حد الاكتفاء أمر لم يكن ليتواءم وعامر.. كان التقاؤنا اعتكافا روحيا لم تختلف عليه أديان السماء على تعاقب أزمانها.. يتدفق ينبوع الحب بين فراغات الكلام في حنجرته مثلما تندلق خيوط الفجر فوق أعلى قمم الأرض حتى تبلغ أدنى سفوحها.. كنت في نظره أشبه المدينة تلك التي تعج ضجيجا وصخبا، بينما كان هادئا وديعا كالوطن، وعلى اختلاف طباعنا كنت أماثل كل خرائط المدن، فلست إلا جزءا من وطني وكلي ينتمي إلى بعضه. حين قاسمني الارتواء في أرض السعادة كنت مكرسة الشعور كي أكون حقله وموسمه وكل الثمار التي تأتيه طوعا قبل أن يمد يده ليقطفها.. منذ نعومة أفراحنا توحدت كل أقدارنا في السماوات ماعدا آخر جملة خطت في سياق قدره. كان لوجوده في حياتي سِمة الحب المترف الذي انغمست فيه حد الغرق ، ولم أتصور أبدا أن أشجاري العاطفية التي اعتنيت بها طويلا لأجله ستموت تحت اجتياح فيضان فقد.. أو أن تضاريسي ستتصحر بعد أن كانت مرصوفة باخضرار ربيعه. كان عامر ينتمي إلى الرياض كمسقط رأس، لكنه لم يحتمل قسوة تضاريسها وهجير حرها.. انتقل إليه عبر مساماتي الجلدية ولاء للساحل الذي أنجبتني أرضه.. ومنذ زواجنا لم نعد نرتاد الرياض إلا ما ندر، وحتى والداه نزحا منها فرارا من جفاف طقسها واستقرا في الطائف. كنا ليلتها عائدين من زيارتنا السنوية لها.. كما هي الرياض لم تتغير.. من شدة حرها نغادرها بعد مضي يوم واحد ولا نستطيع المكوث لنهار آخر يليه. كانت أكثر الأمور التي يمقتها عامر في السفر هي قيادة السيارة على مهل.. ولم أكن أعارضه الفكرة، ربما لشعورٍ مشترك بيننا أننا لا نحتمل البقاء طويلا قيد مسافة تفصل بيننا وإن كانت قاب مقعد.. كنت أكره أن أظل مكبلة بحزام أمان يحرمني أمانا حقيقيا يكتنفني حالما يكون بجانبي. بقيت أناملي منكمشة في المساحة الضيقة بين راحة يده ومقود السيارة.. أطيل النظر صامتة إلى سجادة الليل الثقيلة التي تمتد لأبعد من حدود بصري وتبعث عواصف الخوف من سكونها لتزج بها في صدري.. حرارة المقود تبث إلى أوردتي شعورا بعدم الاطمئنان. حاولي أن تنامي ريثما نصل.. أمامنا ثلاث ساعات من الآن.. وأنتِ تخافين الظلام !. قال جملته الأخيرة باسما وكأنه قرأ همهمات الفزع الرابضة تحت نظراتي.. أكملت السيارة طي مساحة الصحراء الجرداء التي تستطيل أمام أنظارنا أكثر من طولها الحقيقي.. بدأ النعاس يرخي جفوني و استسلمت لسطوة المنام.. مال رأسي قليلا إلى الوراء.. ارتخت أناملي وفكت حصارها الدائم حول يده.. سبحت في لجة حلم مشمس ولم يعد الظلام بحلكته وسواده يخيفني.. تنبهت فجأة إلى صوت المكابح وهي تقتحم أذني كالكابوس المفزع.. باغتتني هزة عنيفة ودفعت بجسدي المذعور إلى الأمام فيما ظل الحزام قابضا على قفصي الصدري بشدة. فلا أعي شيئا بعدها.. كان آخر ما التقطته عيناي قبل أن أغيب عن الوعي هي ذراع عامر التي كانت تعترض اندفاعي. أفقت.. تأملت بياض المكان من حولي.. عجز ذهني عن رسم استفهاماته.. تساقطت أوراق الذاكرة ورقة ورقة، بينما شجرتها تمارس الفكاك من حقيقة كان حريا بها أن تكون أكثر وضوحا.. نبرة والدي تحوم حول رأسي بلفظ متكرر «الحمد لله» .. لفافات جبسية ثقيلة تشد قبضتها بإحكام حول ذراعي وساقي.. تحشرج السؤال في حنجرتي : «أين عامر ؟» .. ظلت أسئلتي مستندة إلى استفاقة النهار وهجوع الليل دون أن تجبيني عليها الأيام التي تقاعست عن قول الحقيقة رأفة بكسور في أطرافي وأخرى لا تجبر في عنق الروح.. كانت فكرة رحيله تحفر تعرجاتها بأزميل قاسٍ داخل دهاليز عقلي.. بينما تمارس مشاعري الهروب منها ركضا على ساقٍ واحدة.. لا العقل استطاع الانصياع للقناعة الثابتة بفناء الانسان، ولا حواس الشعور توقفت عن الركض هربا من ملاحقة الحقيقة.. كلاهما خلف ضجيجا يصعب معه الركون إلى هدأة الحياة.. تلك التي تتخلق وتسطع شمسها في الوجدان متى ما كان المرء سعيدا ومطمئنا. ألقيت بأجزاء العقل والشعور جانبا وعشت حياة مفرطة الخيال يحتل فيها عامر جهاتها الأربع.. تحولت إلى زمن متوقف لا يجيد القفز إلى الأزمان الأخرى التي تسير أمامه بمسافات متباعدة.. كان يهبط خلسة ويخبئ تحت وسادتي حلما سعيدا برفقته.. حلم يرسم كل أشكال السعادة التي يمكنني أن أدخر بعض تفاصيلها لأيام أخر حتى تدس أنامله من جديد حلما آخر يشبع نهم انتظاري.. عبر بوابة السماء كان يحدثني في قلبي.. في قلبي تماما.. دون أن أستشعر ذلك الارتفاع الهائل للشرفة التي ينبثق منها نوره كل ليلة حينما يندفع نحوي مثل شلال دافئ ويلفني داخل إزاره.. إزار النور الذي غزله دولاب القدر واستردت السماء العليا روحه بينما بقيت أنا قابعة على قيد الحياة في قاع الأرض.. أستجدي غيوم الغد كل مساء أحلاما كالأمطار المؤجلة.. يطول انتظارها وإن أتت هطلت سريعا.. غسلت أجزاء روحي الكسيرة.. ومضت تاركة لي دهشة صباح وحيد وطيف عبر إلى الأرض ثم عاد أدراجه نحو جنته.