من بين القصص التي ترويها مي غصوب عن نساء أكثرهن من لبنان لا يكاد يشعر اللبنانيون ان هناك عبراً يمكن استخلاصها. في حياتها المديدة، كما هي مروية في القصة عنها، لم تفعل "فدوى" شيئاً مغايراً لما كان يجب عليها ان تفعله، اثر معرفتها بالعلاقة التي أقامها زوجها مع امرأة اخرى، هناك في المهجر الافريقي. انتظرته في بيروت التي عادت اليها مع اولادها، اثر احداث معتادة جرت هناك، من اجل ان تنتقم منه بالصمت والتخلي لفعلته. وقد استطاعت ان تبقي انتقامها ذاك مستمراً متصلاً حتى موت زوجها بالمرض والاهمال. هي ايضاً أصيبت بذلك الانتقام الذي لم تتوقف عن توليده. في ايامها الاخيرة لم تكن تشبه الجدّات في شيء، بتحوّلها الغريب والمتزايد مع انقضاء السنوات، كما بعبوسها المستمر في وجوه جميع من تصادفهم. قصة فدوى هذه كان يمكن لها ان تمرّ من دون عبرة لقارئىها اللبنانيين، او انه كان يمكن لعبرتها ان تجنح نحو ان يكون ما قامت به فدوى بطولة. هكذا ينبغي ان يُعامل الزوج الذي بادل وفاء زوجته بالخيانة، قد يقول القارئ هنا. أو ربما يُعجب من صمود فدوى في موقفها الذي استمرت فيه طيلة حياتها، فهذا ادعى الى الدرامية والروائية. مي غصوب ذهبت الى غير ذلك، مبدّلة المنحى الذي اعتاد القراء الذهاب نحوه. وهي، في قصص اخرى، روت ما يكاد يعصى، مبدئياً، على الاستخلاص والاستنتاج. فأم علي، في قصة اخرى خصصت لها، لا تستحق سيرتها حتى ان تُروى، هنا بين أهلها، ما دام انها بحسبهم، لم تفعل شيئاً يستحق التدوين. انها واحدة من مئات، بل من آلاف ربما، التجأن، من الوضع الذي كن فيه، الى تشكيلات القوة المسلحة في الاحياء ثأراً لكرامتها الممتهنة. كثيرات هنّ اللواتي مثل أم علي، او ان الكلام الذي توصف به الحرب قد لا يترك لقصتها شيئاً لتنفرد به وتختص. هنا ايضاً سعت مي غصوب الى ايجاد معنى كامن لما قد يُعتقد انه خال من المعنى القصصي او الروائي. والكاتبة ترى ان هذا المعنى ليس مستخلصاً من ثنايا القصة ومن طياتها بل هو قائم في متنها وجوهرها. قصص هي مما اعتاد اللبنانيون سماعه ومعايشته وهم، لذلك، يميلون الى أزاحته من المرويات. سعيد، ابن صاحب الدكان والتلميذ النشيط، لم يعبر تلك "التحولات" وحده فكثيرون من أمثاله اخذتهم الحرب اليها وضمّتهم الى صفوفها. اما العبارة التي قالتها "مسز نومي"، المعلمة اليهودية، لتلميذتها الكاتبة مي غصوب في ما بعد، فكان يمكن لها ان تكون واحدة من النصائح العابرة، تلك التي يقولها المعلمون لتلاميذهم، هكذا، من دون ان تلقى منهم آذاناً صاغية. "الانتقام هو الشعور الأحط بين المشاعر الانسانية"، قالت مسز نومي لتلميذتها التي أحسنت كتابة موضوع الانشاء لكنها اختتمته قائلة بانها ستبدأ بالانتقام من رفيقاتها، وهذا، هنا، من بداهات الكلام والتصرف. جملة مسز نومي لم تمرّ مرور الكرام بل انها، في ما تلا من السنوات، كما في ما تلا من صفحات الكتاب، اتخذت نقطة انطلاق دائمة للحوادث وللفصول المختلفة. اللبنانيون لا يرون ان هناك عبرة يمكن ان