عُينت معيداً في قسم الفلسفة بكلية الآداب القاهرة في 15 تشرين الأول اكتوبر سنة 1938، وخلال العام الجامعي الأول 1938 - 1939 كنت أحضر دروس الماجستير عند لالاند وبيرلو، كما كنت أُعيد دروس لالاند على طلاب الليسانس، وأشرح لهم "مقال في المنهج" لديكارت. لكني في الوقت نفسه وضعت خطة للانتاج العلمي فيما استقبل من عمري، ورسمت هذه الخطة على أساس ان تسير في ثلاثة اتجاهات: الأول هو المؤلفات المبتكرة التي أُعبر فيها عن مذهبي في الفلسفة، والثاني هو عرض الفكر الأوروبي على القارئ العربي، والثالث هو الاسهام في دراسة الفلسفة الاسلامية. على ان يتم العمل في هذه الاتجاهات الثلاثة إما معاً، وإما على التعاقب. هكذا الشأن بالنسبة الى الفلسفة، وهكذا الشأن ايضاً - ولكن بدرجة أقل كثيراً - بالنسبة الى الأدب بعامة. وفي السنة الثانية لتعييني معيداً، أي في العام الجامعي 1939 - 1940، قمت بتدريس ثلاث مواد هي: تاريخ الفلسفة اليونانية من طاليس حتى أفلاطون بما في ذلك أفلاطون - مصطلحات فلسفية - نصوص فلسفية باللغة الفرنسية. وقد حدث في القسم في ذلك العام الجامعي أمر جديد، هو عودة المبعوثين الى فرنسا، عودتهم الى مصر، دون ان يحصل أي واحد منهم على الدكتوراه باستثناء يوسف مراد الذي عاد متأخراً في مارس سنة 1940 رغم قضائهم في بعثتهم عشر أو تسع سنوات!! محمود الخضيري ونجيب بلدي وعبدالعزيز عزت بقوا عشر سنوات، وعثمان أمين بقي تسع سنوات. وكانت الحال نفس الحال بالنسبة الى مبعوثي الأقسام الأخرى: محمد مندور وعلي حافظ قسم اللغة العربية والشحات أيوب، وعبدالهادي شعيره قسم التاريخ، الخ الخ. ماذا فعلوا إذن طوال هذه السنوات العشر أو التسع بعضهم حصل على الليسانس من جديد - وكان قد حصل عليها في مصر سنة 1929 أو 1930 - مثل محمد الخضيري ونجيب بلدي وعثمان أمين، وبعضهم لم يحصل إلا على ربع ليسانس - أي شهادة واحدة من الشهادات الأربع التي تؤلف الليسانس، مثل محمد مندور شهادة في اللغة اليونانية وعلي حافظ شهادة في اللغة اللاتينية! وهكذا كانت البعثات الأولى التي أرسلتها كلية الآداب الى فرنسا مخفقة كل الاخفاق. ما السبب في ذلك؟ ليست اللغة الفرنسية هي السبب، فقد كان المتخرجون في قسم الفلسفة يتلقون معظم دروسهم بالفرنسية، وبعضهم - مثل نجيب بلدي ويوسف مراد - تعدّ اللغة الفرنسية هي لغته الأولى. إنما كان السبب هو قلة الذكاء المقرونة بالكسل وعدم الرغبة في العلم والتحصيل. وتقع مسؤولية ايفادهم على عاتق من لم يحسنوا اختيار الموفدين في البعثات. ومع الأسف البالغ ان سوء الاختيار سيكون هو الطابع العام لكل من سيوفدون بعد ذلك في بعثات الى الخارج، على الأقل في قسم الفلسفة بخاصة، وكلية الآداب بعامة. وحتى الذين سيحصلون على الدكتوراه لن يجدوا ناشراً ينشر لهم رسائلهم، لأن هذه الرسائل قليلة القيمة. وبعض الذين ذكرناهم بدأوا بعد عودتهم في تحضير رسائل دكتوراه وحصلوا عليها، مثل محمد مندور وعثمان أمين وعبدالعزيز عزت، وبعضهم لم يحصلوا على دكتوراه أبداً مثل محمود الخضيري والشحات أيوب، والبعض الثالث عاد الى فرنسا وحصل على الدكتوراه في سنة 1945 نجيب بلدي وفي سنة 1948 عبدالهادي شعيره، أي بعد 16 و19 سنة من تخرجهم! وقد سافر بعد هذه الطبقة، طبقة ثانية لم يحصلوا على