انه السؤال الأكثر إلحاحاً عند الأمم الحيّة التي تتواصل مع ماضيها التاريخي الحضاري الاجتماعي والسياسي من خلال معادلة ترتكز على نقطة أساسية. لماذا لا تشكل الإنجازات الحضارية التاريخية لتلك الأمم حافزاً لتفعيل حضورها الفكري والانطلاق بخطى سريعة لبناء غدها الواعد؟ واذا كانت هذه المعادلة حاجة ملحة عند جميع الأمم التي تملك تاريخاً حضارياً رفد الإنسانية قاطبة بشتى أنواع العلوم والمعارف فإننا نحن العرب أحوج ما نكون لإعادة قراءة تاريخنا والوقوف على الإنجازات العلمية التي سطرها اعلام العرب في مختلف الميادين. اننا نود ونحن في مستهل هذا المقال أن ننبه الى ان ليس المقصود هنا أن نطرح للنقاش موضوع الموازنة بين تراث العرب وتراث غيرهم من الأمم، وخاصة تراث الأمم الغربية، لكن لا بد من الاشارة الى أنه لا تستقيم قراءتنا لواقع الحياة الثقافية العربية، ومعرفة أسباب تخلفها عن مواكبة حال التقدم والإبداع التي تسود العالم المتمدن من دون أن نكون على بيّنة من المشهد الثقافي الذي امتاز به التراث العربي الإسلامي، وهو الذي كان في المشرق والمغرب العربيين في عصر الإسلام الذهبي الذي امتد من منتصف القرن الثامن حتى القرن الثالث عشر للميلاد، أي بين الفترة التي حمل فيها العرب وحدهم مشعل النور والحضارة في العالم كله. في تلك الفترة لم يكن العلم الطبيعي قد استكمل استقلاله على فروع المعرفة التي استغرقت اهتمام المشتغلين بالعلم عند العرب. فهل لقادة الفكر وأعلام المعرفة سبل أخرى لإعادة الروح ونبض الحياة لهذا الواقع المتردي الذي يعيشه العالم العربي؟ وما هي الحوافز التي يجب توافرها حتى يتمكن الفكر العربي من إعادة تفعيل حضوره الحضاري؟ انه السؤال الأكثر أهمية لأن في حال الإجابة عليه، فمعنى ذلك ان العالم العربي قد تمكن من إعادة رسم حضوره الفاعل والخروج من حال الركود والتخلف الذي تعاني منه المجتمعات العربية كلها. بادئ ذي بدء لا بدّ من الإشارة الى ان العالم العربي يعاني اليوم من حال التخلف، ومرد ذلك يعود الى عوامل تاريخية نتجت عن الأوضاع التي مر بها خلال فترة طويلة من الوجود العثماني الذي غلب عليه الطابع العسكري على حساب التطور الفكري الذي كانت تحتاجه جميع المجتمعات العربية آنذاك. وبعيداً عن حال الإحباط فإن من الضروري الإقرار بأن أكثر المجتمعات العربية تعاني اليوم الكثير من المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية قياساً على ما حققته المجتمعات الغربية من إنجازات علمية على مختلف الصعد. ومع ذلك فإن أكثر الشعوب العربية تنظر الى الحاضر والمستقبل بقلوب مملوءة بالتطلع والأمل. فلقد مضى على العالم العربي زمن طويل كان يحس فيه أن العالم الغربي يتجه الى تحقيق غاياته من دون أن يجعل اعتباراً لطموحات العرب ويمضي في تقدمه. إلا أن ما يجب التنبه اليه هو أن العالم الغربي الذي حمل لواء الحضارة اليوم لم يبلغ في تقدمه حالة السعادة والاطمئنان التي كان ينبغي للأمم المتمدنة أن تنشدها. فبين شعوب الغرب من هم في حالة سيئة كما أن هيمنة العالم الغربي على أكثر مناطق العالم لم تنجح في بلوغ الأمن والسلام بكل ما أوتي من قوة وعلم. ان هدف هذه المقاربة هو تبيان صورة المشهد الثقافي العربي الذي يعيش على هامش الإنجازات الحضارية بفروعها العلمية والإنسانية والتي تذخر بها أمم العالم المتحضر. وحتى تكون الصورة أكثر وضوحاً عند جميع المثقفين العرب وحتى يستطيع البعض منهم قراءة الواقع بغية تلمّس الطريق التي تقود الى حال النهوض الفكري عند العرب، لا بد من القاء الضوء على الإنجازات الحضارية والعلمية التي حفل بها تاريخ العرب في المناطق التي دخلوها. فمن منا لا يذكر الدور الحضاري الذي لعبه أعلام العرب أثناء وجودهم في اسبانيا وصقلية بكونه يرسم ملامح مهمة للإنجازات الحضارية التي تركها العرب المسلمون لشعوب تلك المناطق بشهادة الكثير من البحاثة الغربيين. فلقد كانت أوروبا قبل دخول العرب المسلمين الى اسبانيا وصقلية وايطاليا وبعض مناطق فرنسا، وباعتراف جميع المفكرين الأوروبيين تسبح في الظلام وتعاني من التأخر والفوضى فنشر العرب فيها حضارتهم وأبدلوا ظلامها بنور العلم والمعرفة والمدنية. فلقد مكثوا في صقلية وجنوب ايطاليا 300 سنة تقريباً فاستعرب أهل تلك الناطق وأصبحوا يتكلمون اللغة العربية. أما تاريخهم في اسبانيا فهو معروف فقد كتبت اسبانيا العربية صفحة من أروع صفحات