يمضي إقليم كردستان العراق نحو الاستفتاء المرتقب في 25 أيلول (سبتمبر) المقبل بحذر شديد، على رغم أن لسان حال رئيسه مسعود بارزاني يقول «ان قرار استفتاء شعب كردستان لا رجعة عنه»، ولعل سبب هذا الحذر جملة العقبات وكثرة المخاوف من التداعيات المنتظرة، إذ إن السمة العامة للردود كانت سلبية إزاء قرار إعلان الإقليم التوجُّه إلى الاستفتاء لتحديد مصيره، فضلاً عن أن العملية السياسية الداخلية تسير على بركان من الخلافات التي قد تنفجر في أي وقت، ومن أبرز العقبات التي تواجه الاستفتاء: 1- موقف بغداد الذي كان أشبه بالرفض من خلال التحذير الشديد من التداعيات، وتحميل قيادة الإقليم مسؤولية السلبيات المنتظرة، إلى درجة أن بغداد استبقت الأحداث بإصدار لائحة من الأضرار التي ستحلق بالإقليم وبالأكراد الذين يعيشون خارجه، وصلت إلى حد وضع اليد على الممتلكات. 2- رفض دول الجوار الجغرافي، لاسيما إيرانوتركيا للاستفتاء، وقد بررت الدولتان موقفهما بالحفاظ على وحدة العراق، في حين ان السبب الأساسي هو الخوف من انتقال تداعيات الاستفتاء إلى داخلهما، على أساس انه سيغذي التطلعات القومية الكردية في البلدين، وعليه اعتبرت أنقرة وطهران الاستفتاء تهديداً مباشراً لأمنهما الداخلي. 3- الموقف الدولي الذي أخذ طابع الحذر، وفي أحسن الحالات نصح أربيل بالحوار والشراكة مع بغداد، باعتبار أن ظروف إجراء مثل هذا الاستفتاء لم تنضج بعد، وأن إجراءه في ظل هذه الظروف قد يؤدي إلى صدام مع بغداد وإلى تدخلات إقليمية. 4- العامل الداخلي الذي لا يقل أهمية عن الخارجي، إذ إن الخلافات بين القوى الكردية، وتحديداً بين الحزب الديموقراطي الكردستاني وحركة التغيير التي هي الثانية في البرلمان وصلت إلى مستوى يهدد بانفجار الوضع على رغم المحاولات التي جرت لإصلاح البين، وقد أدى الخلاف إلى تعطيل البرلمان وشلل الحكومة وبروز أزمة في رئاسة الإقليم. مع تأكيد عدم التقليل من قيمة هذه العقبات والتي قد تؤدي إلى تفجير الخلافات المتراكمة بين بغداد وأربيل بخاصة مع تحوّل التحالف بين الجيش العراقي والبيشمركة إلى صدام بعد تحرير الموصل من «داعش» في ظل تناقض الأجندة تجاه المناطق المتنازع عليها، إلا انه ينبغي القول أيضاً إن الاستفتاء بدا وكأنه استحقاق قومي كردي منتظر منذ سنوات، ومع التأكيد أيضاً على أنه ليست هناك حتى الآن رؤية محددة أو واضحة لمرحلة ما بعد الاستفتاء، إلا أن ثمة سيناريوات وخيارات تطرح للحظة التي تلي إجراء الاستفتاء، ولعل من أهم هذه الخيارات. أولاً: أن تكون لحظة ما بعد الاستفتاء استلهاماً لتجربة جنوب السودان، بما لهذه التجربة من ميزات إيجابية ومعطيات متوافرة لجهة العلاقة بين إربيل وبغداد، ففي العقود الماضية عقد أكراد العراق والحكومات المتتالية في بغداد سلسلة اتفاقيات مهمة، كانت أبرزها اتفاقية آذار (مارس) 1970 التي نصت للمرة الأولى على إقامة حكم ذاتي للأكراد، ومن قبل المادة الثالثة من دستور العراق عام 1958 الذي وضع في عهد عبد الكريم والتي نصت على شراكة الأكراد والعرب في العراق، ومن ثم استفادة