الليسانس من فرنسا، وانما حصلوا على الدكتوراه بعد عشر سنوات محمد ثابت الفندي، أو لم يحصلوا حتى على ما يعادل الدكتوراه، بل حصلوا على الشهادة الجامعية الأولى، وتسمى D.Phil وهي تعادل الليسانس مثل محمد عبدالهادي أبو ريدة. وأولئك الذين عادوا دون دكتوراه وهي حالهم جميعاً ما عدا يوسف مراد عينوا معيدين في الدرجة السادسة. فلهذا لم يكن يشاهد عليهم الا المرارة والسخط والإحباط. وبدلاً من ان يلوموا أنفسهم على ما فرطوا في جنب العلم، كانوا موغري الصدور على الآخرين ممن بقوا في مصر واجتهدوا في تحصيل الدرجات العلمية العالية. لهذا كان جو القائمين بالتدريس في كلية الآداب جواً مسموماً خانقاً تكثر فيه الحزازات والوشايات والمهاترات والمؤامرات. لهذا رأيت ان الأمثل هو ان أسلك طريقي غير عابئ بأحد، متخذاً من الترفع، بل الإزدراء، جهاز دفاع فعالاً في هذا المحيط الوبيل، وجعلت قاعدة سلوكي في الحياة هي: امتلئ "ثقة بنفسك، وازداء" للحاقدين. كان الجو في كلية الآداب بين أعضاء هيئة التدريس فاسداً للغاية، وخير وصف له هو عبارة طه حسين: "لا يعملون، ويؤذيهم ان يعمل الناس". لم يكن سلاحهم في التنافس العلم والانتاج العلمي، بل الدس والوقيعة والوشاية، والتزلف الى ذوي النفوذ داخل الجامعة وخارجها، فتحولت هيئة التدريس الى عش للافاعي، ينهش بعضها بعضاً، ويؤرث الخصومة بينهم عمداء لم يصلوا الى هذا المنصب بالعلم أو الكفاية الادارية الجامعية، بل بالصلات مع من في الحكم مثل أحمد أمين أو العلاقات الحزبية الدنيئة حسن ابراهيم حسن، أو الدجل الديني والسياسي عبدالوهاب عزام، أو الدسائس ... زكي محمد حسن. وزاد من حدة الخصومة بين اعضاء هيئة التدريس قلة الدرجات المالية المعروضة وكونها مشاعاً بين أعضاء هيئة التدريس في جميع الأقسام على السواء، فكان يحدث احياناً ان يتنافس عشرون عضواً من مختلف الأقسام على درجتين لوظيفة استاذ مساعد في كل الأقسام. وهنا يكون الفصل في أيدي من لا ضمير لهم ولا ذمة ممن يتملقون العميد الذي يتملق بدوره من هو أعلى نفوذاً. فكان لا ينال الدرجات الشاغرة الا من هم أخس تملقاً وأدنى درجة في العلم وأشد عجزاً عن الانتاج. ووصل الأمر بعض هؤلاء العملاء حداً جعله يهدر الشروط القانونية للتعيين في وظائف استاذ مساعد وأستاذ، وهو ما حدث ضدي لأحد أساطين التملق والنفاق، فاضطررت الى رفع قضية في مجلس الدولة، فأصدر حكماً لصالحي في حزيران يونيو سنة 1950 بأن حكم بإلغاء ترقية ذلك المدرس الى استاذ مساعد. كيف الخلاص من هذا المحيط المليء بالشرور والأشرار؟ لم يكن أمامي الا الابتعاد عنه، متى ما تهيأت الفرصة لذلك. وتهيأت الفرصة للمرة الأولى في تشرين الثاني نوفمبر سنة 1947 عندما جاءتني دعوة من المدرسة العليا للآداب في بيروت لتدريس الفلسفة الاسلامية فيها. وقد سبقت هذه الدعوة للتدريس دعوة في كانون الثاني يناير سنة 1947 لإلقاء ثلاث محاضرات عامة في تلك المدرسة العليا، التي كان يديرها رجل ممتاز علماً وخلقاً وعزة نفس، هو الاستاذ غبرييل بونور Gabriel Bonoure. كان بونور ناقداً أدبياً ممتازاً له مقالات عدة في النقد الأدبي، نشرت في "المجلة الفرنسية الجديدة" NRF المشهورة التي كان يشرف على تحريرها اندريه جيد وتصدر عن دار النشر المعروفة Gallimard