ها نحن التقينا أخيراً، بعد 28 عاماً من الفراق. آنذاك حينما هاجرت، أو هربتُ، لا أدري ماذا أسمّي تلك الرحلة العجيبة التي قادتني إلى أوروبا، كان عمرك 11 عاماً، وكنتَ تمضي وقتك بين المدرسة والأغنام والحقل، كم بقي من قطيع أغنامنا في ذلك الوقت؟ لم أعد أتذكر، لكن أعدادها الكبيرة انحسرت وضمت على قلتها أعداداً جديدة من الماعز. ثم انحسرت هذه أيضاً وتلاشت تماماً. أتذكر أصابع يدك الصغيرة التي كنتُ أتوقع لها مستقبلاً زاهراً كخطاط أو رسّام، هذه الفكرة بقيت عالقة في ذهني طوال السنوات الطويلة الماضية. أيضاً لم يبارحني التفكير فيك كلما مررت بهذه الألعاب الصغيرة، صُور الحيوانات الزاهية، صورة أبي عرس خصوصاً، تماثيل الأفيال والثعالب اللعوبة، لكن ثمة أيضاً ما كان يرعبني وأنا أفكر فيك، تلك الحالات التي كنت تزوغ أثناءها، تنسانا، وتأخذ تصرخ وتركض هرباً من شخص وهمي، وحينما ترقد تعباً من صراع خفي مع وحش لا يُرى بالعين المجردة، تأخذ أمي تبسمل وتحوقل وترش عليك الماء البارد عسى ولعل تذهب عنك الأرواح الشريرة. جئت الآن إذاً، رأيتك من بعيد، وأنت حائر تنتظر حقائبك التي تأخرت. شكلك تحوّل تماماً وضاعت صورة الطفل التي حفظتها طوال الأعوام الماضية، هالة التقدّم بالعمر والشيب الذي يغزو شعرك لم يحجبا عني أبداً ذلك الشعور بالفقدان، بطبقات الأحزان التي تخفيها والتي أضحت وكأنها طبقة من طبقات جسدك، طبقة من لحمك وعظمك. بدونا للحظات وعلى رغم اختلاف المظهر وكأننا شخص واحد، فحاجتنا الى الكلام بدت قليلة والضحك الذي ينفجر حينما كنا نتهاتف شبه غائب الآن، المرآة أمام المرآة. ذاكرة واحدة بوجهين مختلفين. أنا أتذكّر شيئاً وأنت تتذكّر شيئاً آخر. حينما كنّا نجلس ونكتب إلى بعضنا عن ذكرى كانت أو متوهمة، عن شيء لاح أو يلوح، كانت الكلمات تتدفق والأفكار تسري وكأننا نعيش لبعض أو مع بعض. عالمٌ جعلنا نتبصّر في الفضاء ونكلّم أنفسنا وكأننا نكلّم بعضنا بعضاً. كانت الحياة تسير ونحن نسير، نقطعُ الفيافي ونعبر الطرقات لكي نلقى ما نبحث عنه، أن نجلس وأن نتأمل هذا الدائر حولنا في كل يوم وساعة، القدر المحسوب لنا ونحن طوع يديه وإرادته. الآن، يبست أغصان أرواحنا الطرية، فنحن نحدّق في الأشياء بعيون يابسة، لكأننا نتأمل دموعنا المجففة بطاسٍ أمامنا، نعلك الطعام ونحتسي المرارة. لم تعد الدمعة تكفي ولا العبرة المهراقة، فحينما دخلت زاويتي في هذه الفانية، أريتك صندوق العجائب، وهو صندوق عجائب من صنعك أنت، إذ بنيته ورتبته قطعة قطعة طوال سني الفراق الپ28: رسائل وصور وأشرطة صوتية، صور من الموصل، بغداد، السماوة، ورسائل كتومة، ثم أخرى طويلة من رفحا، حيث قذفتك حياتك بمسعاها إلى هناك. جلست القرفصاء لساعات أمام صندوق عجائبك: صورك راعياً، تلميذاً، هارباً في البراري، صورك ولداً راكضاً بين أشجار النخيل والرمان، أو بين شتلات البطيخ، تداعب خياله الأوهام، فهي رفيقة الساكن في الخلاء. صورتك اذاً امامك. غصتَ في الصمت، ثم حين كنا نسيرُ كان قانون الصمت هو الذي يحكمنا. بلاغتُه هي بلاغة