مثل "قلب النهار". هكذا بدا الشبان في الصورة وهم يمتشقون بنادقهم التي بدت غريبة ونافرة كأنها في غير مكانها المناسب، ولا في أيدٍ تجيد الضغط على زنادها لإطلاق الرصاص. فتلك الأيدي يليق بها امتشاق شهادات التخرج التي تكشف كم من المواهب والكفاءات يزخر بها هذا"الوطن الصغير"المنكوب بكل أحمال الدنيا وبكافة أعباء القضايا. ربَّ قائل، وماذا يفعل أولئك الشبان بشهادات التخرج وعلامات التقدير والامتياز ما دامت لا تفلح في فتح الأبواب المُوصدة أمامهم ولا تضمنُ لهم فرصة العمل الشريف والعيش الكريم فلا يبقى لديهم سوى خيارين أحلاهما مرٌ: إما الهجرة بعد الوقوف كالمتسولين على أبواب السفارات لضمان الحصول على تأشيرة الى المنافي الطوعية والغربة المرّة، أو الارتماء في أحضان القوى التي تستعد لتحويلهم"ميليشيات"جديدة، وجعلهم قتلة ومجرمين تحت شعارات مهما اختلفت وتنوعت فإنها، في آخر المطاف، لا تؤدي سوى الى الموت والهلاك وخراب الأوطان. لأجل مَن يتهيأ أولئك الشبان لتدمير وطنهم من جديد؟ ولأجل ماذا يمتشقون السلاح ويتدربون على كيفية استعماله؟ قطعاً ليس العدو الإسرائيلي هو الهدف. ولو كان هو المقصود لقلنا: عال. نتدرب جميعاً ونحمل السلاح ونذهب الى القتال معاً. إنهم يتدربون على كيفية استعمال السلاح ليقاتلوا شركاءهم في الوطن. وضمير"الغائب"هنا يعني كل من يستعد للآتي الأعظم باقتناء السلاح وتخزينه وتكديسه والتدرب عليه. وسبق لي القول كم هي مقيتة كلمة شركاء حين تحوِّل الوطن الى شركة، والشبان الى وقود حرب مقبلة بين الشركاء المضاربين على الوطن. وجلُّ أولئك الشبان في العشرينات من العمر، أي أنهم كانوا أطفالاً أو فتياناً مراهقين يوم عُلِّقت ولا أقول انتهت الحرب المسماة لبنانية مطلع التسعينات. وبالتالي فإنهم لا يتذكرون الكثير عن أهوالها ومراراتها والنتائج الوخيمة التي أدّت إليها. دائماً حين تنفتح سيرة الحرب نقول"تنذكر وما تنعاد"، والمقصود أن نتذكر ما جرى لنا لئلا نقع في التجربة من جديد. لكن، وللأسف، فإننا نهوى تكرار التجارب نفسها التي يقودنا إليها دعاة الحروب أنفسهم، ولا نرعوي ولا نتعلم من تجاربنا السابقة ولو درساً واحداً واضحاً وضوح الشمس: الحروب، خصوصاً الداخلية منها، لا تقود إلا الى خراب. وها نحنُ نسلسُ قيادنا مرة أخرى لمن يأخذنا الى الهاوية إياها. لا أعرفُ أحداً من أولئك المتدربين، ولا أعرف إذا كان آباؤهم قد رووا لهم بعض ويلات الحرب ومصائبها، لكن، لو تسنى لي لقاء أحد منهم لأخبرته بعضاً مما عَلِمتُهُ وذقته من مرارات الحروب وعلقمها. ولقلت له كيف نمنا أياماً وليالي وعلى مدار سنوات في عتمة الملاجئ ورطوبة الغرف السفلية وكيف كنا نتكدس رجالاً ونساء وأطفالاً في مساحة الملجأ الضيقة، فيما دويُّ المدافع وأزيز الرصاص يجعلان يوم القيامة قريباً جداً، وكيف خسرنا أحبة وأعزاء بحيث لا يخلو بيت لبناني من شهيد أو مفقود أو جريح، ولأَحلته على أيٍّ من أهالي المفقودين والمخطوفين يشرحُ له تفاصيل تلك القضية الوطنية الإنسانية المُؤلمة المُغلفة بالصمت والنسيان! لو التقيت أحد المتدربين على استعمال السلاح لرويت له كيف كنا نقفُ صفوفاً طويلة أمام الأفران والمخابز للحصول على ربطة خبز، وكيف كنا ننام داخل سياراتنا في طوابير تمتد مئات الأمتار أمام محطات الوقود لأجل ليترات معدودة من البنزين، وكيف كنا ننام ونصحو على أضواء الشموع التي كانت ولا تزال بديل الكهرباء المقطوعة، ونجوب الشوارع والأحياء بحثاً عن حنفية أو"سبيل"ماء لنملأ غالوناتنا مياهاً للشرب والاستحمام والاستخدام في آن معاً، ولأسهبتُ في الشرح عن خطوط التماس التي جعلت لبنان لبنانَيْن وأكثر، وعن الحواجز والمعابر و"نقاط الحدود"و"الجمارك"داخل الوطن الواحد. نعم، لو التقيت أحد الشبان المتدربين المستعدين لخوض حروب جديدة ظنّاً منهم أنها لُعبة أو نزهة، لألقيت على مسامعه بعضاً من الشعارات والأوهام التي صدقناها وساهمنا في تخريب بلدنا لأجلها، عساه ينتبه أنها الشعارات والأوهام ذاتها التي تُزين له ولجيله خوض التجربة من جديد، ومِن جانب مَن؟ مِن جانب"القادة"ذاتهم الذين سبق أن"قادونا"الى حرب تلو أخرى، ولعل صفة القيادة لا تنطبق عليهم إلا في هذا المضمار، فيصح فيهم المثل: إلحق البوم يدلك على الخراب. أما لو كنتُ والداً لأحدٍ من أولئك الشبان المتدربين لتخليت فترة وجيزة عن عطفي وحناني وعن عصريتي وحداثتي، وعلقته في السقف وعملت له"فلقة"من"كعب الدست"، ولقاطعت الى الأبد كل"زعيم"أو سياسي يُرسلُ أبناءنا الى التدريب ويُزيّنُ لهم حملَ السلاح لأجل قضايا باطلة وطموحات نرجسية مُتورمة، أو مشاريع ثبت فشلها مراراً وتكراراً. ولئن كان الإمام موسى الصدر قال يوماً"إن السلاح زينة الرجال"، فإنه قصد حصراً السلاح المُوجّه نحو إسرائيل التي وصفها بالشر المطلق. أما السلاح الذي يُحضَّر ليُصوّب نحو اللبنانيين ولأي فئة كان. فإنه عارٌ على كل حامل له أو متدرب على كيفية استعماله أو داعٍ إليه. هؤلاء الشبان وهم في ريعان الصبا والأحلام ومثل"قلب النهار"هم أبناؤنا وليسوا فقط أبناء الحياة بالإذن من جبران خليل جبران، فهل نستطيع إقناعهم بعدم تكرار التجربة. لقد أكلنا كثيراً من الحُصرم فكيف لم يضرسوا بعد؟!