وقد جمعت هذه المقالات في ما بعد تحت عنوان متواضع هو: "ألاعيب أطفال في الساحة Marielles sur le Parvis عند الناشر Plon. وكان مديراً للعلاقات الثقافية في السفارة الفرنسية في بيروت منذ سنة 1924، وهي ادارة لها أهمية كبيرة لكثرة عدد المدارس الفرنسية في بيروت، ومعظمها مدارس دينية، وأقواها تلك التابعة لطريقة اليسوعيين القوية النفوذ جداً في لبنان في فترة الانتداب الفرنسي. ولما كان بونور مفكراً حراً، فقد كان على خلاف مستمر مع اليسوعيين. وكان ايضاً منصفاً بين الطوائف، وهذا أوغر صدر الطائفة المسيحية ومن ورائها اليسوعيون، لأن هؤلاء كانوا يريدون ان تقتصر المعونة الفرنسية في التعليم على مدارسهم. وكانت معرفتي بالاستاذ بونور هي في بيت الاستاذ ماسينيون في تشرين الأول اكتوبر سنة 1946. وسافرت الى بيروت بناء على هذه الدعوة لإلقاء محاضرات، في الاسبوع الثاني من كانون الثاني يناير سنة 1947. وألقيت المحاضرات الثلاث - وهي التي نشرتها في نفس العام بعنوان: "الانسانية والوجودية في الفكر العربي" - في قاعة غصت بالحاضرين حتى كان ثلثهم وقوفاً، وقد زادوا على الألف. وتولى أديب وصحافي بارز هو موريس صقر تلخيص هذه المحاضرات في جريدة l'Orient، كما لخصتها بعض الصحف العربية: "بيروت"، "النهار"، "الديار"، "الحياة"، الخ. وتوالت المقالات في الصحف في تقريظ هذه المحاضرات، حتى بلغ ما جمعته من قصاصات تلك الصحف أربعاً وستين قصاصة. وفي مصر نشرت جريدة "الأهرام" أنباء هذا النجاح الهائل. وكما هو متوقع، أوغر هذا النجاح العظيم صدور البعض في كلية الآداب وعلى رأسهم عميد الكلية عبدالوهاب عزام. وما لبث ان كشف عن غضبه علناً وفي غير محل: ذلك ان أعضاء جمعية المقاصد الاسلامية برئاسة عمر الداعوق قد طلبوا مني البقاء اسبوعاً ثانياً حتى يحين موعد الاحتفال بالمولد النبوي فأكون الخطيب الرئيسي في هذا الحفل. والطائفة الاسلامية في بيروت وسائر لبنان شديدة الحرص على هذا الاحتفال بالمولد النبوي، وكان عندهم المقابل لاحتفالات عيدالميلاد عند المسيحيين في لبنان. لهذا رأيت من واجبي المشاركة في هذا الاحتفال. لكن الاجازة التي أخذتها كانت لأسبوع واحد. لهذا طلبت من عمر الداعوق ان يبرق الى عبدالوهاب عزام لمد اجازتي اسبوعاً آخر. لكن الحقد والحسد من نجاحي الهائل في بيروت أعمياه، فأبرق الى عمر الداعوق يقول: "عبدالرحمن بدوي ليس في اجازة ولا علم للكلية بسفره" - وكل هذا كذب صارخ: لأنني أبلغت مكتب العميد بسفري قبل السفر وطلبت اجازة عارضة لمدة ثلاثة ايام - هي الأيام التي تقع فيها دروسي. وكان هذا من حقي الذي لا يستطيع احد ان ينازعني فيه، ولا يحتاج الأمر الى أي موافقة من جانب العميد أو غيره. انه حق مطلق لي، استخدمته الاستخدام القانوني الصحيح، وقد لجأت الى هذا الاجراء حتى لا أكون تحت رحمة أهواء هذا العميد الحقود المتقلب الأهواء. فما كان مني إلا ان أتحدى ادعاء العميد الكاذب. فقررت البقاء اسبوعاً آخر لتلبية دعوة جمعية المقاصد الاسلامية، وليفعل هذا الرجل الحقود بعد ذلك ما يشاء. وألقيت في ذلك الاحتفال بالمولد النبوي محاضرة في "الجانب الصوفي في حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم". وحضر المحاضرة أعيان الطائفة الاسلامية في