اللقاء، الأجفان متهدلة، النهرُ يسري، الشتاء الكالح يلفنا بغيومه الداكنة وأمطاره الغزيرة، وحينما يخطئ الطقس وتشرق الشمسُ قليلاً، كنتَ تراها مائلة، ليست شمس ظهيرتنا التي كانت تتوسط السماء... فهي هنا في الصباح مائلة، في الظهيرة مائلة... مائلة دائماً... ففضلت أن تغوص في الكتب، فمنها تأخذ نسغك في كل ساعة، تنام وتستيقظ من دون حساب لدورة الليل والنهار، فالفارق في التوقيت جعلك تفقد البوصلة، لهذا فضلت التيه بين الليل والنهار، فرحتُ أنا نفسي أواصل مسيرتي مع الحروف، وهذه كانت أدمنا الوحيد لخبزة النهار. رسالة من رسائلك التي كنت ترسلها في بداية التسعينات من القرن الفائت، حينما كنت هارباً في رفحا، كتبت لي فيها عن كوابيس طفولتك، وها هي الرسالة كما كتبتها آنذاك، ذلك أنها الرسالة الوحيدة التي توقفنا عندها سوية حينما كنتَ تغوص في صندوق عجائبك: "... لعلك تتذكر تلك الكوابيس التي كانت تطاردني في المنام... ولعلك تتذكر أمي وهي تعلّق الرُّقى والتعاويذ في صدري وتقدم النذور والقرابين من أجل طرد الكوابيس... لقد تجشمتْ كل المصاعب والعقبات من أجل الحصول على تلك التعاويذ وركبت كل صعب وذلول وطافت في الفجاج العميقة والشعاب الوعرة وذهبت إلى القرى النائية في النجف والديوانية. وحين حصلت على تلك التعاويذ علقتها في صدري ثم علقتها بساعدي الأيمن لئلا يراها أقراني فيعيّرونني بها كما حدث حين علقتها بصدري... لقد كانت الكوابيس تتراءى لي على صور مختلفة... تتحدث عن الحياة والموت... وحين أمعن التفكير الآن في تلك الصور الكابوسية تراودني فكرة عوراء تملأ حواسي الخمس... وتقول لي ان تلك الكوابيس التي رأيتها ما هي إلا اشارات عميقة المعنى والمغزى أو هي نبوءات خفية ستكشف عنها الأيام... وهنا، ألا ترى أن حتى هذه الفكرة هي نوع من الكوابيس؟ لقد كان أكثر الكوابيس على صورة كائن يشبه الحصان المجنّح. يخطف روحي فيصعد بها في عنان السماء وأبقى أنا على الأرض أنظر إلى روحي وهي تصعد مبتعدة مني فأبدأ بالصراخ والتضرّع من أجل إعادة روحي... لقد كان الحصان السماوي ينأى مبتعداً مني بينما أجثو على ركبتي متوسلاً إليه، طالباً إعادة ما سلبه مني ولم يكن ذلك يجدي فأشعر بيأس عظيم فأهب راكضاً على غير هدى وفي بعض الأحيان أنبطح على الأرض وأتمسك بالتراب... وبعد أن يغيب الحصان عني وبعد سلسلة من الحركات والالتواءات أصحو فإذا النساء حولي يقرأن السور والآيات القرآنية فأشعر بالتعاسة والخزي والخجل. وفي إحدى الليالي جاءني الكابوس بهيئة أخرى... فقد خيّل إلي في المنام أن رجلين نصبا كميناً لي بالقرب من بيت أخوالي القديم قرب شركة الإسمنت وكان أحدهما يرتدي عباءة حمراء، قهوائية اللون... لقد كانا يختبئان في حفرة عميقة في وسط الطريق وينتظران سقوطي فيها... وما زلت حتى الآن أحس بالغثيان حين أرى أحدهم يرتدي عباءة كتلك التي رأيتها في المنام. وفي إحدى الليالي تراءى لي أن غرفة أخينا الكبير في بيتنا الطيني القديم قرب البستان مملوءة بالقطط الحمراء يلتف أحدها فوق الآخر وكانت تحيط بي من كل جانب..."