاء فيه أن هؤلاء قد لا يتمكنون من المحافظة على عددهم في القرن الحادي والعشرين إذا لم يبذلوا جهودا جبارة لتعزيز شعورهم بهويتهم الجماعية. وأشارت الصحيفة إلى انعقاد مؤتمر شارك فيه 1200 من الأساتذة اليهود المختصين بالتعليم اليهودي من الولاياتالمتحدة وروسيا وإسرائيل، قبل أيام على ذلك، للبحث في السبل المناسبة لوقف تناقص الانتماء للهوية اليهودية لدى اليهود الأميركيين الذين تتقلص أعدادهم باستمرار بسبب مجموعة من العوامل أبرزها: الزواج المختلط من غير اليهوديات تتجاوز النسبة 51 في المئة وفق التقارير اليهودية الأميركية، وعدم الاكتراث بأهمية ممارسة التقاليد اليهودية. وقد تكرَس هذا الاستخلاص عبر دراسة نشرها، مؤخرا، المختصان الاجتماعيان ستيفان كوهين وآري كلمان، وأظهرت أن اليهود الاميركيين الشبان تحت سن ال 35 لا يكنون لإسرائيل محبة كبيرة، وأن هذه الدولة تعقّد حياتهم الاجتماعية وتعكّر هويتهم السياسية. ما جاء في أبحاث المؤتمرين، وفي ثنايا الدراسة، أشعل الضوء الأحمر في وجه قادة إسرائيل والمنظمات اليهودية واللوبيات الصهيونية في مختلف أنحاء العالم، إذ على الرغم من النبرة المتفائلة بإمكانية مواجهة التحديات الشاخصة أمام اليهود الذين تم تناولهم بالجملة باعتبارهم"شعباً واحداً وأمة قومية". إلا أن ثمة وجها آخر للمشكلة يتجاوز المعضلة الديموغرافية و"التهديدات الاستراتيجية"، ويمس طابع ما اصطلح على تسميته"المشكلة اليهودية"التي فبركت في أواخر القرن التاسع عشر تحت مظلة الأطماع الاستعمارية في منطقتنا العربية، وترجمت عبر إقامة دولة إسرائيل منتصف القرن الماضي. إذ أن هذه المشكلة التي أصبحت اليوم"إسرائيلية"بامتياز نتيجة البنية العدوانية العنصرية لإسرائيل وأدائها الوظيفي في المنطقة العربية، وما يتمخض عن ذلك من تداعيات تمس اليهود في أربع أصقاع الأرض، ولا سيما لجهة تعاظم"الهجرة المعاكسة"من إسرائيل إلى دول الغرب، بدأت تأخذ منحى آخر عنوانه الرئيسي تآكل الدعم الذي تقدمه الكتل البشرية اليهودية في مناطق العالم المختلفة لإسرائيل. إذ وفقاً لورقة العمل التي أعدها البروفيسوران سيرجيو فرغولا وحاييم فاكسمان للمؤتمر تحت اسم"هوية تضامن وديموغرافيا"، فإن 28 في المئة فقط من يهود الولاياتالمتحدة يعتبرون أنفسهم"صهاينة"، فيما 15 في المئة فقط يشعرون أنفسهم قريبين من إسرائيل مقابل 44 في المئة يشعرون بأنهم بعيدون عنها، فيما يعترف يسرائيل وولمان في"يديعوت أحرنوت"بأن ثمة أزمة هوية في إسرائيل ولدى يهود الخارج، وهي تصبح أكثر حرجا من يوم إلى يوم. وقد أكدت الدراسات اليهودية العديدة انخفاض أعداد اليهود في العالم، وأرجعت ذلك إلى ميل نسبة كبير من الشباب اليهودي إلى الزواج من غير اليهوديات، وانخفاض معدل المواليد في التجمعات اليهودية في العالم. وحسب إحدى الدراسات، فإن إجمالي عدد اليهود في العالم انخفض من 21 مليونًا عام 1970، إلى 11 مليونًا و800 ألف نسمة في 2007. كذلك فقد لفتت إلى أن عدد اليهود في أوروبا انخفض منذ مطلع السبعينات من القرن الماضي بمعدل عشرة أضعاف، مشيرة إلى أن عددهم انخفض من 11 مليونًا و331 ألف نسمة عام 1970، إلى مليون و155 ألفًا عام 2007، فيما حذرت دراسة أخرى من أن عدد اليهود في العالم سيواصل الانخفاض، معتبرة أن الكثيرين من الشباب اليهود باتوا يفضلون الزواج من غير اليهوديات، ناهيك عن انخفاض نسبة المواليد في التجمعات اليهودية، ولفتت إلى أن الجاليات اليهودية في أميركا تعتبر مثالاً واضحًا على ذلك. وحسب مدير عام"مركز تخطيط سياسات الشعب اليهودي"نحمان شاي فإن"نحو 50 يهوديا في الولاياتالمتحدة يتحولون عن اليهودية يوميا". وفي مقابلة أجراها معه التلفزيون