قبل الحديث عن الثقافة العربية في بعدها العالمي، لا بد من الإشارة الى ان هناك ثقافات متعددة سبقت الثقافة العربية من حيث حضورها التاريخي. وإذا كانت بعض الأماكن شهدت بزوغ حضارات فاعلة من جراء انتشار ثقافاتها ورواج لغاتها، فإن ذلك يدل على مدى الفاعلية التي تتركها الثقافات الحية في عملية إغناء الفكر البشري. وقبل شيوع الثقافة العربية عرف العالم القديم انتشار الثقافتين اليونانية واللاتينية اللتين استفادتا مما سبقهما من الثقافات، المصرية القديمة وثقافة بلاد ما بين النهرين، وأدى التفاعل مع تلك الثقافات الى إثراء المجتمع الإنساني على صعيد الأدب والفلسفة والشعر والتاريخ. ويجب ألا ننسى في هذا الاطار انتشار ثقافات قديمة كان لها دورها البارز على الصعيد الحضاري كالثقافة الهندية والفارسية والفينيقية التي أعطت العالم أبجديتها المعروفة. إن ذلك يقودنا الى الإقرار بأن تطور الثقافات خلال عصور التاريخ الماضية مرتبط بعملية التواصل التي كانت تربط تلك الثقافات ببعضها بعضاً، حتى أن كل ثقافة تأخذ مما قبلها وتعطي ما بعدها. والسؤال الذي يجب أن نطرحه: ما هو موقع الثقافة العربية في عالم يسوده انتشار ثقافات لها خصوصيتها ومميزاتها الحضارية وبعدها العالمي في عصر انتشار نظام العولمة؟ هل يمكن ثقافتنا العربية أن يكون لها هذا الحضور العالمي، أو أن تشكل ظاهرة حضارية انسانية من خلال لغتها وأدبياتها؟ قبل الإجابة عن هذه الأسئلة لا بد من التأكيد أن للثقافة العربية خصوصيتها التي مكنت العرب من تعميم انتشار اللغة العربية في جميع المناطق التي دخلوها فاتحين. ففي الأنفار المفتوحة نزل الكثير من سكان المناطق غير المسلمين، الحواضر العربية وامتزجوا بها واشتركوا في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الجديدة. وقد شمل الامتزاج كل نواحي الحياة. ومع أن العرب كانوا أقل حضارة من كثير من الشعوب الخاضعة لهم، إلا أنهم فرضوا على هذه الأقوام، شيئين مهمّين هما: اللغة والدين. إذ فادت الثقافة العربية من لغتها التي هزمت اللغات الأخرى وأصبحت لغة الإدارة والأدب والشعر. ولم يكن سكان الأمصار المفتوحة، غرباء عن العرب الفاتحين، كما أن فروقهم الدينية لم تقف حائلاً في سبيل تكوين مجتمع سرعان ما تكلم العربية وأصبح جزءاً فاعلاً في إغناء الثقافة العربية، يكتب بلغتها الكثير من المؤلفات، ما قاد الى تعريب لغوي ونوعي، والى ظهور حضارة غربية زاهرة تجلّت في بروز الكثير من العلماء وانتشار سريع لمختلف العلوم العقلية بفروعها كافة. وقد ربطت اللغة العربية كلّ البلاد برباط معنوي قوي دفع الكثير من سكان الأديان الأخرى الى الاشتغال بالعلوم والآداب والطب والفلسفة والترجمة، وظهر من بينهم الكثير من العلماء والمفكرين. وهكذا نرى البعد العالمي والإنساني للثقافة العربية وتأثيرها الحضاري في المناطق التي دخلها العرب. وفي هذا الصدد يذكر لنبر بولا في تقويمه للوجود العربي في اسبانيا طوال ثمانية قرون: "لقد جعل العرب من اسبانيا جنة بديعة وكانت متأخرة جداً في زمن القوط. وجعل العرب اسبانيا أعظم مركز للثقافة الأوروبية". وهناك الكثير من الشواهد التاريخية على أهمية الثقافة العربية وبعدها العالمي. لقد كان الاسبان يملأون أجواء أوروبا بالمديح والاعجاب بأعمال العرب