نادراً ما يتحدث الكاتب اللبناني بالفرنسية أمين معلوف عن ماضيه، بما فيه طفولته وأعوام المراهقة والدراسة الجامعية وما رافقها من هموم وأحلام وما أعقبها من مغامرات وأولاها الصحافة التي استهلها في العشرين من عمره في جريدة «النهار» وواصلها في مجلة «جون أفريك» (افريقيا الشابة) في باريس. لكن صاحب «ليون الافريقي» شاء ان يفتح دفاتر الماضي ل «الحياة» وكذلك دفاتر الحاضر كما يرى إليه بعينه الثاقبة، وإلى أزماته وقضاياه الملحّة. هذا الحوار مع أمين معلوف دار حول حياته ونشأته في لبنان ثم انتقاله الى فرنسا بعد الحرب الأهلية، وحول كتابه الأول «الحرب الصليبية كما يراها العرب» الذي جلب شهرة واسعة، وبعده «ليون الافريقي» الذي كاد يكون كتاباً عن ابن بطوطة. يستعيد معلوف ذكرياته مع والده الصحافي والكاتب المعروف رشدي المعلوف ووالدته، بين بيروت وقريته عين القبو في المتن الشمالي. ويتحدث عن نضاله اليساري في الجامعة اليسوعية وفي «مدرسة الآداب العليا» الفرنسية. وعن عمله الصحافي في «النهار» وكيف غطى حرب فيتنام وأجرى مقابلة مع رئيسة وزراء الهند الراحلة انديرا غاندي. أُجري الحوار في منزله في باريس، حيث يعزل نفسه أحياناً ليكتب، وهو الآن في صدد إنهاء رواية جديدة يتكتم حول موضوعها. في منزل معلوف تستقبل الزائر، زوجته أندريه التي يقول انها كثيراً ما تساعده في أبحاثه وفي الاهتمام بشؤون الأسرة والبيت عندما يكون منهمكاً في الكتابة. وأندريه ألّفت كتاباً حول الطبخ اللبناني باللغة الفرنسية ووضع معلوف مقدمة له. يبدأ امين معلوف سرد ذكرياته، وتقطع أحياناً زوجته اندريه الحوار، لتقدم لضيفها «المرصبان» الذي صنعته بيديها الماهرتين في الطبخ. وهنا نص الحديث: كيف تستعيد عالم طفولتك في لبنان؟ - مثل الكثيرين في لبنان، كانت سنوات طفولتي موزعة بين المدينة والقرية وهي عين القبو، في المتن الشمالي في فصل الصيف، وكنا تحديداً نقيم في رأس بيروت في الشتاء حيث كنا نعيش في محيط الجامعة الأميركية وجوّها. وقد ساد هذا الجو منذ ما قبل ولادتي عندما قرّر جدي ووالدي وعمي وعماتي ان ينزلوا من الجبل للإقامة مع العائلة في بيروت بهدف تعليم الأولاد، الشباب والبنات. سكنت الأسرة قرب الجامعة الأميركية، ووالدي رشدي المعلوف كان واحداً من ستة أولاد هم: فخري وحلمي وفوزي وفائزة وكمال. وكان جدي أطلق اسم كمال على عمّتي لأنه كان معجباً بكمال اتاتورك، وكان قرر اطلاق هذا الاسم على المولود الذي كانت تنتظره زوجته، وعند الولادة رزق فتاة فأصر على تسميتها كمال. وفي الثلاثينات قررت جدتي أن أولادها الستة باتوا في عمر الالتحاق بالجامعة. وهكذا توالوا الواحد بعد الآخر على الدخول الى الجامعة الأميركية للدراسة، ومعظمهم عمل فيها أيضاً بعد التخرج. وكان جميع أفراد العائلة يعيشون في المحيط نفسه، وعماتي تزوجن أساتذة في الجامعة الأميركية، وكانت الأحاديث حول مائدة الطعام مرتبطة دائماً بالجامعة الأميركية ونشاطاتها. فهذا كان جو طفولتي في شارع السادات، وهو حي سمّي لاحقاً بحي كراكاس، وهو قريب من شارع السادات وقد أقمنا هناك حتى أوائل الستينات. وأذكر ان عائلتي انتقلت من هناك بين عامي 1961 و1962 وكنت حينذاك في الثالثة عشرة من العمر، وأقامت في منزل أكبر مساحة قرب المتحف. لكن الحي الذي نشأت فيه هو الجامعة الأميركية، والغريب أنني على رغم عيشي في جو هذه الجامعة فإنني تلقيت تعليمي في المدارس والجامعات الفرنسية. كنت في مدرسة الجمهور خلال دراستي الثانوية، نظراً لتأثير أسرة والدتي، لكون أشقائها تعلموا عند اليسوعيين في مصر، وكانت على قناعة بأن ينبغي لي ان أدرس في مدرسة الجمهور اليسوعية في لبنان وهذا ما حصل. ووالدتي من آل غصين وهي من المنطقة نفسها، عين القبو، حيث بيت جدي لوالدي، وكانت تفصل بين منزله ومنزل جدي لأمي مسافة 300 متر، ولو ان بيئتهما لم تكن هي نفسها تماماً، لأن أمي كانت أساساً من ضيعة قريبة اسمها زبونة، وأسرتها هاجرت الى مصر. ولدت والدتي في مدينة طنطا المصرية وكل عائلتها عاشت في مصر وتتكلم باللهجة المصرية حتى الآن، ولذا فقد كبرت في جو تختلط فيه اللهجتان اللبنانية والمصرية. تزوج والدي في مصر عام 1945، وفي السنوات التي تبعت ولادتي، كانت والدتي تأخذني دائماً الى مصر لأن عائلتها كانت هناك. وخلال الزيارة الأولى لي الى مصر كان عمري 28 يوماً، وكانت أمي تأخذني باستمرار ولفترات طويلة الى هناك خلال السنتين الأوليين من عمري، وقد ولدت عام 1949. لكنّ والدي توفي عام 1951، وتبعت ذلك أحداث شهدتها مصر عام 1952، وكان أولها حريق القاهرة ثم الانقلاب، فتوقفنا عن الزيارات الكثيرة الى مصر. ولم أعد اليها قبل عام 1957 أو 1958، وكانت هذه أول زيارة أعيها لهذا البلد، إذ كنت في الثامنة أو التاسعة من العمر، وأرادت أمي هذه الزيارة لترتيب بيت أهلها. عندما كنت تدرس في الجمهور، هل تأثرت بحياة والدك الكاتب رشدي المعلوف، وما هو حجم هذا التأثير في مستقبلك ككاتب وروائي؟ - في الحقيقة ان التأثير من جهة والدي مختلف جداً. فاختيار الدراسة في مدرسة فرنسية يعود الى والدتي بموافقة والدي، لكن النفوذ الأساسي لهذا التوجه التعليمي كان لوالدتي. كان من الطبيعي ان يختار والدي ادخالي الى مدرسة أميركية. فعائلة والدي كانت الى حد ما منقطعة عن الأمور الواقعية، أي ان اهتماماتهم فكرية وأحياناً دينية، في حين ان اهتمامات عائلة أمي أكثر دنيوية. وهذا يعني أن نفوذ عائلة أبي كان من الناحية الفكرية، وأتصور ان عائلة أمي هي التي وضعت رجلي على الأرض. وكان لدى أفراد عائلة أبي ميل سياسي أو ديني، وجدي لوالدي، بطرس معلوف، أسس مدرسة وكان يعتبر ذكياً جداً وإنما مختلفاً جداً. فكان مثلاً يرفض أن يرتدي أي شيء يغطي رأسه، في حين ان الجميع في ذلك الوقت كانوا يغطون رؤوسهم، وكان يلبس بطريقة غريبة وغير تقليدية تماماً. والأمر نفسه ينطبق على أفكاره، فالمدرسة التي أسسها عام 1912، فتحها في الوقت ذاته أمام الفتيان والفتيات وأرادها مختلطة تماماً، مع ان هذا كان نادراً جداً ليس فقط في منطقتنا بل حتى في أوروبا وفرنسا، حيث لم يكن هناك اختلاط في ذاك الوقت. ويقول ابن عمي نصري معلوف الذي كان تلميذاً في تلك المدرسة، ان جدي كان دائماً يجد طريقة ليكون بين الأوائل فتى وفتاة، لكي يبدد الانطباع القائل بأن الفتى ينبغي أن يسبق الفتاة. ولدي شعور بأن الجانب الفكري والفني ورثته من عائلة والدي، ومن عائلة والدتي ورثت الارتكاز الى الواقع واكتشفت شيئاً فشيئاً أهمية هذا المزيج في حياتي. وفي صغري كان تأثير والدي كبيراً جداً فيّ، ويمكنني القول انني خلال طفولتي وحتى عندما كبرت كنت على قناعة بأنني سأعمل مثل والدي، ولم يخطر في بالي يوماً أن أسلك خطاً مهنياً غير الخط الذي سلكه وهو الصحافة. وأردت أن أعمل صحافياً مع ان والدتي كانت تريد لي مهنة علمية مثل الهندسة وكانت تنصحني بالدراسة العلمية وتقول ان في إمكاني إذا أردت بعد ذلك أن امتهن الكتابة. لكنني لم أقتنع أبداً بهذا التوجه وكانت الصحافة المهنة التي تجذبني. وكان والدي رشدي المعلوف بدأ الصحافة في سن مبكرة وأسس صحيفة سماها «المسمار» كان يصدرها في القرية وهو في العاشرة من العمر. وعندما بدأ حياته المهنية فعلاً عمل في «صوت الأحرار» التي كان يملكها كميل يوسف شمعون، ليس الرئيس كميل نمر شمعون. وعمل والدي في هذه الصحيفة في الأربعينات ومطلع الخمسينات ثم شارك في تأسيس جريدة «الجريدة» مع جورج نقاش ونصري معلوف. وكان في الوقت ذاته يكتب مقالاً يومياً في «صوت الأحرار» تحت عنوان «مختصر مفيد». وتولى والدي رئاسة تحرير «الجريدة» حتى عام 1963 حين أسس بنفسه جريدة «الصفا». لكن هذه التجربة كانت مرهقة جداً، وكنت عندها في الثالثة عشرة من العمر. وكنت منذ صغري أتابع الأخبار والأحداث، وأول ما أتذكره هو حرب السويس وكنت عندها في السابعة من العمر. كنت أتابع الأخبار السياسية وأستمع الى اذاعة «بي بي سي» وبقيت على هذه المتابعة ولاحقاً كتبت عن الأحداث، لكنني توقفت عن ذلك الآن على رغم استمراري في متابعة الأحداث عن كثب. بدأت النضال في الجامعة وانضممت الى الحركات اليسارية في لبنان، كيف تفسر هذا النضال؟ - عندما أنهيت دراستي الثانوية التحقت بجامعة القديس يوسف ودرست الاقتصاد كما درست علم الاجتماع في مدرسة الآداب العليا الفرنسية. وعند دخولي الى الجامعة بين 1966 و1967، كانت أجواء المنطقة تتحرك الى أن وصلنا الى حرب ال 67. ولدى التحاقي بالجامعة بدأت أقرأ وأكتشف أفكاراً لم أكن على علاقة بها من خلال محيطي العائلي. كنت أقرأ الكثير عن دول العالم الثالث وعن أحداث مثل حرب فيتنام وغيرها. وكان لدي شعور بأن هناك في العالم ظلماً، وهذا طبيعي لأي شاب. وفي تلك الفترة، فإن كل الذين كانت لديهم اهتمامات فكرية كانوا في اليسار. حتى في فرنسا فإن كلمة مثقف كانت مرتبطة الى حد بعيد باليسار. كانت هناك مجموعات شباب من بيئات مختلفة وكنا نناقش ونندفع. ومن بين الذين التقيتهم وربطتني بهم صداقة كبرى سمير فرنجية، الذي كان جاري عندما كنا نقيم في منطقة المتحف والتقينا لاحقاً في الجامعة. وهناك أيضاً المرحوم كريم مجدلاني الذي قتل في الحرب الأهلية. فالفترة الواقعة بين 1966 و1969 كانت عملياً بالنسبة الى جيلي فترة اكتشاف العالم وفي الوقت نفسه فترة انفجار الصراع في المنطقة. فعام 1967 هو العام المحوري للصراع العربي - الإسرائيلي. والامتحان الأول الذي قمنا به في الجامعة كان يوم 5 حزيران (يونيو) 1967. وخلال الأسابيع التي سبقته كنا نحضر للامتحانات وكانت أجواء المنطقة في حالة غليان. دخلت الى الامتحان في الساعة الثامنة، ولفترة تنتهي ظهراً، ثم خرجنا من قاعة الامتحان لنرى تجمعاً للطلاب وصحفاً طبعت على عجل تعلن بدء الحرب، وتتحدث عن سقوط مئات الطائرات. وأذكر ان سير الامتحانات توقف بعد ذلك، لأننا كنا مشغولين بأمور أخرى. وفي تلك الفترة كنت أقدم في الوقت نفسه امتحانات في جامعة القديس يوسف وأيضاً في مدرسة الآداب العليا، وكان من المفترض أن نحصل على النتائج. ولكن في 9 حزيران (يونيو) استقال الرئيس الراحل جمال عبدالناصر من منصبه. وأذكر أنني نزلت الى الجامعة وكان البلد في حالة غليان، ودخلت لأرى النتائج على اللوح فنظرت اليها وخرجت من الجامعة، ونسيت إن كنت نجحت أم لا، لكثرة انشغالي بما يحدث في المنطقة. فعدت الى الجامعة لأرى ما إذا كنت نجحت حقاً أم رسبت. هذا هو الجو الذي عشناه في تلك الفترة. وهل كان نضالك اليساري مرتبطاً بهذه الفترة؟ - لم ألعب أي دور نضالي. كنا مجموعة من الشباب وكان التأثير النضالي ناتجاً من القراءات التي جعلتني انفتح على أفكار لم تكن موجودة في الوسط الذي كنت أعيش فيه. ولا أذكر أنني قمت بنشاطات نضالية أساسية. وما أتذكره أن الأشخاص الذين تعرفت اليهم بقوا أصدقائي وهم كثر مثل: منح الصلح وكميل حوا... وفي الوقت نفسه كانت قراءاتي واهتماماتي ضمن هذا التوجه. ولا أشعر ان اليسار كان في حياتي فترة سياسية معينة، وإنما كان غلياناً حقيقياً. وهذا لا ينطوي على أي انكار بل على العكس. إنها فترة عزيزة على قلبي، وفترة انفتاح على العالم وعلى بيئات مختلفة. والعنصر الأساسي فيها كان بالنسبة إلي هو اكتشاف العالم والناس، وهذا لا يمثل عملاً سياسياً. فعلاقتي بالعمل السياسي كانت محدودة جداً مع انني كنت أتابع السياسة وأهتم بها، فلم أكن أنظّر، وكنت أقرأ أكثر مما أكتب. بعد تخرجك في الجامعة، ماذا فعلت؟ - بقيت في لبنان وبدأت أعمل، وتزوجت من أندريه وكنت في سن الثانية والعشرين. أين تعرفت الى زوجتك أندريه شديد؟ - كان لدينا صديق عزيز توفي قبل سنتين هو سليم نصر، الذي أصبح عديلي بعد زواجه من شقيقة أندريه. فتعرفت اليها من خلاله وخلال مارلين زوجته. غالباً ما تكون حياة الكتّاب والفنانين العائلية والزوجية غير مستقرة، في حين ان حياتك العائلية في استقرار تام؟ - كتب أرنست همنغوي كتاباً عن باريس عنوانه «باريس عيد»، يقول فيه ان سكوت فتزغرالد كان في باريس وأعطاه قصة كتبها، ليقرأها. ويقول همنغوي انه عندما قرأ هذه القصة فهم أن في إمكان فتزغرالد أن يؤلف كتاباً رومنطيقياً، وانه كان على قناعة بأنه سيؤلف مثل هذا الكتاب، الى أن تعرف الى زوجة فتزغرالد وأدرك أنها لن تدعه يؤلف عملاً رومنطيقياً بل على العكس فهاجسها هو منعه من ذلك. وأعتقد ان هناك فكرة خاطئة مفادها ان الكاتب يجب أن يكون محاطاً بمن يعذبه ليتمكن من الكتابة. وهذا ما ينطبق ربما على بعضهم، ولكن بالنسبة الي فإن الكاتب في حاجة الى الصفاء لينصرف الى الكتابة وتركيز فكره، وإلا فيكون همه القتال على جبهات عدة في الوقت نفسه. ومن حظي أن أجواء بيتي تتيح لي أن أعزل نفسي في مكتبي وأنصرف كلياً الى ما أقوم به، مدركاً أن كل المشاكل تتكفل بها زوجتي أندريه. وأنا أب لثلاثة أولاد أكبرهم رشدي وهو محام يقيم حالياً في اليابان وهو يتكلم اليابانية وعمره 37 سنة، والثاني هو طارق وعمره 34 سنة وقد أسس مع أصدقاء له في باريس شركة فيديو وسينما وإعلانات، أما الثالث زياد، فهو صحافي في اذاعة فرنسا الدولية. لم أفرض على أبنائي أي خط مهني، فكانوا في بيئتي واختار كل منهم توجهه الخاص. عندما أنهيت دراستك الجامعية وبدأت العمل ماذا فعلت؟ - كان عمري 22 سنة، وقررت وأندريه مباشرة ان نتزوج، وهذا ما حصل في 24 نيسان (ابريل) 1971 أي منذ 39 سنة. وكانت حفلة الزفاف يوم السبت، وفي يوم الجمعة اتصل بي غسان تويني، وكان صديقاً كبيراً لوالدي وسألني: أخبروني أنك ستتزوج، فهل تعمل حالياً؟ أجبته لا، فقال: كيف تتزوج وأنت لا تعمل؟ فقلت له، سأبحث عن عمل، فقال: تعال الى النهار. ذهبت للقائه قبل موعد زواجي بيوم واحد، فقال لي: بعد عودتك من شهر العسل ستبدأ في العمل، فقلت له انني لن أذهب في شهر عسل، فقال: إذاً تبدأ عملك في «النهار» يوم الاثنين. وبالفعل توجهت الى «النهار» يوم الاثنين وكانت لغتي العربية المكتوبة وقتذاك أفضل بكثير من الآن، لكوني أعيش منذ 35 سنة في جو فرنكوفوني. طلب مني غسان تويني ان أعمل في الملحق الاقتصادي الذي كانت تصدره «النهار»، فعملت فيه ثم انتقلت الى العمل في الصفحات الدولية. هل أحببت جو الصحافة وعملك فيه؟ - ولدت في جو الصحافة. عندما كنت طفلاً كان والدي يأخذني الى مكتبه في «الجريدة» ثم نتوجه لتناول الغداء عند العجمي، عندما كانت مكاتب «الجريدة» في شارع طرابلس ومطعم «العجمي» على الطريق في زاروب وسط بيروت. وكنت أفرح بأن أذهب الى مكتبه وأنتظر الى أن ينهي عمله ثم يأخذني الى «العجمي». وكان يذهب الى مطبعة «الجريدة» ويأخذني معه. كم بقيت في عملك في صحيفة «النهار»؟ - حتى الحرب الأهلية في لبنان. كنت قبل ذلك أسافر كثيراً لأغطي أحداثاً دولية، فزرت أفريقيا الشرقية وكذلك أثيوبيا، وكنت في أديس أبابا يوم سقوط الإمبراطور هيلاسيلاسي. وذهبت الى الصومال وكينيا، ثم سافرت الى فيتنام لتغطية الأحداث أثناء معركة سايغون قبل نهاية الحرب الفيتنامية، وكنت هناك في شهري آذار (مارس) ونيسان (ابريل) 1975. وانتقلت من فيتنام الى الهند، لأنني كنت طلبت قبل مغادرة بيروت موعداً لمقابلة انديرا غاندي، وقد حددوا لي موعداً يوم 9 نيسان، فتوجهت الى الهند وأجريت المقابلة معها. ماذا كان انطباعك عن غاندي؟ - كان لديها في وقت واحد، وقار وبساطة في طريقة استقبالها لي. كنت شاباً في الخامسة والعشرين. وعندما وصلت الى مكتبها في البرلمان، وليس مكتبها في رئاسة الحكومة، وجدته متواضعاً نسبياً وخالياً من أي أبهة. قالت لي: أخبروني أنك قادم من فيتنام، أطلعني على ما يجري هناك، لأننا لا نتلقى أخباراً من هناك، فسفارتنا لم تعد موجودة. فبدأت أخبرها بما رأيته بالتفصيل، وكيف كانت المناطق العسكرية في فيتنام تنهار الواحدة تلو الأخرى. كانت تسأل وتسجل ملاحظات على مدى نحو نصف ساعة ثم قالت لي: الآن دورك، فاسألني. أتذكر أمراً آخر وهو أنني وجهت اليها سؤالاً حول الشرق الأوسط، فقالت: لماذا تسمون المنطقة الشرق الأوسط والشرق الأقصى، فنحن نستخدم عبارة غرب آسيا ومفروض ان تستخدموا العبارة نفسها بدلاً من الشرق الأوسط والأقصى والدول الواقعة في الشرق الآسيوي ينبغي أن تسمى شرق آسيا. كانت أنديرا غاندي صاحبة شخصية مثيرة جداً. غادرت نيودلهي في 12 نيسان 1975 على متن طائرة «بان أميريكان» التي كانت تقوم برحلة الى كراتشي ثم طهرانوبيروت. وصلت الى بيروت يوم الأحد في 13 نيسان حيث كانت زوجتي اندريه بانتظاري في المطار، وتوجهنا الى منزلنا لأرتاح من عناء الطائرة، إذ تعذر عليّ النوم خلال الرحلة. في تلك الفترة كان عندي ابني رشدي فقط. وفي وقت من الأوقات بدأنا نسمع صوت اطلاق نار، فسألنا عما يحصل، فقيل لنا ان هناك تراشقاً بالرصاص. وكنا بعد زواجنا أقمنا في عين الرمانة، فنظرنا من النافذة ورأينا بوسطة على المفرق تحت المنزل ومن حولها مسلحون. وفجأة عاد اطلاق الرصاص، فاحتمينا وراء الحائط خوفاً من الرصاص الطائش، ثم نظرنا مجدداً الى الخارج ورأينا جثثاً منتشرة على الأرض. حينذاك اتصلت بوالدي وقلت له، أعتقد ان الحرب الأهلية بدأت، وذلك فور عودتي من الهند. وبعد الحادث استمررت في الذهاب الى عملي في «النهار». كيف كانت علاقتك بغسان تويني؟ - كانت جيدة وفي الوقت نفسه كانت علاقة مهنية وصداقة عائلية، إذ كان من الأشخاص القلائل الذين حضروا زواج والدي في مصر. بعد حادث عين الرمانة، نزلنا ليلاً الى الملجأ، وبعد بضعة أيام غادرنا الحي وانتقلنا الى منزل أهلي في المتحف. وكنت بعد الحادث ذهبت الى «النهار» وأخبرت غسان بما حصل فسألني إن حصل خراب في بيتنا، فأجبته بأن الأمر بسيط ويقتصر على تحطم الزجاج من جراء الرصاص، فوقّع شيكاً بقيمة تصليح الزجاج وأصر على اعطائه لي، لكنني ضحكت ورفضت، فأصر مجدداً بالقول: لا تناقش خذه لتصلح الزجاج. وأذكر اننا لم نتمكن ليلة 13 نيسان من النوم لأننا لم نكن معتادين بعد على الرصاص وإطلاق القذائف. في تلك الفترة كنت أتحرك باستمرار بين مكاتب «النهار» ومنزل أهلي، لكنّ التحرك بدأ يصبح أكثر صعوبة، خصوصاً ان دوام عملي كان ليلاً. وكنت أنتظر صدور الصحيفة لكي أحضرها معي. ولكن في طريق عودتي كانت هناك دائماً قذائف تنفجر بقربي، ففكرت انها يوماً ما ستنفجر بي. في مرحلة لاحقة اشتدت المواجهات، بحيث لم يعد في وسعي أن أعود الى المنزل، فبدأنا ننام في فندق «كافالييه» في الحمرا قرب النهار وكان عمري 26 سنة. حتى الانتقال من «النهار» الى الفندق كان خطراً وكانت هناك ملالة توصلنا خوفاً من القنص والقذائف. وبعد فترة انتقلت عائلتي من المتحف الى عين القبو. كم عدد أولاد عائلتك؟ - ثلاث شقيقات والثلاث في فرنسا مع عائلاتهن. فشقيقتي ندى متزوجة من طبيب من تشيلي ونائلة متزوجة من جوزيف زغبي وشقيقتي الكبرى هي هند. وأذكر ان عندما جاءت شقيقتي من فرنسا، انتظرتها في المطار ورافقتها الى القرية، فشعرت حينذاك أنني لن أغادر عين القبو بعد ذلك. في «النهار» لم يعد في تلك الفترة، لا سيما في ظل الحرب الأهلية، من اهتمام بالدوليات، وأنا لم يسبق لي أن عملت في الشؤون المحلية، على رغم متابعتي لها. فبقيت في عين القبو، لكنني كنت متضايقاً جداً جراء توقفي عن العمل، ولو ذهبت الى العمل لما كان في وسعي العودة الى عائلتي. ثم تعرضنا لبعض القصف في القرية الواقعة في المتن، مما جعلني أسهر وأراقب ما إذا كان القصف يقترب منا لإيقاظ العائلة واللجوء بها الى مكان آمن. بقيت هناك شهرين ونصف شهر، وفي أحد الأيام قررت فجأة الذهاب الى جونيه، حيث استفسرت عن مواعيد رحلات الباخرة التي تنقل الركاب الى قبرص. وفي اليوم التالي توجهنا بالباخرة الى قبرص، وكنت متردداً بين الذهاب الى كندا أو الى فرنسا. توجهت الى السفارة الكندية التي كانت انتقلت موقتاً من بيروت الى ليماسول، فقالوا لي انهم لا يتولون أمور الهجرة والسفر ولا يمكنهم اعطائي تأشيرة. وكان منير تقي الدين حينذاك سفيراً للبنان في قبرص وهو صديق حميم لوالدي، فقال لي: «عمو سأعطيك رسالة حالاً». كتب رسالة الى السفارة الفرنسية مكنتني من المجيء الى باريس. وصلت الى باريس في 19 حزيران (يونيو) 1976. وكانت أندريه في لبنان وقد ولد ابني زياد في آب (أغسطس) 1976 يوم سقوط مخيم تل الزعتر، وتعرض المستشفى الذي وضعت فيه للقصف. بعد مضي 28 يوماً على ولادة زياد جاءت مع الأولاد الثلاثة ووالدتها الى فرنسا. وفي تلك الفترة كنت استأجرت منزلاً في بانيوليه في ضاحية باريس، ووجدت عملاً في مجلة «جون أفريك»، وبالتالي لدى وصولهم كان لديّ منزل وعمل، وعدت الى حياة أكثر طبيعية. وفي الوقت ذاته عدت عملياً في فرنسا الى الصحافة والسفر وتغطية الأحداث على غرار ما كنت أقوم به في لبنان. كيف انتقلت من الصحافة الى كتابة الروايات؟ - منذ زمن بعيد كنت أرغب في كتابة الروايات، والفترة التي أمضيتها في عين القبو قررت خلالها أن أكتب قصة، خصوصاً أنني لم أكن قادراً على التوجه الى العمل. لماذا اخترت الكتابة بالفرنسية؟ - ربما لأنني منذ كنت في ال16 كانت معظم قراءاتي بالفرنسية. طبعاً كان هذا ناجماً عن نفوذ المدرسة. ففي طفولتي كنت بدأت القراءة بالعربية. وكانت هناك سلسلة في دار «كيلاني» للنشر اسمها «أولادنا»، وكنت أقرأ كل ما يصدر فيها. ومعظم قراءتي بالعربية كانت ترجمات مثل رحلات «غوليفر» وأيضاً كتب مارك توين وتشارلز ديكنز التي قرأتها بالعربية وهذا حتى الرابعة عشرة من عمري. كان هذا منسجماً مع جو العائلة بحيث لم نكن نتكلم بالفرنسية. كان والدي يعرف الفرنسية لكنه لم يرتح لهذه اللغة وكان يتكلم بالانكليزية، وكنا في البيت نتكلم بالعربية. وعند وصولي الى المرحلة الثانوية بدأت أقرأ كتباً لألبير كامو وجان بول سارتر وأندريه مالرو، وشيئاً فشيئاً أصبحت كل قراءاتي بالفرنسية. من هو الكاتب المفضل لديك؟ - أحب كامو بين الفرنسيين ومن الأدب العالمي ليون تولستوي ودوستويفسكي وتوماس مان. هل أثرت قراءاتك في رواياتك الأولى؟ - بالتأكيد، كنت أمضي وقتي في السرير والكتب على الأرض، أقرأ كتاباً تلو الآخر. ولكن لا يمكنني القول ان كتاباً معيناً أو كاتباً معيناً أثر فيّ في شكل خاص. ماذا عن القصة الأولى التي كتبتها في عين القبو؟ - بدأت بكتابتها ولم أكملها. كانت قصة مستوحاة من الأحداث في لبنان، ولكن لم أكتب الكثير، مئة صفحة فقط، ولو بحثت في أدراجي لربما وجدت شيئاً مما كتبته في حينه. كانت رواية، أوقفتها لأنني سافرت وانهمكت في تركيز أموري. هل تعزل نفسك لتأليف رواية؟ - الآن أعزل نفسي ولكن في البداية لا. في الماضي كنت معتاداً على الكتابة حتى عندما يكون هناك أشخاص من حولي، لم أكن أتضايق، فهذه تجربة الصحافة. كنا في المكتب أربعة صحافيين ولم يسبق لأحد منا أن عزل نفسه للكتابة إلا في ظروف استثنائية. عندما عملت في مجلة «جون أفريك» هل كنت بدأت تكتب جدياً؟ - كتابي الأول هو «الحروب الصليبة كما عرفها العرب». لم أكن عندها مهتماً في شكل خاص بالحروب الصليبية. كان في احدى المجلات التابعة لمجموعة «جون أفريك» رئيس تحرير من أصدقائي، وسألني مرة ما إذا كان في إمكاني أن أنصحه بكتاب عن الحروب الصليبية، من وجهة نظر أخرى. فقلت له سأبحث لأنني لم أقرأ شيئاً من هذا النوع. بحثت ولم أجد أي كتاب، وسألت أشخاصاً مطلعين ولكن لم تكن لدى أحد معلومات عن ذلك. قلت له: يبدو ان ليس هناك أي كتاب في هذا الموضوع، فسألني إذا كانت لديّ رغبة في كتابة شيء من هذا النوع، وأجبته: معقول. قال لي ان لديه اتصالاً مع دار نشر «لاتيس» وانه متأكد من انهم مستعدون لنشر كتاب عن هذا الموضوع، فقلت له سأقرأ عن الحروب الصليبية وأجيبك. بدأت بالقراءة ووجدت انها مرحلة مهمة من الناحية التاريخية وفي الوقت نفسه مهمة للحاضر. وفي النهاية هناك في العلاقة بين الغرب والعالم العربي مواجهة تذكر أحياناً، وقد حصلت في القدم، أو يمكن أن نعتبر الحروب الصليبية مواجهة نموذجية بين العالمين. كيف جعلتك حياتك الخاصة وسيرتك، تعمل من خلال رواياتك على اعادة اختراع التاريخ؟ - كل انسان ينتمي الى لبنان والى الحضارة العربية في شكل واسع لا يمكنه إلا ان تكون لديه أسئلة عن المرحلة التي نعيش فيها، فكيف يمكن الشخص أن يحافظ على تجربة تعايش في عالم أصبح فيه التعايش أشد صعوبة كل يوم؟ وهل الأزمة التي تمر بها الحضارة لها نهاية أم لا؟ وما أسباب هذه الأزمة؟ وكيف وصلنا اليها؟ هل العلاقة الموجودة اليوم بين الحضارات المختلفة علاقة ستدوم أم أنها مرحلة في التاريخ؟ لعل الإنسان مضطر أن يعود وينظر الى التاريخ ليفهم العالم الذي نعيش فيه وليحاول أن يفهم الى أين نحن ذاهبون. وهذه ليست مسألة فكرية فقط بالنسبة الينا، لأنه فرض علينا في شكل او في آخر ان نهاجر ونتشرد وأن نعيش في مرحلة نشعر فيها ان حضارتنا لا ينظر اليها باحترام وتقدير. وهذا ما يجعل الإنسان يشعر بأنه يعيش في عالم هو غريب عنه وهو في الوقت نفسه ينظر الى حضارته وما يصدر عن العالم الذي ينتمي اليه، ويشعر أيضاً بالغربة. هل هذا ما جعلك تعود دائماً الى أزمة الهوية والجذور في كتبك، ولماذا اخترت عنوان «الهويات القاتلة»، هل تعاني ككاتب فرنسي مشكلة الهوية؟ - بطبيعتي لا يمكنني القول انني إذا كان لدي وضع متميز في مجتمع معين، فمعنى ذلك أن أنسى الوضع العام الذي يحيطني. وعندما أشعر أن الحضارة التي أنتمي اليها يُنظر اليها سلباً، لا يسعني إلا التأثر بذلك والتألم من جرائه. ولا أتصور أن شخصاً ينتمي الى هذه الحضارة لا يشعر انه يمر في مرحلة قاتمة من التاريخ. حتى الأشخاص الذين يمكنهم على الصعيد الشخصي أن يتفهموا معظم السلبيات فإنهم أيضاً يتألمون. هل كنت ستكون أسعد لو أنك في لبنان، علماً أن في كتبك دوماً اشارة الى الجذور، مثل «صخرة طانيوس»، فهل لديك حنين الى الحياة في لبنان؟ - لدي شعور أنني سأكون غريباً أينما كنت. لماذا؟ - لدي شعور بأن القيم التي أؤمن بها لم تعد هي التي يسير عليها العالم اليوم، لا في الشرق ولا في الغرب. والعالم الذي كنت أحلم به عندما كنت شاباً مختلف عن عالمنا اليوم. طبعاً لا أتصور ان وضع العالم العربي سبق أن كان على ما هو عليه اليوم. ما السبب برأيك؟ - هناك أسباب عدة. ولو أخذنا ذلك في سياق تاريخي واسع فيمكنني القول ان كل الحضارات واجهت تحدياً معيناً في فترة ما من تاريخها. وهذا ينطبق على الحضارة الصينية واليابانية والهندية والروسية. كل المجتمعات غير الغربية اضطرت الى ان تبحث عن طريقة للتعامل مع هذا التحدي. وعموماً هناك دول وصلت الى حلول معقولة بعد متاهات كثيرة. والسؤال هو: لماذا لم يتمكن العالم العربي من مواجهة هذا التحدي بفاعلية؟ جوابي الأول هو انه لو قارنا مثلاً بين الصين واليابان، نجد ان هناك كتلاً بشرية متجانسة تمكنت من أن تحافظ على قدرتها على اعادة الإمساك بمصيرها. وأعيد القول انها تمكنت من القيام بذلك بعد تجارب صعبة ومؤلمة ومكلفة. والعالم العربي قريب جداً من الغرب، لكنه مشتت، ولعله لم يتمكن من ايجاد الرد لقربه من الغرب. وقد يكون تلقى الضربة الأولى عندما انتشر الغرب في العالم بحيوية وقدرة هائلة، وأول ما اصطدم به هو العالم العربي. ويمكن القول اننا لم نتمكن حتى الآن من ايجاد الرد، وكذلك القول انهم لم يسمحوا لنا، وكلا القولين صحيح. نحن من جهة ننسخ عن الغرب ومن جهة أخرى نتقوقع حول جوانب معينة من تراثنا في محاولة لإبعاد كل تأثير عنا. لكن النتيجة كارثية، إنها التراجع والتفكك والضياع. الى أين نحن ذاهبون؟ ما الذي نحاول فعله؟ إنني أبكي عندما أرى ما حلّ بالعراق وبكل المنطقة. ما كان انطباعك عند سقوط الرئيس العراقي السابق صدام حسين؟ - لم أتأسف على صدّام لأنه كان جزءاً من المشكلة. لكنّ الطريقة التي تصرف بها الغرب والأميركيون تحديداً كانت كارثة سياسية ومعنوية. فالأميركيون تصرفوا في العراق بطريقة تتنافى مع كل القيم التي ينادون بها. وحرب العراق فجّرت صراعات طائفية لم يكن مفروضاً أن تنفجر. صحيح انه يمكن القول ان هذه أمور كانت ترقد تحت الرماد، ولكن ليس كل ما يرقد تحت الرمال ينبغي أن ينفجر. كيف تنظر اليوم الى ما يحدث في بلدك لبنان بعد اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري؟ - إنني أتفادى أي كلام سياسي مباشر إزاء لبنان، فشعوري انه عندما يكون الشخص بعيداً من البلد أكثر من 34 سنة، لا يمكنه القول من بعيد إن العمل ينبغي ان يكون في شكل معين. كل ما أقوله انني أتمنى أن يعود البلد الى حياة طبيعية. هل تزور لبنان؟ - من وقت الى آخر، لكنني لا أقضي هناك فترة كافية لأحكم بالتحديد على التطورات اليومية. لكن حلمي بالنسبة الى لبنان مختلف عما هو عليه اليوم. فعندما بدأت أعي الأمور كنت أحلم بأن يكون لبنان بلداً متطوراً اقتصادياً وفيه مستوى حياة مرتفع وقوانين اجتماعية ومساواة وديموقراطية حقيقية. ويمكنني القول انني كنت أحلم أن يحدث في لبنان ما حدث لإسبانيا خلال الثلاثين سنة الأخيرة. لكن هذا الحلم لم يتحقق ولبنان كان يستحق أكثر مما حصل. والمفروض ألا يكون لبنان بلداً يغادره شبابه الى أميركا وكندا وأوروبا بحثاً عن عمل. كان حلمي أن تكون في لبنان صناعات وشركات ومختبرات، خصوصاً أن أبناء مناطقنا من الشمال الى الجنوب لمعوا في جامعات العالم، سواء في العلوم أو الاختراعات، ولدينا قدرات هائلة ومجتمع يكبت هذه القدرات فكرياً ونفسياً واجتماعياً. وما أقوله عن بلدي لبنان يمكن أن أقوله عن معظم البلدان العربية. عندما أرى حال العراق بلد الفن والأدب والموسيقى أُصاب بالحزن. وإذا قارنا منطقتنا بالمناطق الأخرى، نرى انها الوحيدة التي لم تتقدم فيها الديموقراطية منذ خمسين سنة، والحق في ذلك علينا وعلى غيرنا. فالمسؤولية مشتركة. فنحن أخطأنا بحق أنفسنا وغيرنا لا يتمنى لنا الخير. كدت مرتين أن تُنتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية، ما الذي حال دون ذلك؟ - في المرة الأولى نصحني أصدقاء من أعضاء الأكاديمية بأن أقدم ترشيحي وأنها مسألة مضمونة، إذ ان هناك رغبة في دخولي اليها. ولكن في اللحظة الأخيرة حصلت «حزازات» أو مشاحنات بين فريقين، حالت دون عضويتي في الأكاديمية بفرق صوتين. كيف كان شعورك في تلك اللحظة؟ - طبعاً يتضايق الإنسان، لكن ما أزعجني هو ان أترشح بطلب منهم، فهم أتوا وطلبوا مني ترشيحي، فيما أنا لم أطلب أي شيء. وشعرت أيضاً أن هناك جواً من المناكفات والحرتقات بين الأعضاء. وفي النهاية ما الذي يبرر وجود أكاديمية من هذا النوع؟ المبرر هو ان تكون لديها صدقية أخلاقية وأن يكون الأعضاء على مستوى مناقبي ولا غبار عليهم، وأن يلتقوا ويفكروا وأن يكون رأيهم محترماً. ولكن إذا كانت العضوية في الأكاديمية تعني الدخول في متاهات ومشاحنات، فأنا لم أطلب ذلك حقيقة. أما في المرة الثانية، فأنا الذي غيرت فكري بعدما اتصلوا بي مجدداً وقالوا: في المرة السابقة لم تستوِ الأمور، ولكن هذه المرة مضمونة. وفي اللحظة التي بدأت أفكر بأن عليّ أن أعيد كتابة رسائل وأزور أعضاء الأكاديمية، لم أتشجع وكرهت ذلك، وقلت ان مكاني ربما ليس في الأكاديمية الفرنسية إذ انني اعيش بين عالمين، والأكاديمية كانت لها أهمية عند تأسيسها في القرن السابع عشر لتجمع شخصيات ثقافية وسياسية ودينية. وفي مرحلة معينة كانت لها مكانة مرموقة، لا تزال موجودة الى حد معين. لكن العالم تغير وباريس لم تبق المركز الثقافي كما في السابق. وفي مرحلة من التاريخ كانت اللغة الفرنسية لغة المثقفين في العالم بأسره، لكن هذا لم يعد قائماً الآن. واللغة الفرنسية لم تعد اللغة الدولية ولا حتى اللغة الثانية. وبالتالي لدي شعور ان اندماجي بالعالم الثقافي الفرنسي لا يتطلب أن يكون أكبر مما هو عليه اليوم. وأنا أكتب بالفرنسية لأسباب عائلية وتاريخية، لكنني أرفض أن أكون رمزاً للفرنكوفونية ولا أتعاطى بأي أمر له علاقة بالفرنكوفونية، فهذه ليست قضية بالنسبة إلي. لكنك رافقت رؤساء جمهورية وحكومات فرنسيين في زياراتهم الى لبنان؟ - أنا أعيش في فرنسا وعندما يدعوني رئيس فرنسا لأكون ضيفه في رحلة أو في احتفال في القصر الرئاسي، فمن الطبيعي أن ألبّي الدعوة. من الذي دعاك الى مرافقته من بين الرؤساء؟ - رافقت الرئيسين جاك شيراك ونيكولا ساركوزي ورئيس الحكومة فرانسوا فيون. وأحضر أحياناً حفلات في قصر الرئاسة ولديّ صداقات بين السياسيين الفرنسيين، ومنهم فرانسوا بايرو وفرانسوا كوبيه وفرانسوا حولاند ودومينيك دوفيلبان. وشاركت في حوارات مع عدد من السياسيين في مناسبات عدة. لم تشعر يوماً أنهم ينظرون اليك كأجنبي أو عربي؟ - طبعاً ينظرون إليّ كعربي. وأنا أعتبر انّ لدي قدماً في العالم العربي وقدماً في العالم الغربي ولا أحاول أن أظهر بصفتي فرنسياً فقط أو عربياً فقط، فهذه حياتي، وانتمائي الأول هو للعالم العربي ولبنان حيث عشت حتى السابعة والعشرين وإلى حد ما الى مصر، والآن أقيم في فرنسا منذ أكثر من 34 سنة ولديّ أيضاً انتماء أوروبي. فلجنة المفوضية الأوروبية كلفتني رئاسة مجموعة عمل حول تعادل اللغات في أوروبا، وقدمت اقتراحات في هذا الشأن. لديّ كل هذه الانتماءات ولكن ليس لدي شعور بأنني أريد أن أثبت لأحد ما إذا كان أحد الانتماءات يلغي الآخر. فكل انتماءاتي تتعايش لديّ. ونحن في عالم يشهد حرباً مفتوحة بين الغرب والعرب، وكل فرد قادر الى حد ما على الإبقاء على لغة مشتركة، وقادر على التحدث الى الجهتين وأن يفهم عقليتيهما، فهذه الممارسة ضرورية. كيف ترى جائزة نوبل التي حاز عليها كاتب أصغر منك عمراً هو أورهان باموك؟ هل تطمح الى نيل هذه الجائزة؟ - ان أي كاتب أو روائي يقول انه لا يهتم بجائزة نوبل يكذب، ولكن ليس من المفروض أن تكون هذه الجائزة هاجساً. وإذا أخذنا لائحة الحائزين على جائزة نوبل للأدب في السنوات الأربعين الأخيرة نجد أن أكثر من نصفهم ليسوا معروفين اليوم أكثر مما كانوا عليه قبل حصولهم على الجائزة. وفي الوقت نفسه فإن عشرات الكتّاب الذين لم يحصلوا على الجائزة، لهم مكانة وأهمية أدبية أكثر من أولئك الذين حصلوا عليها. لكن أورهان باموك يستحق الجائزة. وأنا أعرفه شخصياً وقرأت ما يكتبه وهو ما زال ينتج وآمل أن يستمر لأن كتاباته جميلة وقيمة جداً. وبما انني أعيش في هذا الجو، فإن عدداً كبيراً من الحائزين على جائزة نوبل من أصدقائي أو معارفي، ومنهم جان ماري لوكليزيو وجوزيه ساراماغو الذي أعرفه جيداً. وعندما أصدرت «الهويات القاتلة»، قدمته في اسبانيا، بمشاركة ساراماغو، بعد ثلاثة أشهر من حصوله على جائزة نوبل. لست من الأشخاص الذين يقولون لماذا حاز فلان جائزة نوبل وليس فلاناً. فعندما تقرر لجنة نوبل ان تمنح الجائزة، تكون لديها اختياراتها الخاصة كما لديها حسابات معينة، بحيث تعطي الجائزة الى منطقة معينة من دون تناسي المناطق الأخرى. وقد يفوز بالجائزة هذه كاتب عراقي بعد فترة، قد يفوز بها أدونيس أو غيره. ولجنة نوبل تحاول الحفاظ على التوازن، وأحياناً تكون خياراتها صائبة، وتخطئ أحياناً أخرى. فغبريال غارثيا ماركيز يستحق الجائزة بكل تأكيد وأيضاً خورخي أمادو البرازيلي، ولكن إذا فكرنا بمن يستحق الجائزة، فإن اللائحة ستمتد الى ما لا نهاية. من هم الكتّاب المفضلون لديك بالعربية والأجنبية؟ - ان معظم قراءاتي هي لكتّاب قدامى، وقليلاً ما أقرأ للكتّاب الجدد. وعندما أقرأ كتاباً جديداً فإنه يكون غير روائي. أما قراءتي الروائية فهي لكتّاب روس قدامى أو انكليز من القرن التاسع عشر، ولا أتابع الجديد إلا عندما أكون على موعد مع مؤلف، فحينذاك أقرأ ما كتبه مسبقاً لأكون على اطلاع على أجواء تفكيره، وأنا لا أتابع الأدب الفرنسي ولا العربي المعاصر عن كثب. كيف جاءت فكرة كتابك الثاني «ليون الأفريقي»؟ - الفكرة لم تكن عن ليون الأفريقي. في البداية كان المشروع أن أكتب عن ابن بطوطة. وهذه لم تكن فكرتي بل فكرة الشخص الذي كنت أتعامل معه في دار النشر، وهي سيدة قرأت عن ابن بطوطة وسألتني ما إذا كان في إمكاني الكتابة عنه على طريقة كتاب «الحروب الصليبية»، فبدأت بقراءة كتب عن ابن بطوطة ورحلاته. وفي احد هذه الكتب وجدت شخصاً يقول ان هذه الملاحظة لابن بطوطة أعاد تأكيدها ليون الأفريقي. ولأنني لم أكن سمعت عن ليون الأفريقي بدأت أبحث عنه في القاموس. ووجدت أنه ولد في غرناطة وبدأت أهتم به وأقرأ عنه وهكذا بدأت. وكانت الفكرة الأولى تقضي بأن أكتب سيرة ليون الأفريقي ثم تحولت الى رواية. أي من كتبك هو الذي منحك الشهرة، باعتقادك؟ - أول كتاب عرف في شكل واسع هو «ليون الأفريقي»، و «الحروب الصليبية» عرف بعد صدور «ليون الأفريقي»، ثم صدر «سمرقند». فأنا كنت أهتم منذ مدة بعمر الخيام، وكنا نتحدث عنه مع الوالد. وقرأت مثل الكثيرين في بلادنا «الرباعيات». وعندما قرأت كتاب «مذكرات ادريان» للكاتبة مارغريت يورسنار، استوقفني في نهايته قولها انها ترددت لفترة وتساءلت ما إذا كانت تريد الكتابة عن أدريان أم عن عمر الخيام، ثم اختارت ادريان انطلاقاً من معرفتها بالمجتمع اللاتيني. قررت أن أكتب عن عمر الخيام لكون اسمه شائعاً، ولكن، هناك أمور كثيرة غير معروفة عنه. بدأت أقرأ عن عمر الخيام ومثلما حصل مع «ليون الأفريقي» انتقلت من السيرة الى الرواية وسميتها «سمرقند»! هل لعبت زوجتك اندريه دوراً في حياتك ككاتب، علماً أنها ألفت كتاباً عن الطبخ؟ - زوجتي تلعب دوراً في مجالات عدة، تساعدني في البحث خصوصاً في المواضيع التاريخية. لكن الأهم هو الجو الذي أنشأته من حولي ويسمح لي بأن انصرف الى الكتابة، ومنذ بضع سنوات كانت هناك دار نشر تطلب منها أن تكتب عن الطبخ اللبناني، فقررت في أحد الأيام ان تفعل ذلك، فشجعتها وكتبت لها المقدمة ورافقتها في بعض الرحلات التي قدّمت خلالها الكتاب. وقد ترجم الى الإسبانية وسيصدر بالإنكليزية قريباً. وكانت التجربة جميلة بالنسبة إلي، لأنني عادة، كنت أنا أكتب وهي ترافقني في تقديم كتابي وتوقيعه. وعند صدور كتابها جرى العكس. وأندريه تمارس فن الطبخ بتأثير من عائلتها وعائلة والدتها، وكان لدى هذه العائلة محل للحلويات في باب ادريس في وسط بيروت. وفن أندريه في الطبخ كان حظاً كبيراً لي وقد استفدت منه، لأن والدتي كانت طباخة جيدة والآن زوجتي جيدة، لكن المشكلة أن هذا يجعلني آكل أكثر من المفروض. أين تكتب رواياتك؟ - في مكانين، أحدهما منزلي في باريس حيث أعزل نفسي كلياً داخل مكتبي، والآخر منزلنا في جزيرة فرنسية اسمها ايل ديو، حيث أعزل نفسي أحياناً خمسة أشهر للكتابة وربما أكثر. كنا في لبنان نقضي الشتاء في بيروت والصيف في القرية وهنا الحالة نفسها، وأنا أكتب في الصباح عندما أستيقظ. «ليون الأفريقي» تطلّب سنتين بين الأبحاث والكتابة والصدور. هل تعيش مع الكتاب الذي تعمل عليه وتفكر ليلاً ونهاراً بما ستكتبه؟ - أكثر مما ينبغي، وأحياناً أحاول ألا أفكر فيه. هل عانت عائلتك من ذلك؟ - كلا، كنت دائماً في البيت. وعندما كان أولادي صغاراً وكنت أعمل، كانوا يحترمون عملي، وكان في إمكانهم أن يتكلموا معي إذا احتاجوا. ونحن أصررنا على التحدث معهم بالعربية ولو ان معرفتهم بها محدودة. ماذا تكتب الآن؟ - أعمل الآن على رواية. أحد كتبك الروائية الأخيرة كان «جذور». هل أنت مهووس بهويتك؟ - كتبت هذا الكتاب كرواية، والهوية مشكلتي وهي مشكلتنا جميعاً، والعالم اليوم مشكلته الأساسية هي الهوية. فكيف يحدد العالم قدرة الأشخاص على العيش معاً، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية واللغوية؟ وكيف ينظم الإنسان العلاقة ضمن المجتمعات؟ اتصور ان الهويات هي مشكلة القرن ال 21، في كل المجتمعات العالمية الأميركية والأوروبية والافريقية... من هم المثقفون العرب الذين تفضلهم؟ - ليست القضية قضية أفراد، المهم ان تكون مجتمعاتنا قادرة على استيعاب أفكار ونقاشات مختلفة، وأن يتمكن من لديه كفاءة ذهنية أو مهنية أو اقتصادية أن يكون له وجود في بلداننا. هذا هو هاجسي. ماذا عن والدتك؟ - انها في الثامنة والثمانين وتعيش خارج باريس. وفي صيف 2006 سألتني عما إذا كانت هناك مشكلة في ذهابها الى بيروت، فقلت لها ان الأمور لا تبدو هادئة. ذهبت في 10 تموز (يوليو) 2006 وشنت اسرائيل الحرب على لبنان، وما لبثت ان غادرت مع الجاليات الفرنسية التي عمل على اجلائها السفير الفرنسي في حينه برنار ايمييه.