بيروت، ومنهم رئيس الوزراء رياض الصلح وابن عمه سامي الصلح وصائب سلام وجميل بيهم الخ الخ. ولما عدت الى القاهرة ذهبت في اليوم التالي الى كلية الآداب، ومعي الأربع وستون صحيفة أو قصاصة التي كتبت عن محاضراتي، حتى ألقي بها في وجه عبدالوهاب عزام، لكن الذي حدث في تلك الاثناء هو ان سكرتير العميد أخبر هذا بأن ما ورد في البرقية غير صحيح، وانني فعلاً أبلغت الكلية رسمياً بسفري الى بيروت، مع طلب اجازة عارضة لثلاثة ايام - الاحد والاثنين والثلثاء - وهي الأيام التي ألقي فيها محاضراتي. فسقط في يدي عبدالوهاب عزام، وراح يلوم نفسه اكثر لما عرف ان هذه الاجازة المطلوبة هي للمشاركة في الاحتفال بالمولد النبوي بناء على إلحاح زعماء الطائفة الاسلامية في بيروت، فكيف يصنع هذا الصنيع وهو ينادي بالإسلام والعروبة هو وابن عمه عبدالرحمن عزام؟! لقد وقع في حيص بيص، لحماقته واندفاعه الاهوج. لهذا وجدت السكرتير يلقاني بالترحاب، ويخبرني بأن العميد وافق على مد الإجازة، بل انه ندم على تلك البرقية. لكني لم أغتفر له هذا الفعل .... فما الداعي لاقحام وجهاء بيروت في الخلاف بينه وبيني؟ لو كان لديه شيء من التعقل، لكان قد اكتفى بالقول في رده: "يؤسفنا عدم تلبية طلبكم..." أو ما أشبه ذلك. لكن الحقد يعمي ويُضل .... ونظراً الى هذا النجاح العظيم الذي لقيته محاضراتي الثلاث، دعتني المدرسة العليا للآداب للتدريس فيها ابتداء من العام الجامعي 1947 - 1948. فلبيت هذه الدعوة، ووافقت كلية الآداب على انتدابي لمدة عامين للتدريس في المدرسة العليا للآداب في بيروت. وسافرت الى بيروت في تشرين الثاني نوفمبر سنة 1947 عن طريق البحر من بورسعيد، لوجود وباء الكوليرا في مصر. ونزلت في ميناء بيروت، وأقمت في المحجر الصحي اسبوعاً. وفي اليوم التالي لخروجي منه ذهبت الى المدرسة العليا للآداب، وكانت قد انتقلت من حي الأشرفية الى جوار السفارة الفرنسية في شارع كليمنصو، وعلى مقربة من الجامعة الأميركية. وبعد أن اتفقت مع الأستاذ بونور - مدير هذه المدرسة العليا - على خطة التدريس، وعلى البدء ابتداء من 15 كانون الأول ديسمبر، نزلت في بنسيون في حي الزيتونة يقع في الطابق الرابع من بناية مجاورة لمقبرة قديمة مهجورة، كنا نسميها "المقبرة البحرية" استعارة لاسم قصيدة بول فاليري Valژry المشهورة. واعجبني في هذا المكان قربه من البحر، ووقوعه في حي عامر زاهر، تكثر فيه المطاعم وعلب الليل، أي المراقص والملاهي، والفنادق الفخمة: النورماندي، وسان جورج آنذاك، وفي أبهائهما كان يجلس في المساء السياسيون والأدباء والأعيان. وكانت صاحبة البنسيون فنانة ارتيست سابقة، تبلغ الخمسين من عمرها، وتدعى "ارما" وهي مجرية الأصل، وبعد تركها لمهنتها في الملاهي تزوجت لبنانياً شاباً - ربما من أجل الحصول على الجنسية اللبنانية، فقط، حتى تستطيع الاستمرار في الاقامة في لبنان - وكانت تقيم في غرفة من غرف الشقة الست، وتؤجّر الخمس الباقية. ولعطفها على بنات مهنتها، كانت تؤجّر واحدة او اثنتين من هذه الغرف الخمس لارتيستات. وكانت هؤلاء الارتيستات يعدن من عملهن في الساعة الواحدة وربما الثالثة صباحاً، ويستغرقن في النوم حتى المساء .... ومن الحوادث الطريفة في هذا البنسيون انه كان يسكن فيه فترة من الوقت أحد