سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
السيدة لم تحل دون تقاتل ابنائها ... والشوق الى السنين الخوالي يسابق الأمل . الأشرفية أجرت اختبار "الأنفجار اللبناني" في ليلة إعادة صور "الجنرال" إلى ساحة ساسين
فجأة انتقل الكلام في لبنان عن احتقان بين الشيعة والسنة، الى مخاوف من احتقان مسيحي- مسيحي. أحياء منطقة الأشرفية في بيروت كانت مساء اول من امس مختبراً لهذه المخاوف. قرر العونيون اعادة صور العماد ميشال عون التي مزقت وأحرقت بعد اغتيال الوزير بيار الجميل. تقدم عشرات من العونيين في اتجاه ساحة ساسين، وهي الساحة التي تضم صور معظم الزعماء المسيحيين. اعادة صور الجنرال ستتم وفق قدر من استعراض القوة وإلا لن يتمكن الناشطون العونيون من القيام بالمهمة. وفي المقابل على مناصري"القوات اللبنانية"التجمع لحماية صورهم بالدرجة الأولى، ولإشعار العونيين بضغط يُصّعِب مهمتهم. أربعة أمتار فقط تفصل بين التجمعين العوني والقواتي، ومئات من عناصر الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي. توتر واحتقان شديدان، في انتظار وصول الرافعة التي ستساعد على رفع الصورة فوق ساحة ساسين. الساحة في هذه اللحظة تكتظ بمئات المناصرين من الطرفين، وصور الزعماء المسيحيين فوق رؤوس الجميع. صورة سمير جعجع وصورة بشير الجميل مذيلة بعبارة"لن نتراجع عن خط حددناه بالدماء"وأخرى للراحل بيار الجميل، وصورة ميشال عون بين أيدي مناصريه منتظرة صعودها الى سماء الساحة. وفي المبنى المقابل لمقهى"التشيز"ثمة من رفع لافتة قماشية عملاقة وسوداء رسم عليها امرأة تشبه رسم السيدة العذراء وذيلت بعبارة"امنا بتلمنا". لكن السيدة تلك بدت صامتة وعاجزة عن الإتيان بأي حركة، وسط صور الزعماء المتناحرين. تحت صورة السيدة العذراء كان الجمعان يضاعفان توترهما كلما اقترب وقت رفع الصورة. العونيون على رصيف مقهى"التشيز"والقواتيون على الرصيف المقابل. والغضب يتصاعد في أجسام المحتقنين على وقع الشتائم المتبادلة. وعليك لكي تلتقط الألفاظ من أفواه مطلقيها ان تضاعف إنصاتك وسط زعيق الحناجر. فالمسيحيون في لبنان يتبادلون اتهامات الالتحاق. القواتيون يشيرون الى التحاق العونيين بپ"حزب الله"، والعونيون يردون بشعارات تتهم"القوات"بالتحاقها بپ"تيار المستقبل". ولا يخلو هذا التراشق الكلامي من درجة من البذاءة والابتذال. اهازيج واراجيز معدة في الأحياء الخلفية للأشرفية، يحملها الشبان الى ساحة ساسين كل ليلة على ما يبدو. الوقت يتقدم وموعد وصول الرافعة يقترب. عدد أفراد القوى الأمنية يتضاعف مترافقاً مع ارتفاعٍ في حدة التوتر والغضب. لا أحد يكترث للسيدة المرسومة على القماشة السوداء. الجميع يعرف ماذا سيحصل، والجميع منتظر. ساحة ساسين وهي عقدة الأشرفية ورأس تلّتها تستقبل الشبان، ومن الصعب تمييز الوجوه الا في حال حمل أصحابها شعارات الأحزاب. عونيون كثر كان من الممكن ان نعتقد انهم قواتيون عتيقون، وهم ربما كانوا كذلك. وشبان وشابات قواتيون يتحدثون بالفرنسية، ولطالما كانت هذه من خصال العونيين. والواضح ان ثمة جيلين من الناشطين، وتماهياً مخيفاً مع أصحاب الصور المتناحرة. المسؤول العوني كان اثناء توجيهه مناصري التيار يستعير غضب العماد واضطرابه مطلقاً عبارات تشير الى انهم اصحاب الحق المطلق، وانهم الأوادم والمثقفون، فيما كان المسؤول القواتي متقمصاً صورة القديس وقد فقد صوابه. عناصر الجيش