الإسرائيلي، شدد شاي على أن"الوجود اليهودي في الولاياتالمتحدة يتعرض لخطر كبير"بسبب حالات التحول الواسعة من الديانة اليهودية إلى الديانات الأخرى"، معتبرا أن أكبر خطر يواجه اليهود في الولاياتالمتحدة هو الزيجات المختلطة بين اليهود وأصحاب الديانات الأخرى، وذوبان اليهود في المجتمع الأميركي، ومحذرا من أن دولة إسرائيل ستكون أكبر خاسر من هذا الواقع كونها تعتمد بشكل كبير على دور المنظمات اليهودية في الضغط على إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش والكونغرس من أجل الاستجابة للمطالب الإسرائيلية. فيما اعتبرت دراسة أخرى أن أهم مشكلة تواجه اليهود في العالم حاليًّا غياب قيادة قوية. ووفق دراسة التهديدات والفرص المتوقعة لليهود حتى عام 2030، التي نوقشت في مؤتمر القدس، حسب إيلي بردنشتاين في"معاريف"، فإن ثمة سيناريوهات أربعة لمستقبل اليهود. الأول، الأكثر تشاؤما، يفيد بأن الديموغرافيا اليهودية لا تتغير تقريبا، وهي تراوح عند رقم 13 مليونا ونصف المليون يهودي تقريبا في أرجاء العالم، حيث أن الاندماج يتزايد، واليهود يخفون يهوديتهم. كما أن الانقطاع بين إسرائيل وبين اليهود في الشتات ازداد. وكل هذه الأمور تحصل"فيما تتم في الشرق الأوسط عملية الأسلمة"و"تمتلك إيران قنبلة نووية". ويحذر معدو التقرير من أن الأمر يتعلق بخيار هو الأكثر معقولية، والذي يتعين الاستعداد لإمكانية تحققه. ويمكن من اليوم تشخيص المؤشرات الأولية للسيناريو المتشائم، حيث يحذر التقرير من مغبة استمرار تدهور القيادة اليهودية والإسرائيلية: فاليهود الشباب وأصحاب الكفاءة سيواصلون تفضيل المهن الحرة وسيتركون السياسة في يد أناس أقل ملاءمة منهم بكثير. في المقابل، ستزداد مستويات وأبعاد الفساد بين صفوف زعماء"الشعب اليهودي"في إسرائيل والشتات. أما السيناريو الأكثر تفاؤلا، فيفيد بأن نسبة الديموغرافيا اليهودية ستصل إلى 18 مليون يهودي يعيشون في العالم. إذ سيتم كبح مستويات الاندماج، ويشعر عدد أكبر من اليهود بأنهم مرتبطون بيهوديتهم وتتعزز الصلة مع الشتات. ويعتبر التعليم أحد العناصر المركزية في هذا السيناريو. ويشدد معدو التقرير على الدور الرئيسي للتعليم اليهودي الصهيوني في الحفاظ على الهوية اليهودية. فالانجازات الكثيرة للشعب اليهودي تتحقق بواسطة الاستثمارات الكبيرة في تعزيز الصلة مع الشتات وفي الحث على نشوء قيادة يهودية شابة تتمتع بمستوى عال من الإيثار. أما بالنسبة للتهديدات الخارجية، فإنه وبحسب السيناريو المتفائل، تخضع الدول العربية في الشرق الأوسط لعملية دمقرطة، ويطور العالم بدائل للطاقة، ما يؤدي إلى تراجع كبير في ارتباط العالم بالنفط العربي! ما يلفت في التقرير الذي أشار إلى تآكل مكانة الولاياتالمتحدة كقوة عظمى وحيدة، وتاليا إلى إمكانية إجراء تغيير كبير في سياستها الشرق أوسطية لدرجة تعرض إسرائيل للخطر بالتوازي مع تعاظم تعلقها بالنفط، هو تلك الدعوة إلى بذل الجهود التي تفضي إلى منع أميركا من البحث عن مصالحها بعيدا عن إسرائيل، والضغط باتجاه التمسك بذات السياسة الأميركية المتبعة راهنا، ولا سيما بالنسبة لتأييد إسرائيل بشكل مطلق، وإغلاق نوافذ العلاقة مع العرب، ومواصلة واشنطن لسياستها المتعلقة بفك وإعادة تركيب الكيانات السياسية في المنطقة وفقا لمقولة"الفوضى العمياء". كذلك يصح الأمر نفسه بالنسبة الي الدول الكبرى الصاعدة، ولا سيما الصين والهند، حيث يوصي التقرير بانتهاج سياسة تقارب مع هذه الدول لمنعها من انتهاج سياسة مؤيدة للعرب وقضاياهم المشروعة والعادلة، انطلاقا من حاجاتها المتزايدة للنفط. أما الوسيلة لتحقيق ذلك فهي: البحث عن نقاط التقاطع ما بين مصالح إسرائيل وبقية البلدان