وثقافتهم وشرائعهم ومعاهدهم ونظمهم والعمران الذي أدخلوه الى البلاد الاسبانية. ومن الأمثلة على ذلك ما أرسله الملك "فيليب البافاري" الى الخليفة هشام الأول يسأله السماح له بإيفاد هيئة تشرف على أحوال الأندلس ودراسة نظمها وثقافتها حتى يتمكنوا من الاقتباس مما يفيد بلادهم فوافق الخليفة على هذا الطلب... وحذا حذو الملك البافاري وصول وفود أخرى قدمت من فرنسا وايطاليا والبلدان المنخفضة ملأت معاهد غرناطة وإشبيلية واقتبست من الثقافة العربية الأندلسية كثيراً من العلوم والآداب والفنون. ولم تكتف أوروبا بإرسال مثل هذه البعثات العلمية، بل راحت دول أوروبية في أواسط القرن التاسع الميلادي وما يليه، "تستأجر" الأساتذة والخبراء العرب لتأسيس المدارس والمعامل وإحياء الصناعات الكثيرة ونشر لواء العمران والتنظيم في بلدانها. وللدلالة على ذلك، فإن أعظم جسور نهر التايمز أنشأه مهندس أندلسي وسماه على اسم الخليفة الأندلسي "هشام الثاني"، كما أن قباب الكنائس الكبرى في "بفاليريا" من صنع العرب، والأسطول البحري الهولندي العظيم الذي قهر العمارة الانكليزية على الشواطئ الاسبانية في معركة "ليزبونة" العام 1152 من صنع العرب، أما قائده فهو "أميرال البحر طارق"، كما ان صناعة القمصان في أوروبا أخذها الأوروبيون عن العرب. ولهذا شاع اثر الثقافة العربية لدى جميع سكان المناطق التي دخلت في حوزة المسلمين من خلال المصنفات العلمية والأدبية التي راجت وكثر التداول فيها. تلك كانت حال الثقافة العربية وبعدها العالمي والانساني، وهو بُعد ساهم في إرساء قواعد النهضة الأوروبية وتطورها الحضاري والإنساني. وقد تكرس البعد العالمي الذي حققته الثقافة العربية بكونها قدمت لغيرها من الثقافات ما كان يحتاج اليه، فكانت ثقافة ثرة أفرزت حضارة مزدهرة وصادفت أمماً كانت تتعطش لترتوي من منابع الحضارة العربية... وكان لا بد من أن تنساب اليها وتترك بصماتها على زوايا متعددة من مجتمعاتها... ويقتضينا البحث ان نسأل عن حال الثقافة العربية المعاصرة وبعدها العالمي والإنساني. فالعالمية لا تعني مطلقاً الانسلاخ عن الخصوصية ولا يمكن أي ثقافة أن تحلق عالمياً متجاهلة خصوصيتها. وأول هذه المسلّمات الخصوصية قضية اللغة، فلا ثقافة عربية من دون لغة عربية تواكب عصر العلم وتفسح المجال لاستيعاب كل المصطلحات العلمية التي تنشأ عن الانجازات العلمية الهائلة التي تحققها الأمم الراقية. ولعل شيوع الثقافة العربية مرتبط الى حد كبير بالانجازات الأدبية المهمة كالشعر والقصة، والترجمة الى اللغة الأجنبية الأخرى من فرنسية وإنكليزية وألمانية وغيرها، فنقلها الى جمهرة من المثقفين والقراء من غير العرب يساهم في عالمية الثقافة العربية ويمهد للوقوف على ما تكتنزه الحضارة العربية المعاصرة من علوم ومعارف. ورأينا ان الثقافة العربية قادرة على تخطي حدودها الاقليمية وتحقيق بعدها العالمي، إذا تواصلت مع تراثها الفكري ونهلت من منابعه مصادر ثروتها لتبقى ذات تأثير واضح في الآداب العالمية الحديثة. وهنا يبرز دور المثقفين والباحثين الذين يقدرون على تحقيق عالمية الثقافة العربية إذا ما ارتقوا بأبحاثهم وكتبهم الى المستوى الفكري المميز الذي يدفع عن هذه الثقافة كل العوائق التي تحول دون انطلاقتها عالمياً. * مؤرخ لبناني.