تتعامل أوساط قومية وبعثية ودينية عراقية عدة مع الحقوق الكردية في العراق من منطلقات خاطئة مفادها أن تلك الحقوق التي دخلت الى نصوص الدستور العراقي الدائم لا تتطلب تركيزاً خاصاً وتطبيقات عاجلة. فالحالة الكردية العراقية، في نظر تلك الأوساط، تفتقد الى هوامش سياسية قوية تكفل لها ممارسة ضغوط فعلية على بغداد في حال تلكأت الحكومة العراقية عن تلبية حقوقها الأساسية مثل الفيديرالية وإعادة ضم كركوك الى الخارطة الإدارية لكردستان العراق. في هذا الإطار، ترى الأوساط العراقية أن السلاح الذي يستخدمه الأكراد لضمان إقناع بغداد بالتطبيق العاجل لحقوقهم هو تلويحهم بالانفصال عن العراق في حال تم تجاهل تلك الحقوق أو تأجلت تطبيقاتها. وهذا، في اعتقاد الأوساط نفسها، لا يتعدى كونه سلاحاً تهديدياً أجوف لا يهدف الأكراد من ورائه سوى إلى ضمان أكبر حصة ممكنة من الحقوق. الواقع، أن اعتقادات سياسية كهذه هي السبب في أن بعض الساسة والمحللين السياسيين العراقيين أصبحوا يرددون في الفترة الأخيرة، في استخفاف ظاهر بخيار الانفصال الكردي عن العراق، أن الأكراد أحرار في إعلان دولتهم المستقلة إذا رأوا أن العيش في إطار عراق غير فيديرالي لا يلائم أوضاعهم وطموحاتهم. مرد هذه الأقوال، في الحقيقة، يعود الى اعتقاد خاطئ بين الأوساط القومية والبعثية والدينية العراقية مفاده أن الأكراد عاجزون عن الخروج من تحت مظلة الدولة العراقية، أياً كان موقعهم في ظلها، لأسباب عدة أهمها: الأول، مخاوفهم من ردود فعل تركية وايرانية وسورية عنيفة ومدمرة في حال أعلنوا خروجهم عن إطار الدولة العراقية الموحدة وإنشاء دولتهم الذاتية المستقلة. والثاني، معارضة الولاياتالمتحدة الأميركية لأي عملية تهدف الى تفتيت وحدة الدولة العراقية، خصوصاً التفتيت الذي ينتهي الى قيام دولة مستقلة في كردستان العراق قد تنتج عنها تأثيرات سلبية بالغة على حليفتها الاستراتيجية تركيا. والثالث، الخلافات الكردية الداخلية التي يرى بعض الساسة العراقيين أنها تنهش في اللحم الكردي وتعيق وحدة الالتفاف على شعار الاستقلال السياسي والاقتصادي والقانوني عن العراق. قد يصح القول إن الأكراد غير راغبين في المرحلة الراهنة في الابتعاد عن الدولة العراقية. ويصح أيضاً أن قوانين الحرب الباردة في العالم ظلت تمنعهم عن أي تطلع مشروع نحو هدف إقامة الدولة الذاتية طوال العقود التي سبقت انهيار نظام القطبية الثنائية نهاية الثمانينات من القرن الماضي. لكن الخطأ في التفسيرات التي تشدد عليها الأوساط العراقية حول عجز الأكراد عن اتخاذ قرار الانفصال هو أن التفسيرات تنطلق من عقل سياسي قديم لم يعد يمتلك مقومات استيعاب المتغيرات الحاصلة في العالم والمنطقة. فالأميركيون يعارضون توجه الأكراد نحو اعلان الاستقلال عن العراق، لأنهم لا يريدون تحمل وزر أي انقسام يمكن أن يتعرض له العراق في ظل الاحتلال. لكن الأكيد أن الأميركيين لن يحاولوا ثني حلفائهم الأكراد عبر استخدام القوة العسكرية عن أي حل يختارونه لقضيتهم بما فيه الحل الانفصالي. الى هذا، يصعب على الأميركيين اللجوء الى القوة وممارسة الضغوط على الأكراد في حال طرح الأخيرون خيارهم الانفصالي عبر قنوات قانونية منتخبة في مقدمها البرلمان الكردي أو الاستفتاء العام. في هذه الحالة، أقصى ما يمكن للأميركيين أن يفعلوه هو بذل جهود سياسية وديبلوماسية لإقناع الأكراد بالعدول عن خيار الانفصال. وفي حال أصروا على حقهم في تقرير المصير فإن الأممالمتحدة ستضطر الى اجراء استفتاء بإشراف دولي بينهم كما حدث مع تيمور الشرقية. عدا هذه الاحتمالات، يخطئ من يعتقد أن الأميركيين مستعدون لمنع الأكراد بالحديد والنار من التمتع بحقهم في تكوين دولة مستقلة. الى هذا، لا يمكن للأميركيين أن يسمحوا لدول أخرى بالانقضاض العسكري على تجربة الاستقلال الكردي خصوصاً أنها تجربة أثبتت نجاحها في تأمين الاستقرار ومحاربة الإرهاب وإشاعة الديموقراطية، إضافة الى تسريع خطوات التنمية الاقتصادية والإدارية والسياسية. في هذا المنحى، تصح الإشارة الى حقيقة أساسية مفادها أن الأكراد الذين عرفوا بكونهم مقاتلين جبليين أشداء لم يعودوا ينظرون الى العالم عبر فوهات البنادق، بل