التاريخ الحضاري والعقلي لأوروبا في العصور الوسطى. وكانت الشعوب المتكلمة باللغة العربية ما بين منتصف القرن الثامن ميلادي والقرن الثالث عشر مشاعل الثقافة والحضارة الى ربوع العالم أجمع. وكانت الحضارة العربية الإسلامية أساس النهضة في أوروبا فأوفدت دولها بعثات علمية الى الأندلس العربية لتتلقن العلوم والأفكار العربية مثلما ترسل الدول العربية اليوم بعثاتها الى أوروبا وأميركا. ولعل من المفيد أن نتوقف عند الدور الحضاري الذي تركه العرب في صقلية، فلقد تركوا لأهاليها الأصليين عاداتهم وقوانينهم وحريتهم الدينية المطلقة واهتموا بالزراعة والصناعة وأنشأوا مصانع الورق التي امتدت من صقلية الى ايطاليا كما استخرجوا الذهب والفضة والرصاص وعلموا أهاليها صناعة الحرير. كما أنشأوا الأساطيل التجارية. ولقد أشاد المفكر الغربي"ديبل"بالحكم العربي في صقلية فقال:"ان العرب حملوا معهم الى جزيرة صقلية مظاهر فنهم وقناطرهم العالية الجميلة وبهيج صناعتهم وليدة علمهم". ولما سقطت"بالرمو"في أيدي العرب عام 831م لم يكن فيها سوى ثلاثة آلاف نسمة، فلما غدت عاصمة أمراء العرب المسلمين برزت حضارتها وفنونها فأصبحت لها حكومة ذات مجد ورقي. ويشير"آماري"في كتابه المسلمون في صقلية الى طبيعة الحكم العربي لصقلية، فيقول:"ان من غلبوا على أمرهم من سكان الجزيرة كانوا في راحة وسرور على عهد الأمراء العرب المسلمين. وكانت حالتهم أحسن بكثير من حالة إخوانهم الإيطاليين الذين كانوا يرزحون تحت نير الجرمانيين والفرنجة". كما برز في صقلية الكثير من الرجال الإعلام في مختلف العلوم كعيسى بن عبدالمنعم الذي كان عالماً في الهندسة وعلم النجوم. أما عن التأثيرات العربية في صقلية فهي أكثر من أن تكتب في هذه المقالة ولعل أبرزها الألفاظ العربية التي لا تزال شائعة في اللغة الصقلية والإيطالية. كما لا تزال مدن وأماكن كثيرة في صقلية تحمل أسماء عربية لا سيما القلاع والمراسي والشوارع وتبدأ أسماء القلاع بلفظ"قلتا"أي قلعة. كما لعبت التجارة دوراً مهماً في تحضير أوروبا على أيدي التجار المسلمين. وما العثور على العملات والنقود الاسلامية في أماكن مختلفة من أوروبا إلا دليل على تغلغل التجارة الإسلامية في أوروبا. وهذا ما نراه من خلال وجود بعض الكلمات ذات الأصل العربي في اللغات الأوروبية مثل كلمة Cheque المأخوذة من صك العربية. وكلمة Magazin المأخوذة من كلمة المخازن العربية. كما ان صناعة الورق التي تعلمها مسلمو الأندلس من الشرق العربي الإسلامي ونقلوها الى أوروبا. كما انتشرت هذه الصناعة في ايطاليا ومنها الى فرنسا والمانيا وانكلترا. مما أتاح لأوروبا أن تبدأ صفحات مشرقة بفضل دخول هذه الصناعة اليها اذ لا يخفى ما للورق من أهمية في نشر الحضارة الأوروبية وتقدمها. إذ لولا الورق لما تطورت الطباعة وما انتشر الكتاب. كما قلّد فنانو أوروبا الخط العربي الكوفي فحاولوا كتابة الحروف اللاتينية بصورة تقرب في شكلها العام من صورة الخط الكوفي لا سيما الأندلسي. كما قلّد فنانو أوروبا الأرابيسك وكانوا يستعينون به في الرسم على التحف والمصنوعات المختلفة التي كانت تخرجها أيديهم. كما كانت المشربيات الخشب مبعث الإلهام لصناع المعادن الأوروبيين عندما كانوا يصنعون شبابيكهم الحديد ذات المصبعات. هذه الإنجازات الحضارية التي حفل بها تاريخ العرب دفع الكثير من المفكرين الغربيين للإشادة بالحضارة العربية وفضلها على حضارة أوروبا ويحضرني بهذا الصدد ما قاله المفكر راندل:"أنقذ العرب من العالم شيئاً كان أرسطو على رغم عبقريته عاجزاً كل العجز عنه. وهو العلم الرياضي. وأخذ العرب من العالم اليوناني المعرفة الرياضية والطبية التي احتقرها الرومان ونبذها المسيحيون، وراحوا يعملون بصبر وجهد في ذلك الطريق الذي ازدراه الإغريق في أوج عظمتهم وبنوا في القرن العاشر في اسبانيا حضارة لم يكن العلم منها مجرد براعة فحسب. بل كان علماً يخدم الفنون والصناعات الضرورية للحياة العلمية". والسؤال المطروح: هل العالم العربي وبما يملك من هذا المخزون الحضاري غير قادر على تخطي حال التخلف والركود مع كل ما يملك من موروثات تاريخية حضارية؟ سؤال تجيب عليه الشعوب العربية بما ترسمه لنفسها من عمل لنفض غبار الكسل والركود عن واقعها لتعود مجدداً الى رحاب الحضارة التي بقيت متلازمة لشعوب هذه المنطقة حقبة طويلة عرفت فيها الإنسانية أعظم درجات الرقي والتمدن. * كاتب لبناني