المهندسين السويسريين العاملين في بيروت. وكانت غرفته مجاورة لغرفة تسكنها ارتيست، ولا يفصل بينهما إلا باب مسدود باستمرار وتغطية ستارة في كلا الجانبين. وذات يوم رأت صاحبة البنسيون ان تنظف الستارتين، فلاحظت ان في الباب ثقباً واسعاً مستديراً قطره حوالى خمس سنتيمترات. فدهشت كل الدهشة ولاحظت أيضاً أن هذا الثقب له نظير في الستارة التي تغطي الباب من ناحية الغرفة المجاورة. ولما عاد المهندس من عمله سألته عمّن عمل هذا الثقب. فتلعثم الرجل، وبعد إلحاح في السؤال اعترف بأنه هو الذي عمل الثقب في الباب وفي الستارة حتى يشاهد من خلاله جارته الارتيست لدى عودتها في منتصف الليل أو بعده وهي تخلع ملابسها، فيستمتع مجاناً بهذا "الاستربتيز" Striptease بدلاً من تضييع أمواله في الكباريهات، خصوصاً أنه هنا سيرى ما لا يكفله الاستربتيز من مواضع المتعة! فقررت صاحبة البنسيون طرده وإلزامه التعويض الوافي عن ثقب الباب، والا أبلغت الشرطة. فامتثل هذا المهندس المراهق لما فرضته، وغادر البنسيون. وممن أقاموا في هذا البنسيون من المشهورين الوافدين على لبنان: المستشرق العظيم لويس ماسنيون إبان انعقاد مؤتمر اليونيسكو في بيروت في كانون الأول ديسمبر سنة 1948، وأساتذة الأدب الفرنسي الموفدون من جامعة ليون للتدريس في المدرسة العليا للآداب. وقد لاحظت على ماسينيون أثناء اقامته عشرة أيام في هذا البنسيون انه كان يغادر البنسيون في الخامسة والنصف صباحاً فلما سألته عن السبب قال انه يذهب الى كنيسة الكبوشية الواقعة في باب ادريس، ليشترك في قدّاس الساعة السادسة! وقد فعل هذا كل صباح أثناء هذه الأيام العشرة، على الرغم من البرودة الشديدة. وقد أدى به هذا الى الاصابة بالتهاب رئوي شديد، حمله معه الى عمّان، مما اضطره الى الاقامة في المستشفى أسبوعين في عمّان! فعجبت كل العجب من صدور هذا السلوك من رجل عظيم في مكانة ماسينيون العلمية. كيف يحرص هذا العقل المليء بالعلم على أداء هذا الطقس الشكلي في أصعب الظروف! ولله في خلقه شؤون! كما لاحظت أيضاً أنه كان يحرص على أن يضع الى جوار المخدة على السرير لوحة من الورق كُتبت عليها هذه الآية القرآنية "لن يجيرني من الله أحد!" ثم عبارة - لا أذكرها الآن - قالها الحلاج. وقد غادر ماسينيون البنسيون ذات صباح متجهاً الى عمان دون أن يدفع أجر الاقامة! فلما سألتني صاحبة البنسيون ماذا تفعل، قلت لها اتصلي بالسفارة الفرنسية، فستدفع لك الأجر. وفعلاً اتصلت بالسفارة الفرنسية، فتولت هذه دفع الحساب. وكان ماسينيون يحضر الى لبنان في كل عام بعد حضوره جلسات مؤتمر مجمع اللغة العربية في القاهرة. وفي بيروت كان يقيم في العادة ضيفاً على الأستاذ بونور في منزله الواسع الذي كان يقع في شارع عبدالنور في حي المصيطبة. وكان ماسينيون يلقي محاضرة في كل عام في المدرسة العليا للآداب. وكانت محاضرته في شباط فبراير سنة 1948 عن "امكانيات اللغة العربية". وأظنها منشورة في "مؤلفاته الصغرى" Opera Minora. وكانت المدرسة العليا للآداب فرعاً من جامعة ليون: تعد ثلاث شهادات من الشهادات الأربع التي تتألف منها الليسانس، وعلى الطالب بعد اجتياز هذه الشهادات الثلاث أن يعد ويجتاز الشهادة الرابعة في جامعة ليون في مدينة ليون. ولم يكن من بين هذه الشهادات