ذات الصلة. كما يشير التقرير أيضا إلى التهديدات المختلفة، والى تعمّق عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وانتشار أسلحة الدمار الشامل في دول كإيران. وهذا ما يدفعها للتوصية بالانضمام الى محافل أمن دولية متعددة، كالحلف الأطلسي وتوثيق علاقة إسرائيل مع الطوائف اليهودية في العالم. والنقطة الأهم التي أكد عليها"مؤتمر القدس"هي تراجع الميزان الديموغرافي في إسرائيل نتيجة ارتفاع معدلات الهجرة المضادة، أي التي من إسرائيل، لا سيما لدى اليهود من ذوي القدرة على الاندماج في الغرب، ما يحفز على تشجيع الهجرة إلى إسرائيل وتقديم الإغراءات على هذا الصعيد. وكانت صحيفة"معاريف"الإسرائيلية قد ذكرت أن إسرائيل تبذل جهودا لاستقدام اليهود الإيرانيين إليها. وأوضحت أن حكومة أولمرت"تحاول تشجيع 20 ألف يهودي يقيمون في إيران على الهجرة سريعا إلى إسرائيل وتدفع حوافز مالية كبيرة لهم". وقد أشارت إلى أن هذه الحكومة"تقدم خمسة آلاف دولار أميركي لكل يهودي يأتي من هناك إلى إسرائيل، بينما يدفع متبرعون يهود من أصل إيراني عشرات الآلاف من الدولارات لكل عائلة تأتي إلى إسرائيل". هذه المعطيات التي دقت ناقوس الخطر في إسرائيل ولدى العديد من المنظمات اليهودية في الولاياتالمتحدة، كون معظمها يتحدث بلغة متشائمة عن إمكانية انخفاض أعداد اليهود في العقدين المقبلين، تستبطن أنواعا أخرى من المعطيات التي تحاول الالتفاف على إمكانية انحسار النفوذ والتأثير اليهوديين، وبالأخص في الولاياتالمتحدة التي تعمل في مؤسساتها المختلفة لوبيات يهودية ذات وزن كبير، ما يجعلها عاملا حاسما في رسم السياسات الخارجية الأميركية. وتتبدى ملامح هذه المعطيات التي تتوكأ على المتغيرات التي يشهدها العالم على الصعد المختلفة، في السجالات الداخلية اليهودية المثيرة للاهتمام، والتي يلتقط منها يائير شيلج ميلين أساسيين: "الأول، الميل لاستبدال موضوع إسرائيل- الشتات كمحور مركزي في السجال اليهودي الذي يتعامل مع العالم اليهودي كوحدة كونية واحدة تعتبر فيه إسرائيل ظاهريا كجالية يهودية أخرى، حتى وإن كانت بداهة جالية مركزية. ويبدو التجسيد الأكثر تكثيفا لهذا الميل متجليا في منظمة جديدة تسمى"كولدور"، وهي جماعة من الشبان اليهود من أرجاء العالم، بما في ذلك إسرائيل، قرروا الانتظام في ميل واضح للتأثير على سجال يهودي جديد. وأحد البنود المركزية في إعلان مبادىء هذه المجموعة، الذي نشر قبل حوالى السنة، يقول إن"النظر إلى العلاقات داخل الشعب اليهودي بوصفها علاقة بين"إسرائيل- شتات"ينبغي أن يتغير إلى نظرة تقول بشعب يهودي عالمي". أما الميل الثاني، فهو النظرة إلى"الشعب اليهودي"ليس كدين ولا حتى كقومية، وإنما كحضارة. وهذا التعريف أدخله، في الواقع، قبل ثمانين سنة الفيلسوف اليهودي الأميركي مردخاي كابلان. ولكن في السنوات الأخيرة غدت الفكرة أكثر ازدهارا. وقد سمى عالم الاجتماع القديم شمئيل أيزنشتات كتابه الأخير"الحضارة اليهودية". ولا يخفى على أي مدقق أن هذه السجالات تعبر عن خشية حقيقية من خسارة ما يسمى"الهوية اليهودية"التي يؤدي ضعفها المتزايد في أوساط الشبان اليهود الذين تتناهبهم سوق الأفكار والإيديويوجيات المفتوحة، إلى تدني حجم اليهود في العالم، وبالتحديد في الولاياتالمتحدة الذين يرى يهودا راينهارتس، رئيس جامعة براندايس أنهم"راضون عن أنفسهم بسبب الوهم بأن لهم الكثير من القوة السياسية والاقتصادية هنا"، محذرا من أنه لم يتبق للطائفة سوى"نافذة من عدة سنوات"قبل أن يتغير الواقع السياسي الأميركي. فالقوة السياسية للطائفة اليهودية ستتبدد لمصلحة الأقلية الإسبانية الكبيرة والطائفة الإسلامية الأميركية. * كاتب فلسطيني.