تزدهر منذ سنوات، في العالم العربي، ظاهرة الاحتكام الى الأبراج والكواكب في تفسير ظواهر سياسية واجتماعية واقتصادية وشخصية... والى توقعاتها في شأن المستقبل. تزداد هيستيريا اللجوء الى الظاهرة في مفاصل زمنية محددة على غرار حلول سنة جديدة أو أمام أحداث سياسية قد تتخذ طابعاً مفصلياً، تساهم وسائل الاعلام، خصوصاً المرئية منها في تصعيد هذه الفورة عبر استضافتها"المنجمين"يصولون طولاً وعرضاً في قراءة المستقبل وطرح تنبؤات عن الآتي القريب والبعيد. تخترق أقوالهم عقول المشاهدين والمستمعين فيرتب البعض مسلكاً محدداً مبنياً على هذه"التنبؤات". ان ما جعل الظاهرة تتسم بالعالمية ناجم عن اعتماد عدد من رؤساء الدول الغربية على أقوال هؤلاء المنجمين في اتخاذ قرارات قد تكون مصيرية، كما تعتمد بعض الشركات العالمية على قارئي الفلك في تحديد التوجهات العملية للشركة والقرارات التي يتوجب اتخاذها. تتخذ الظاهرة ابعاداً لبنانية وعربية تتصل بحجم الازمات التي يعيشها العالم العربي وانسداد الآفاق أمام الحلول المستقبلية، معطوفة على تراجع في مستوى الثقافة العقلانية والعلمية. ليس أدل على انتشار الظاهرة من الإشارة الى ان الكتب المختصة بقراءة الأبراج والفلك كانت ولا تزال تجتاح معارض الكتب في لبنان والعالم العربي وتسجل أعلى الأرقام في المبيعات. تشير تحقيقات صحافية الى ان قسماً واسعاً من قارئي الصحف اليومية يحرصون على قراءة ابراجهم يومياً وقبل الشروع في الاطلاع على الأخبار الواردة في الصحيفة. ليس جديداً لجوء الشعوب الى الفلك والكواكب، فالظاهرة تضرب عميقاً في التاريخ البشري القديم منه والحديث. شكل الرجم بالغيب مسلكاً لجأت اليه الشعوب وترافق مع سيطرة الخرافة والأساطير على العقول. تتصل الظاهرة بعلاقة الانسان مع الطبيعة وحجم المجهولات التي كان يعجز عن تفسيرها العقلاني أو العلمي. تتراجع الظاهرة بمقدار ما يتقدم العلم ويقدم تفسيراً للمجهولات واكتشافاً لوسائل تساعد الانسان على مواجهة المعضلات الصحية والبيئية والاقتصادية وغيرها. في المقابل، كان اللجوء الى التنجيم مرتبطاً بأزمات صعبة تعيشها شعوب بعد اصابتها بهزائم عسكرية وانتكاسات سياسية واجتماعية واقتصادية تولد بطبيعتها احباطاً ويأساً يفقد الانسان بموجبها القدرة على التفسير المنطقي والصحي، فيتجه الى الماورائيات عله يجد لديها هذا التفسير، وهو أمر يعيد الاعتبار من جديد الى موقع الخرافة والاسطورة في تفسير الأحداث. قد يكون من غرائب الأمور ان ظاهرة التنجيم عادت تحتل موقعها في مجتمعات متقدمة وحديثة وتجد لها أنصاراً في أوساط اجتماعية واسعة. يفسر بعض علماء الاجتماع هذه الظاهرة بكونها تعبيراً عن مأزق انساني يرافق تطور الحضارة العالمية ويمثل واحداً من أعراضها، خصوصاً في المجتمعات الصناعية التي تحول الانسان الى ما يشبه الآلة. لا يعني هذا أن التكهنات أو التنبؤات لا موقع لها في المجتمع، فالتقدم العلمي يساعد على استشراف الكثير من القضايا واحتمالات تطورها في مجالات متعددة. يحتل علم الفلك موقعه كسائر العلوم بما هو دراسة لحركة الكواكب ومسارها وما قد يترتب على هذه الحركة من نتائج. لكن الاشكالية تبرز عند استخدام"المنجمين"للحركة الفيزيائية للكواكب فيسقطونها على البشر ويرتبون على ذلك توقعاتهم على حركة هذا الكوكب أو ذاك على مواليد هذا البرج، بما فيها توقعات مصيرية تطال هذه الفئة أو تلك. يقدم العالم العربي أسباباً اضافية ومشجعة لازدهار ظاهرة التنجيم في ارجائه. فالمشكلات المستعصية التي تجد الشعوب العربية نفسها محشورة في قالبها الحديدي والغموض الذي يلفها تفسيراً ومصيراً، تمثل كلها أرضاً تحتاج حقاً الى"منجم"يشرحها ويقدم التبريرات حولها. يعجز المواطن العربي عن فهم وتفسير التطورات السياسية الجارية على أرضه، ويحار في وصفها ومعرفة منطقها. لا يجد تفسيراً عن النكوص في تحقيق الوعود التي قدمت له على امتداد عقود في ميادين السياسات القومية والاقتصادية والاجتماعية. يحتاج فعلاً الى منجمين لشرح السياسة العربية تجاه الصراع العربي - الاسرائيلي ومواجهة المخططات الاستعمارية، كما يحتاج الى"تبصير"حول خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية وأسباب فشلها. يعجز عن فهم العلاقة السائدة بين الدول العربية وعدم توحدها حول الحد الأدنى من مصالحها. باختصار كل ما يدور في ميدان السياسات العربية يحتاج الى منجم يشرحه، فقد بات العقل والمنطق والعلم عاجزاً عن قراءة الأحداث وتقديم الشرح المقنع في شأنها. يمكن وضع الظاهرة في سياق التراجع الحضاري العربي العام وانهيار مشاريع التحديث العربية وعلى الأخص منها تراجع الفكر العقلاني لحساب الغيبيات وسيادة التفسيرات الخرافية للأحداث. لا يسع المواطن العربي ايضاً الا ان يشتبه بالتشجيع الرسمي العربي لصعود هذه الظاهرة في اطار تشجيع الفكر الغيبي وغلبة التلقين على حساب الفكر النقدي والتحليل والأرقام، وهو أمر يساعد هذه السياسات على ابعاد المحاسبة عن الاخفاق والعجز ويكرّس بالتالي هيمنتها على"العقول العربية". لعل احدى اشكاليات العالم المعاصر تكمن في استمرار هذا التناقض بل وتصاعده بين التقدم العلمي الذي ذهب بعيداً في اكتشاف المجهولات وتقديم الحقائق حول العالم، وبين صعود الغيبيات والماورائية في قسمها المتصل بالخرافة والأساطير بديلاً للتفسير العلمي للواقع. يشكل تزاوج الظاهرتين وصراعهما احدى المعضلات الحضارية الحديثة وتعبيراً عن المأزق الانساني الذي يولده تطورها. * كاتب لبناني