التي تعد لها المدرسة شهادة في الفلسفة الاسلامية. فوضعت مشروعاً لذلك، وارسل الى وزارة التربية الفرنسية في باريس فأقرته وصدر قرار وزاري بانشاء هذه الشهادة في جامعة ليون، وبالتالي في فرعها ببيروت وهو مدرسة الآداب العليا: وكانت هذه مدرسة عليا Ecole Supژrieure ولم تكن كلية Facultژ بسبب انها لا تمنح الليسانس الكاملة، بل ثلاث شهادات من الشهادات الأربع المطلوبة للحصول على الليسانس. وهكذا كان الوضع أيضاً في المدرسة العليا للآداب في الجزائر. والتي اشتهرت بعدد من المستشرقين البارزين منهم: ليونغجوتيه Lژon Gautier ولوسياني Luciani. و"شهادة الفلسفة الاسلامية" التي أنشأناها كانت تشتمل على تاريخ الفلسفة الاسلامية من القرن الثالث الهجري الى القرن السادس، ودراسة شخصيات رئيسية في التصوف الاسلامي وفي علم الكلام. وكان عدد الطلاب في العام الأول خمسة عشر طالباً وطالبة، وفي العام التالي قرابة ذلك العدد. لكن لم يستطع أي واحد منهم التقدم للامتحان في نهاية العامين، نظراً لصعوبة المادة وكون الطلاب غير متفرغين، بل كانوا موظفين. لكن، منهم من صار سفيراً في وزارة الخارجية حسن حشاش ومن برز في المحاماة أو التدريس. وكنت ألقي أربعة دروس في الاسبوع. لكن، كانت هناك محاضرات عامة، ألقيت منها ثلاثاً في العام الأول بعنوانات: "شهيدة العشق الالهي: رابعة العدوية" و"شطحات الصوفية" و"هل يمكن قيام أخلاق وجودية" - والمحاضرتان الأوليان كانتا الأساس لكتابين أصدرتهما بنفس العنوان، أما المحاضرة الثالثة فطبعت على حدة في مجلة كلية الآداب عين شمس وعنوانها: "حوليات كلية الآداب"، ثم حررتها في رسالة صغيرة أحدثت آنذاك ضجة لا مبرر لها في الصحف وفي الجهات الرسمية. وفي العام الثاني ألقيت محاضرة عن "كاتب وجودي في القرن الرابع الهجري: أبو حيّان التوحيدي"، وقد نشرتها ضمن تصديري لتحقيقي لكتاب "الاشارات الالهية" الجزء الأول لأبي حيّان التوحيدي القاهرة سنة 1950. كما ألقيت محاضرة في المولد النبوي ضمن الاحتفال الذي جرت عادة الجامعة الأميركية في بيروت على اقامته كل عام، وكان عنوانها: "تصوف النبي محمد" صلى الله عليه وسلم. ونظراً لما عقدته فيها من مقارنات بين حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وحياة عيسى المسيح، فقد أثارت هياجاً وكلاماً كثيراً في الأوساط المسيحية في بيروت. ونظراً للنجاح الكبير الذي كانت تلقاه محاضراتي العامة، ونظراً الى الخصومة الشديدة بين اليسوعيين في بيروت وبين الأستاذ بونور، ونظراً الى ما شعر به المسلمون من سند علمي قوي في شخصيتي - فقد عمل اليسوعيون على إبعادي من لبنان. فأرسلوا الى باريس في صيف سنة 1948 صنيعتهم ... فؤاد أفرام البستاني ليتصل بالمسؤولين في الخارجية الفرنسية عن العلاقات الثقافية. وفعلاً ذهب هذا الافرام الى مسيو ماكس، المدير المساعد لإدارة العلاقات الثقافية في وزارة الخارجية وطالب بعدم تجديد اعادتي لمدرسة الآداب العليا. وبما عهد فيه من تعصب أعمى ... راح يزعم لمسيو ماكس هذا وهو يهودي خطورتي على النفوذ الثقافي الفرنسي والأوروبي وعلى الثقافة المسيحية في لبنان. وقد أخبرني بذلك الأستاذ بونور، لأنه استدعي الى وزارة الخارجية، فسأله مسيو ماكس عن صحة ادعاءات فؤاد أفرام، فشرح له بونور