تستخلص من رواية حربهم واستعادتها. لا تطرح أم علي نفسها كأمثولة للبطولة او للانتقام ولا يثير سعيد، الشاب، تساؤلاً لديهم عن تحولاته. بل أحسب ان ذهاب نهى، طائعة، الى الانتحار استشهاداً قد لا يرفع درجة إصغائهم. انهم يميلون الى ان يروا كل ما أخرجته الحرب متشابهاً متساوي القياس. لا شيء في عنفه أو في هوله يفوق سواه، فالاستشهاد انتحاراً هو، مثل بطولة أم علي وتحول سعيد، واقع في الجعبة الواحدة التي تحمل اسم الحرب. لا يقدّم اللبنانيون شيئاً على شيء ولا يجدون ان شيئاً في هوله قد يفوق شيئاً. ذاك انهم يردّون زمن حربهم ذاك الى اسم واحد، أو الى مشهد واحد أقفلوا على حدّيه بغرض حجبه وإقفاله. وان يكون هؤلاء فاقدين حسِّ التفاوت بين الاشياء فهذا يعني انهم استعدوا استعداداً لازاحة تلك الكتلة الضخمة الواحدة من ذاكرتهم. وإذ يفعلون ذلك ايضاً يكونون يضعون كل ما تحتويه هذه الكتلة، من بشر وحوادث ومشاهد، تحت الرواية أو دونها، أو، على الأقل، في غير مجالها. مي غصوب سعت في كتابها الى فتح ختم الحرب المقفل لكن لتعود فتقفله من جديد. ذاك ان ما بقي حياً من سنوات الحرب، من مشاهدها وصورها وتجاربها القاسية، تلك الرغبة في الانتقام من بعض من كانوا فرسان الحرب أو قتلتها. في الفترة الاولى من قيام الدولة اللبنانية وتمكنها لم ينظر الكثيرون الى القانون الذي صدر بالعفو عن جرائم الحرب نظرة راضية. من ارتكبوا الفظائع على مدى السنوات ينبغي لهم ان يلقوا القصاص. لا من اجل ان يردّ المسالمون على عنف هؤلاء بعنف مقابل، بل ايضاً لشعورهم بانه لا يمكن للجريمة ان تمرّ هكذا من دون عقاب. وقد تبدو الرغبة في الانتقام رغبة في تحقيق العدالة، او على الاقل هذا هو تبريرها او غطاؤها. لدى كل فريقين متنازعين نوازع للانتقام هي، من وجهة نظر كل منهما، مسوّغة ومحقّة او حتى عادلة. على جانبي خط القتال دائماً يكون المنطق "العدالي" متماسكاً ومؤدياً بالنتيجة الى ضرورة القيام بالانتقام والحرب. هذان المنطقان المتماسكان كل في داخل حدوده تخصص لهما مي غصوب فصولاً في كتابها، فمن يبدو خائناً هنا، في هذا الجانب، يبدو بطلاً هناك. الامثلة على ذلك كثيرة أبرزها، في كتاب مي غصوب، القائد جوليان الذي، إبان الحروب الصليبية، انضم الى غير قومه انتقاماً لما جرى لابنته فكان خائناً في صورة الخائن هناك وبطلاً هنا. لن يجمع القومان الواقفان وراء خط قتالهما على شيء أو على حقيقة. لكن الكتاب، في ما أحسب، تعدّى في استهدافه المقاتلين الذين هذه أوصافهم ليبلغ أولئك الذين لا دور لهم في الحروب والمنازعات الا ان يكونوا ضحاياها. أقصد أولئك الذين، في داخل كل من الجبهتين، اهتدوا الى المنطق الواحد الجامع بين قومهم والقوم الذين يقابلونهم. هؤلاء، الذين لم يقع عليهم من الحروب الا أذيتها، والذين حوّلتهم الحيادية الى ضحايا بلا حيل، هؤلاء ايضاً، تقول مي غصوب، ينبغي عليهم الا يعتقدوا ان مطالبتهم بالاقتصاص من فاعلي الخراب والقتل هي مطالبة لا تسوقها الا الرغبة في تحقيق