الأكراد من إقامة منطقة حظر جوي فوق شمال العراق عقب حرب العراق الأولى عام 1991 والتي منها انطلقت أولى خطوات الأكراد لبناء مؤسساتهم المستقلة عن بغداد، فكانت الانتخابات البرلمانية عام 1992 وتأسيس أول برلمان كردي ومن ثم حكومة محلية، فبقية مؤسسات الإقليم من جيش وأمن واقتصاد وتعليم، وصولاً إلى الدستور الجديد الذي أقر بعراق فيديرالي، وهو دستور وضع الإقليم في موقع أكثر من فيديرالية وأقل بقليل من دولة، ولعل كل هذا يدفع بالأكراد ملياً إلى التفكير بخيار جنوب السودان في لحظة ما بعد الاستفتاء، خصوصاً أن هذه التجربة تحققت بموافقة من المركز (الخرطوم) ومن دون إراقة الدماء، كما أن تجربة تيمور الشرقية وانفصالها عن اندونيسيا حاضرة في الأذهان. ثانياً: خيار التوجُّه إلى الأممالمتحدة على غرار التجربة الفلسطينية لنيل اعتراف أممي بالدولة الكردية، وعلى رغم التعاطف الدولي مع حقوق الأكراد في عموم المنطقة، إلا أن الأكراد يدركون صعوبة مثل هذا الخيار، نظراً لقناعتهم بكثرة الدول العربية والإسلامية التي ستقف في وجه مطلبهم بإقامة دولة مستقلة، فهذه الدول تخشى في العمق من موجة حركات لها مطالب بحكومات محلية تتعدد أشكالها، وقد تكون مدخلاً لتقسيم دول المنطقة، وعليه تتحفّظ على مسألة الاستقلال الكردي، من دون أن يعني ما سبق رفضها الحقوق الكردية في إطار وحدة الدول التي يوجد فيها الأكراد (العراق، سورية، إيران، تركيا). ثالثاً: الإعلان من طرف واحد عن الاستقلال، لاسيما إذا تفاقمت الخلافات مع بغداد على القضايا الأساسية، كمستقبل المناطق المتنازع عليها والنفط وموازنة الإقليم. وعلى رغم سهولة هذا الخيار، إذ إنه لا يحتاج سوى إلى بيان رقم واحد لإعلان استقلال الدولة الكردية، إلا أنه يبدو الأكثر كلفة لجهة التداعيات والمخاوف، بسبب رفض دول الجوار الجغرافي، لاسيما تركياوإيران إقامة مثل هذه الدولة. رابعاً: خيار إعادة ترتيب العلاقة مع بغداد، إذ ثمة من يرى أن الاستفتاء لا يعني بالضرورة أنه سيتم إعلان استقلال كردستان، وأن جل هدف إربيل منه، هو الحصول على وضع أفضل للعلاقة مع بغداد، في ظل الحديث الكردي عن تجاوزات عدة حصلت في الدستور العراقي، وخروق لمبدأ الشراكة والتوافق، وأن الصيغة القديمة للدستور لم تعد تناسب الأكراد، وأن المطلوب وضع صيغة أفضل، أقرب إلى إقامة دولة اتحادية. وبغض النظر عن أي من هذه الخيارات ستقفز إلى سدة المشهد الكردي بعد الاستفتاء، فإن الاستفتاء يشير إلى نضوج المطالبة الكردية بخيار الاستقلال، ومن يدقّق في تصريحات مسعود بارزاني في شأن حق تقرير المصير، سيرى أنها تشكل انعكاساً لتنامي هذا الخيار في الداخل الكردي، إذ بات هذا الأمر أمراً أساسياً لصدقية القيادة الكردية بعد بروز معارضة للزعامة البارزانية، بما يعني حضور البعد الانتخابي في مسألة التوجّه لإعلان الدولة الكردية ومن ثم إجراء انتخابات رئاسية في الإقليم خلفاً لزعامة بارزاني، وسط اعتقاد لدى كثيرين بأن توقيت الاستفتاء لم يكن بعيداً عن خدمة فكرة بقاء الزعامة داخل العائلة البارزانية. * كاتب سوري