والقوى الأمنية استمروا ممسكين بالساحة ومتمكنين من ضبط احتمالات الصدام. المحايدون وهم قليلون في مشهد الاحتقان المسيحي هذا، ليلة اول من امس في ساحة ساسين، وقفوا في زوايا ابعد قليلاً، وشرعوا ينظرون مندهشين. مالك شاب سوري يعمل منذ ستة عشر عاماً في مطعم في ساحة ساسين كان واقفاً يراقب خطوات القواتيين والعونيين كما لو انها مرسومة من قبل. وجهه كان هادئاً وكئيباً. انهم شبان الساحة الذين الفهم، ينقسمون اليوم كما لو ان عداوة عمرها مئات السنين تدب بينهم. على المرء ان يتخيل القرابة التي تربط بين هؤلاء ليستنتج ان احتمال تفجر الأوضاع داخل الجماعة الواحدة اعنف من احتمال تفجره بين جماعتين. فالجماعات المتناحرة ربما مارست تقية ما حيال بعضها بعضاً، اما الجماعة الواحدة فتقف مكشوفة وسافرة حيال نفسها. هكذا وقف العونيون في مواجهة القواتيين في ساحة ساسين. ردد العونيون شعار"عون راجع على بعبدا"ورد القواتيون"هيه ويلا سورية طلعي برا"في اشارة الى تحالف العونيين مع حلفاء سورية في لبنان. الأرجح ان المسيحيين سيكونون السباقين الى التصادم في حال آلت الأوضاع الى التصادم في لبنان. مشهد ساحة ساسين مساء الاثنين الماضي كشف كم ان الرغبة في تفادي الصدام كانت شبه منعدمة. القواتيون احتلوا الساحة في الأيام الماضية، والعونيون قرروا العودة بعراضة"شارعية". وحين يُقال ان الأمر اصبح خارج ارادة مسؤولي الحزب والتيار، فإن ذلك يعني ان هذا صحيح في اللحظة التي تفلت فيها الأوضاع. اما قبل ذلك فتفادي الصدام ممكن وأكيد. في الحادية عشرة والنصف قبل منتصف الليل وصلت الرافعة الى ساحة ساسين. السيدة صامتة صمتاً مطبقاً فوق رؤوس الجماعتين المتنازعتين. عناصر الجيش اقفلوا مداخل المنطقة بآلياتهم التي استقدموا مزيداً منها. والمشهد عالق عند اللقطة نفسها، والمتغير الوحيد فيه ارتفاع سخونة الساحة. الى ان رفعت الرافعة رجلاً عونياً ليمسك بحبال الصورة التي بدأت ترتفع فوق الساحة. في هذه اللحظة صرخ العونيون بصوت واحدٍ"جنرال... جنرال... جنرال"فيما انطلقت عبوة زجاجية من بين القواتيين باتجاه العونيين. كانت لحظة شعر الجميع فيها بأن الوضع بدأ يخرج عن سيطرة القوى الأمنية، لكن عناصر الجيش والدرك عادوا وتمكنوا من ضبطه مجدداً. تكررت الواقعة اكثر من مرة في غضون خمس عشرة دقيقة، ولكن كان واضحاً ان القوى الأمنية ما زالت صاحبة المبادرة في ضبط الساحة. استقرت الصورة في مكانها. في البداية ادى اضطراب المتولين تعليقها الى خلل في توازنها تمت معالجته لاحقاً. وفي هذا الوقت كان القواتيون المنتفضون في أنحاء الساعة رضوا بقدرهم، ولكن عدداً منهم شرع يقول ان العونيين لن يتمكنوا من حراسة صورتهم وان ساعات الفجر الرطب"لنا"حيث سنكون لوحدنا في الساحة. لم تكن ساحة ساسين وحدها منطقة الاضطراب العوني- القواتي في الأشرفية، فسائر الأحياء شهدت في الأيام القليلة الماضية مناوشات"شعبية"و"شارعية"بين"القوات"وپ"التيار". في شارع الجميزة تحول حادث سير عادي بين سيارة وعابر الى اشتباك قواتي- عوني بالأيدي. الأحياء الداخلية للأشرفية تغير ايقاعها الداخلي بحسب ما شعرت وفاء وهي من أبناء المنطقة، فصار الشباب يسهرون في مواقف السيارات ويحضرون الأراكيل، فيما تحولت مقاهٍ شعبية واخرى للإنترنت الى أماكن تجمعات للمناصرين. وفجأة ظهرت على ملامح الشباب علامات عودة الى أزمنة غابرة. ثياب تحاكي الثياب العسكرية، وخرائط