العدالة. ذلك ان هؤلاء ربما يعتقدون ان زمن السلام الذي أتى هو زمانهم وهم المنتصرون فيه. لكن، في رغبة الكاتبة نزع شوكة الانتقام، قد يشعر "الضحايا" أو المناصرون لهم، ان الويلات التي حصلت سيظل مشهدها مفتوحاً كأن يظل مثلاً مشهد ضحايا المحارق ثابتاً أبداً لم يطوه مشهد آخر ويسدل الستار عليه، كما يظل مشهد شاكيات البوسنة، المغتصبات، ثابتاً عند شكاويهن وممتداً متصلاً لا يوقفه شيء. مي غصوب تسعى الى ان تنزع من نفوس قارئيها شوكة الانتقام نزعاً كاملاً. اما قارئوها، الذين كانوا يعتقدون قبيل قراءة الكتاب، انهم بريئون من نوازع الانتقام والعنف فسيجدون، بعد قراءته، ان براءتهم هذه ليست تامة. أولئك المدينون الانتقام ينبغي عليهم استخلاص القدر الذي يحملونه منه، هم أنفسهم. نحن، من قرأنا الكتاب، نشعر معه كما لو اننا أُخذنا على حين غرّة، هكذا، مثلما حصل للتلميذة التي كانت تظن انها تفكّر تفكيراً "عادياً" مسالماً حين زجرتها مسز نومي وأخذتها من حيث لا تحتسب. ما زالت هناك جذوة للعنف والرغبة في الانتقام قائمة في كل منا ومشتعلة ايضاً. ليس ان ما يسمونه هنا بطولة هو وليد الانتقام ومولّد له في الوقت نفسه، بل ايضاً ما يمكن ان يعتقد المحايدون انه عدالتهم. هذا ما تسعى مي غصوب الى قوله، أو على الاقل هذا ما شعرنا نحن به، إذ أشارت الى اشياء فينا كنا نعتقد انها براءتنا أو براءة حياديتنا فاذا بنا نقول، في صفحات الكتاب الاخيرة، انها ذهبت في دعوتها تلك الى حد لا نحتمله أو لا نستطيع موافقته الى آخر الطريق حيث يأخذنا. مي غصوب في كتابها الذي اتخذت له أمثلة من منازعات العالم كافة، قديمها وحديثها، آثرت ان تذهب في ما تساجل به الى ما هو يختلف عن قضايا الانتقام النافرة، المجمع على عنفها ومجانيتها. ما يصوّر في النضال العربي على انه شكل التضحية الاعلى، وهو العمليات الانتحارية، تظهر الكاتبة وجهه المولد لرغبات العنف الجماهيري الذي يفوق حصيلته العسكرية. في استشهاد نهى، منتحرة، يبدو الأمرّ، في الاعلام النضالي المواكب لعملية الاستشهاد، كما لو انه يقدّم إلى جماهيره قرباناً لتأجيج غضبه ولاعتبار هذا الغضب مقدّساً ما دام انه يُسقى بهذا القربان. يصف الكتاب كيف ان للعنف والانتقام أجهزتهما وقوانينهما وطقوسهما وكيف يكون من يصغون الى دعوته معتقدين بان لا شيء يستحق الحياة حين يدق نفيرهما. كما تتناول الكاتبة صورة من صور الحرب الثانية لامرأة حُلق شعرها ويسيّرها قومها الفرنسيون، حاملة ابنها، في جلجلة الإذلال الذي يشتركون في تأديته جميعاً. لم يكن لكتاب مي غصوب ان يذهب فينا الى هذا العمق لولا انه، في جميع فصوله، دلّ، مثلما يفعل الاصبع الدال، على المسائل التي، بين الواحد ونفسه، لم يحسم رأياً فيها بعد. كأنها، بتناول المسائل التي لم يُفرغ من النقاش حولها، تساجل من الحد الساخن الاخير. أو كأنها تدعونا، بالقوتين اللتين هما العقل والشوكة المنتزعة، الى ما قد تضعنا قراءتنا له في اتجاه آخر لا نعرف إلاَّ قليلاً كيف نسير فيه.