تحولوا خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية الى سياسيين من طراز ممتاز، يدركون أن الدرع الاساسي لحماية أي كيان يؤسسونه هو في إقامة نظام علماني حيادي يسهم بشكل فاعل في تعزيز الاستقرار في المنطقة، بما فيها في الدول المجاورة. وهذا في حال حصوله لن يضمن موقفاً أميركياً مرناً حيال الكيان الكردي، إنما سيضمن أيضاً أشكالاً من الدعم الأوروبي والدولي. أما في ما يتعلق بمواقف الدول المعنية بالدولة الكردية الافتراضية، خصوصاً تركيا وايران وسورية، فالمعروف أن هذه الدول تعيش مشكلات خارجية وداخلية: اقتصادية وسياسية عويصة. كما أن الدولتين الأخيرتين مهددتان بالتعرض الى فرض عقوبات دولية عليهما في ظل التوترات المتزايدة بينهما وبين الولاياتالمتحدة والمجتمع الدولي. كل هذا، يمكن أن يقيد أيادي الدول المجاورة من الإقدام على مغامرات عسكرية في خصوص كردستان العراق. من دون شك، لا يعني هذا أن الدول المجاورة ستقف مكتوفة الأيدي. لكنه يعني أن هذه الدول قد لا تستطيع الذهاب في معاداة الكيان الكردي أكثر من فرض حصار اقتصادي عليه. بيد أن العقوبات في حد ذاتها قد لا تأتي قوية متماسكة لأن العلاقات بين الدول المجاورة، كما هو معروف، علاقات منخورة، متشابكة، معقدة، بل عدائية في كثير من الحالات. ثم أن الأكراد في حال اختاروا حل الدولة المستقلة فالأرجح أنهم لن يختاروه لمعاداة تركيا وايران وسورية، إنما لبناء علاقات طبيعية مع هذه الدول تقوم على مبدأ عدم التدخل في شؤونها. والأهم أن الأكراد، قد يلجأون لتقديم ضريبة الاستقلال، المتمثلة في منع نشاط الأحزاب الكردية حزب العمال الكردستاني مثلاً المعادية للدول المجاورة على أراضيها. الى هذا كله، تعيش تركيا حالة مخاض ديموقراطي عميق منذ انهيار نظام القطبية الثنائية في مطلع التسعينات من القرن الماضي. الواقع أن هذا المخاض كان له الدور الأساس في تجنب أنقرة اللجوء الى خيار الاجتياحات العسكرية ضد كردستان العراق خلال السنوات الأربع الماضية. كما أن المخاض الديموقراطي نفسه، أوصل حزباً دينياً الى الحكم في تركيا من دون أن يفضي هذا التطور الى حدوث أي انقلاب عسكري. ثم أن تركيا نفسها شرعت في السماح بحقوق ثقافية لأكرادها. بل ان تجمعات سياسية كردية عدة أخذت تنشغل ببناء منظمات سياسية سلمية بغية الدخول مع أنقرة في محادثات سياسية قد تفضي الى حل القضية الكردية في إطار القوانين التركية. علاوة على هذا، نجحت أنقرة خلال السنوات الثلاث الماضية في بناء علاقات اقتصادية وتجارية مثالية مع كردستان العراق. بل ان المنطقة الكردية العراقية أصبحت تشكل حاجزاً أمنياً وجيوسياسياً قوياً بين العراق المضطرب وتركيا السائرة نحو الاستقرار والتنمية. والأهم من ذلك كله، أن الحالتين، الكردية والتركية، يجمعهما حليف استراتيجي واحد هو الولاياتالمتحدة، في الوقت الذي تعمل فيه أنقرة من دون كلل من أجل الانضمام الى الاتحاد الأوروبي. هذا، بالطبع، يعني أول ما يعنيه، تجنب الإقدام على اجتياحات ومغامرات عسكرية ضد الجوار الاقليمي. أما بالنسبة الى السبب الثالث، أي الخلافات الداخلية الكردية، فالأكيد أن الوضع الداخلي الكردي لم يكن في يوم من الأيام متيناً وقوياً وموحداً كما هو في الوقت الراهن. فالأكراد أصبحوا يمتلكون رئيساً منتخباً واحداً وبرلماناً موحداً وحكومة موحدة. ثم أن القوى والأحزاب الكردية على مختلف مشاربها تعرف أن التوجه نحو إقامة الدولة القومية المستقلة يتطلب توحيد المواقف والخطاب السياسي والبرامج الاستراتيجية، إضافة الى نبذ كل أشكال الفرقة والتشتت. لكل هذا، قد لا نغالي في شيء إذا شددنا على خطأ الطروحات التي تستهين باحتمالات توجه الأكراد نحو خيار الانفصال عن الدولة العراقية في حال تجاهلت القوى العربية والدينية في العراق حقوقهم الاساسية. الواقع أن الأكراد لا يتعاملون في إطار العراق على أساس احتمالات الانفصال. لكن عين الخطأ هو في اعتقاد بعض الأطراف العراقية أن هذا الموقف ناجم عن عجز الحالة الكردية من اللجوء الى خيار الدولة المستقلة. الأكراد ليسوا مقيدي الأيدي. بل ليست في عالم اليوم شعوب مقيدة الأيادي والإرادة والقرار. * كاتب كردي عراقي