حصل هذا قبل ايام قليلة في بيروت: دخل عماد الى دكان عمه في احد الأحياء الشعبية، فاستدعاه الأخير الى غرفة صغيرة خصصها لأعمال المحاسبة يقصدها حين يفرغ من البيع كل مساء. فتح العم خزانة صغيرة وأخرج منها كلاشنيكوف وقال لابن أخيه:"هذا السلاح جلبته من القرية، يجب ان نحمي أنفسنا في هذا الجو المشحون، ويجب ان يعلم الجميع اننا نستطيع ان ندافع عن أنفسنا في حال وُجد من يرغب في مهاجمتنا". وأضاف العم:"كثيرون ممن اعرفهم جلبوا رشاشاتهم الى منازلهم ومتاجرهم، اليوم رشاش ومسدس وغداً يأتي ال"آر بي جي"". الحرب ليست وشيكة في لبنان، وهي فعلاً كذلك، ولكن لشدة ما يهجس بها اللبنانيون يومياً صار من الممكن إحالة الكثير من الوقائع الى اقترابها. فبيروت اليوم مريضة فعلاً، ويمكن رصد أعراض مرضها في وجوه أهلها وفي أحاديثهم ومخاوفهم الكثيرة. أسئلة يطرحها هؤلاء عن أطراف تملك أسلحة في الأحياء، وحوادث صغيرة توحي باستعدادات واسعة للانخراط في عملية"إفناء"جديدة للمدينة. قذيفة"اينيرغا"أطلقت على ثكنة الحلو في منطقة مار الياس. تلك القذيفة يعوزها رامٍ محترف، وهي من النوع الذي استعمل في الحروب الصغيرة التي شهدتها بيروت في غابر أيامها. انها تذكير حاد وذكي، وان كانت حدوده ضيقة. لكن المخاوف في بيروت امتدت الى ما هو اعمق من هذه المؤشرات. الوسط التجاري للمدينة لم يتمكن حتى اليوم من الاستيقاظ من غفوة الحرب الأخيرة. انتعشت المناطق الأبعد قليلاً عنه. في الأشرفية مثلاً، وفي ساحة ساسين تحديداً حيث وضعت لافتة تقول"الأشرفية قلب القوات اللبنانية"، عادت المقاهي لتزدهر. افتُتح أخيراً مقهيان جديدان انضما الى مقاه اخرى تزدحم هذه الأيام بعشرات الرواد والساهرين. شارع الحمرا الذي كان باشر قبل الحرب الأخيرة توديع مقاهيه العريقة، عاد واستأنف ازدهاراً فقده في السنوات الفائتة، وذلك على وقع ازدحام لافتات الاحزاب في فضائه. انها المناطق التي تبعث الدفء في الجماعات والأهل وتُبعد عنهم صقيع ال"داون تاون"الذي أصابه اليتم ما ان وضعت الحرب الأخيرة أوزارها. الحمرا والأشرفية هما مناطق الأهل التي يحلو فيها السهر هذه الأيام، ومن الممكن ان يخبئ فيها اعمام فتية السهر رشاشات في دكاكينهم، او على الأقل هذا ما يعتقده كثيرون هنا في بيروت. اقتصاد السلم في لبنان بدأ يتهاوى وان على نحو بطيء، وبطؤه ليس علامة قوة، انما هو بطء المقتدر الذي يحثّ الخطى بثقة، على وقع صعود ملحوظ لقيم الإعالة والإغاثة. فقد استيقظت على نحو مفاجئ الرغبة في ان تقيم الأحزاب والتيارات السياسية قنوات اتصالها بال"جماهير"عبر حصص ال"إعاشة"المعهودة تلك. لم يقتصر الاستهداف هنا على المهجرين، فالمقيمون ايضاً صاروا هدفاً لموزعي الإعاشات، والصناديق التي كُتب عليها اسم الجهات المانحة ملأت مستوعبات النفايات في بيروت. اقتصاد الاحتقان بدأ يزحف. تقفل مؤسسات الحداثة واسفافاتها، وتفتح ايديولوجيات الحروب مؤسسات جديدة. سوق الإعلانات تراجع على نحو كبير، وعلى رغم ذلك ثمة نيات لافتتاح مزيد من المحطات التلفزيونية. انها أسواق رديفة وسرية، واستثمار في الحروب وإعادة تشكيل لمجتمعها. المسألة الحرب شعورية وليست منطقية كما قالت سيدة تقيم قرب ثكنة الدرك في منطقة الأشرفية. فالحرب ليست على الأبواب، وعلى رغم ذلك تلوح كحلم مزعج ما ان ترفع السيدة وجهها باتجاه المنطقة الأخرى، وتقترب سخونتها منها كلما عبرت من منطقة السوديكو وقرأت اللافتة التي كتب عليها"سلاح المقاومة باقٍ باقٍ باقٍ".