جلية الأمر، وضاعت دسائس اليسوعيين وعميلهم فؤاد افرام سدى وبغير طائل. وكان أشد ما أوغر صدر اليسوعيين آنذاك - وعلى رأسهم الأب موترد Mouterde رئيس ما يسمى "معهد الآداب الشرقية" وهو مسخ مزيف من "معهد" ومن "آداب شرقية". فمستواه العلمي في غاية الهبوط، ومستوى القائمين بالتدريس فيه منحط للغاية، إذ ليس بينهم أي واحد يحمل مؤهلات للتدريس في معهد عال أو كلية جامعية. واعجب العجب - لكن لبنان كله عجائب! - انه صار بعد ذلك يمنح درجة الدكتوراه! إي والله درجة الدكتوراه! وهي لا تساوي ربع ليسانس - أقول ان أشد ما أوغر هؤلاء اليسوعيين ضدي هو أن القائمين بالتدريس فيه من اليسوعيين كانوا شديدي الحملة على الاسلام بواسطة افتراءات كاذبة مفضوحة ينسبونها الى بعض كبار المستشرقين حتى تبدو مسنودة بحجة علمية. من ذلك أن بعض طلاب ذلك المعهد جاؤوني وسألوني: هل صحيح ان معاوية بن أبي سفيان، الخليفة الأموي والصحابي الجليل، قد اعتنق المسيحية؟" فقلت لهم: من قال لكم هذا الكلام العجيب؟ فقالوا: انه الأب لاتور Lator قال لنا ذلك في محاضرة الأمس في "معهد الآداب الشرقية" وزعم ان ذلك ورد في كتاب "الدولة الاسلامية وسقوطها" تأليف يوليوس فلهوزن Julius Wellhausen. وأنا قد قرأت هذا الكتاب قبل ذلك، فقلت لهم: هذا كذب على فلهوزن، فأنا أعرف كتابه هذا جيداً، ولو كان فيه خبر كهذا لكان قد لفت نظري ونظر سائر من قرأوه. وسأذهب غداً للقاء الأب لاتور Lator لكي يبيِّن لي من أين استقى هذا الكلام. وفعلاً ذهبت إليه في اليوم التالي في الصباح، وأخبرته بما نُقِل إليّ عنه. فجاء بالكتاب وقال هذا الكلام ورد ها هنا - وأشار الى الصفحة. فقرأتها وإذ بها خالية من هذا تماماً، وكل ما ورد فيها هو أنه كان معاوية يريد أن يتشبه بالنظام الملكي البيزنطي في الحكم، لكنه "لو كان قد فعل ذلك لكان عليه أن يعتنق المسيحية". فالعبارة في صيغة الشرط الماضي، أي الذي لم يقع مطلقاً ولو كان قد وقع لكان الأمر قد أدى الى كذا. فقرأت عبارة فلهوزن في النص الألماني وترجمتها له بالفرنسية وشرحت معناها وهو تماماً عكس ما يفهم وما قاله للطلاب. فتلعثم وبلح وجنح وغصَّ بريقه وقال: "معذرة، فإني لا أحسن الألمانية، وقد قرأت العبارة بسرعة، ولم أدرك أنها في صيغة الشرط الماضي". فقلت له: "هذا الاعتذار لي لا يكفي، لأن الأمر يتعلق بهؤلاء الطلاب الذين أضللتهم بجهلك باللغة الألمانية فيما تزعم. وعليك أن تقرّ بذلك وتصحح الأمر لهؤلاء الطلاب في المحاضرة القادمة، وسأحضر أنا هذه المحاضرة لأكون شاهداً على إقرارك بخطئك هذا". وفعلاً حضرت محاضرته التالية، فبدأها بتقديم اعتذار عن سوء فهمه للنص وبشكري أنا على تنبيهي له على ذلك. وأمثال هذه الحادثة كثير جداً. فتحت ستار الشخصيات العلمية الكبيرة من المستشرقين كان هؤلاء المدرسون اليسوعيون لا يتورعون عن اختراع أبشع الأكاذيب والافتراءات ضد الاسلام. ولم يكن الطلاب المساكين، ولا أحد من المشتغلين بالعلم في بيروت، قادراً على كشف هذه الأكاذيب والافتراءات. عبدالرحمن بدوي مفكر مصري - أصدر الى الآن 120 كتاباً بالعربية والفرنسية في شؤون الفكر والأدب. والنص من كتاب له يصدر هذا الشهر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت تحت عنوان "سيرة حياتي"