لبيروت ومناطقها وجماعاتها، وكل هذا يتم من غير ان يكون ثمة من يعد الى امر ما، فقط اندفاع وراء المشاعر والرغبات. ففي منطقة كرم الزيتون على احد منحدرات الأشرفية خرج فادي من منزله متجهاً الى ساحة ساسين. كان يدرك ان اليوم سيشهد حدثاً في تلك الساحة. لم يغير كثيراً من عاداته، لبس ثياب"السهرة"ووضع كمية الپ"جل"المعهودة على شعره، وانطلق صعوداً في اتجاه الساحة التي يلتقي فيها شبان الجامعات، ابناء الأحياء الأعلى مرتبة اجتماعية واقتصادية. على هذا النحو يتجمع شبان الأشرفية في ساحة ساسين. وفي المقاهي المنتشرة حول الساحة جعلوا في الآونة الأخيرة يفرزون انفسهم قواتيين وعونيين وكتائبيين، وكل يومٍ ينقضي تتضاعف بانقضائه الفروق، الى ان جاء يوم اغتيال الوزير بيار الجميل. ثمة أمر آخر كشفته الأيام الأخيرة من المحنة اللبنانية في الأحياء المسيحية وتحديداً في الأشرفية ومناطقها. انه شبكة نفوذ حزب الكتائب في هذه المنطقة، اذ إن عملية اغتيال الوزير بيار الجميل اظهرت ان لشبكة بيوت الكتائب في أحياء الأشرفية دوراً في إقامة علاقة بين أبناء الأحياء وبين بيوت الحزب. فمباشرة وبعد عملية الاغتيال عمرت بيوت الكتائب بآلاف من الشباب والفتيات، في وقت كان السائد ان الكتائب شاخت وهرمت، وان الأجيال الجديدة من المسيحيين استقطبتهم ثنائية عون- القوات. ضخت عملية الاغتيال الكثير من الحياة في بيوت الحزب. خصوصاً ان فكرة نشر هذه البيوت في الأحياء الشعبية ارتبطت الى حد كبير بطموح الحزب القديم في إقامة علاقة مع"الشارع"، فأقيم معظم هذه البيوت في الطبقات السفلية من المباني بشكل يتيح للبيت الكتائبي صلة مع الشارع ويُشعر فتية الشوارع انه بيتهم الذي يشكل امتداداً لشارعهم ولحياتهم فيه. انها فكرة بيار الجميل الأب. اما اليوم ففي ظل اعادة الحياة الى الشارع بصفته التعبير السياسي الوحيد، فقد عاد لبيوت الكتائب شيء من وظيفتها تلك. في معظم أحياء الأشرفية يتجمع فتية هذه الأيام في بيوت الكتائب. ونحن هنا لا نتحدث عن جيل كتائبي جديد بقدر ما نشير الى ان للكتائب صلة بالشارع المسيحي الذي من المرجح انه لم يعد كتائبياً ولكن ما زالت تربطه علاقة ما بهذا الحزب. يؤكد أحد مسؤولي"القوات اللبنانية"ان الكثير من الخطوات الانفعالية التي يقدم عليها شبان الأحياء في الأشرفية هي ردود فعل سريعة ومرتجلة ولا تمت لخيارات القوات بصلة. لكنك تشعر ان لهؤلاء الفتية قدرة على دفع قياداتهم وراء اهوائهم. فخطوة اعادة صور الجنرال الى احياء الأشرفية وان كانت محقة ولكنها تحمل قدراً من المغامرة بحيث يصعب فيها على قيادة التيار التنصل من تبعاتها. وربما كان الهدف من ورائها رمزياً وضرورياً في السياسة، ولكنه في نهاية المطاف تعريض منطقة كاملة لاحتمالات الانفجار. الاعتبار الأول يغلب الاعتبار الثاني، تماماً كما تغلب المصالح السياسية الضيقة اعتبارات السلم الأهلي في الحسابات اللبنانية. ثمة شيء تغير في روح الأشرفية بحسب وفاء، حصل ذلك بسرعة قياسية. أحقاد الحروب التي مضى على انقضائها اكثر من 15 سنة استيقظت فجأة. المدنيون الذين كانت الشابة تعيش معهم وتتضامن مع قضاياهم تحولوا فجأة الى مشاريع مقاتلين في الشوارع. ثمة خطر يتعدى الأزمة الراهنة. استعداد عميق وقائم للانتقال من حال الى حال في ظرف ايام قليلة. لا أحد كبيراً في المعضلة اللبنانية، وفي الأشرفية كان ليل اول من امس انذاراً وبروفة لما يمكن ان يحدث.