تحدثتُ في مقال سابق عن التنجيم وانتشاره في العالم وازدهار صناعته، وكيف أنه منتشر حتى بين الطبقات المثقفة للأسف الشديد!!. بل والغريب استثمار العلم والتكنولوجيا وتوظيفهما من أجل الخرافة! وذلك من خلال مواقع الانترنت وشاشات التلفاز. يذكر المفكر هشام شرابي مثالًا طريفاً عن خريج في الجامعة الأمريكية في بيروت، سُرقت سيارته فلجأ إلى الإعلان في الصحف عن فقدانها ومكافأة مادية لمن يجدها، وفي نفس الوقت لجأ إلى عرافة لتكشف له أين اختفت!! وفي كتاب رائع بعنوان"دراسات في العقلية العربية: الخرافة"يذكر المؤلفان أن الذهنية الخرافية والتي تؤمن بالأساطير والشعوذة والمغلفة في نفس الوقت بقشور رقيقة من التعليم الابتدائي أو الثانوي أو الجامعي هي الأكثر خطورة لأنها تشكل جوهر العقلية الاجتماعية التي يرتبط بها التغيير الحقيقي المنشود والذي نتمناه في المجتمع!! ومن هنا يظهر ربما مصدر وعلة العجز العربي!! ولعل الناس سابقا يقصدون المنجمين لعجزهم عن الفهم! فهم الظواهر الطبيعية والكون .. الخ، بينما الآن يلجأون إليه لعجزهم الشخصي وعجزهم عن التحكم في القوى الاجتماعية والاقتصادية التي تحاصرهم وتسيطر عليهم. فعندما ييأس الإنسان من أن يجد حلاً أو أملاً من خلال الدين أو العلم- أو هكذا يعتقد- ويترافق هذا مع ضعف في إيمانه ونقص في منطقيته، فسيجد في التنجيم حلا لمشاكله وألمه أو بالأصح مخدرا ومسكنا زائفاً!! فلقد أظهرت الدراسات أن الأفراد يلجأون للمنجمين في فترات الضغوط الاقتصادية والمشاكل النفسية والاجتماعية. ولا ننسى أن هناك أناسا كثيرين ممن يفضلون التفسيرات التنبؤية لما يجري في حياتهم في الحاضر والمستقبل!! ولا يجدون في التفسيرات والتجارب العلمية المقننة والقائمة على التجارب ما يجذب اهتمامهم!!!فينجذبون إلى المنجمين لأنهم يتكلمون معهم بتحديد أكثر وبشكل شخصي!. إذن يبدو لنا أن التعلق بالتنجيم والشعوذة هو نتاج أزمات فكرية ونفسية تعاني منها المجتمعات، ولن يكفي أن نوعّي ونبين مدى زيفها أو حرمتها الدينية ما لم تتكاتف جميع مؤسسات المجتمع في توفير أفضل مستوى اقتصادي واجتماعي وصحي للأفراد، وأيضا معاقبة أو الحد من نشاطات هؤلاء المشعوذين والتضييق عليهم..وإلا ستبقى الحال على ما هي عليه ولن نتفاجأ في المستقبل باستمرار هذه الظواهر، بل ولا نتعجب أنها قد تطوّر نفسها - وفي مفارقة ساخرة - بما يتلاءم مع تطور العلم!!.