بات من الضروري أن نستذكر الواقع التاريخي لحوادث مرت بها الأمم في علاقاتها والتي أفرزت وبعد مخاض عسير أرضية صالحة لإقامة سلام حقيقي بين الشعوب تسوده روح المحبة والعدل والتسامح واحترام خيارات الآخرين. ولتوضيح الصورة، وجدت من الضروري الإضاءة على الوجود العربي الإسلامي في أوروبا وما خلّفه من إنجازات حضارية وعلمية وسلام اجتماعي نعمت به القارة الأوروبية على مدى قرون عديدة. إنّ ما أود التوقف عنده هو نقطتان أساسيتان: * الأولى: دور علماء المسلمين في تكوين الفكر الأوروبي. وفضل حضارة العرب على أوروبا.وكيف نقلت أوروبا التراث الإسلامي في صقلية وبلاد الأندلس. وشهادة الباحثين الأجانب بما قام به علماء العرب المسلمون. * الثانية: موقف العرب المسلمين من المستعربين النصارى. والتعايش الاجتماعي المشترك بين المستعربين النصارى والعرب المسلمين. ما هي وضعية أوروبا قبل دخول العرب المسلمين إليها؟ يُجمع المفكرون الأوروبيون أنّ أوروبا كانت تسبح في الظلام وتعاني من التأخر والفوضى، فنشر العرب فيها حضارتهم وأبدلوا ظلامها بنور العلم والعرفان والمدنية وأرسوا قواعد حكومة عادلة تحرص على تحقيق الحرية والمساواة وتعمل لمصلحة رعاياها من الأوروبيين. ومن أبرز المفكرين الذين تحدثوا عن أثر الحضارة العربية في أوروبا غوستاف لوبون الذي وضع كتاباً بعنوان «حضارة العرب»، أنصف فيه العرب وسلّط الأضواء على الأسس العربية للحضارة الأوروبية الحديثة. ومن آراء لوبون قوله: «كان تأثير العرب في الغرب عظيماً وإليهم يرجع الفضل في حضارة أوروبا». ويرى لوبون أنّ الحضارة العربية لم تدخل إلى أوروبا نتيجة الحروب الصليبية كما هو الرأي الشائع، بل دخلت بواسطة الأندلس وصقلية وإيطاليا. ويقارن لوبون بين إسبانيا العربية وسائر أرجاء أوروبا فيقول: «تمتعت إسبانيا بحضارة سامية بفضل العرب، بينما كانت بقية أوروبا غارقة في ظلام وتأخر». أما ساريتو فيقول:»إنّ ما أتت به الحضارة العربية في باب العلم لا سيما العلوم وتطبيقها أعظم بكثير مما أتت به في هذا السبيل الدولة البيزنطية، إذ إنّ الحضارة البيزنطية لم تأت بفكر جديد». واعترف المؤرخ رينو في كتابه غزوات العرب بفضل العرب على حضارات أوروبا فقال: «إنّ النهضة الحقيقية في أوروبا لم تبدأ إلا منذ القرن الثاني عشر حيث أفاق الفرنسيون والإنكليز والألمان من رقدتهم، ونفضوا عنهم الخمول، ووجدوا ضرورة الاشتراك في الحضارة العربية، فأخذ المسيحيون في فرنسا وما جاورها يؤمون إسبانيا لترجمة الكتب العربية وأصبح العرب الأمثلة العليا للشجاعة والشهامة ومكارم الأخلاق». وفي كتابه «قانون التاريخ» La loi de l'histoire يقول جولية كستلو: «كان التقدم العربي بعد وفاة الرسول عظيماً جرى على أسرع ما يكون وكان الزمان مستعداً لانتشار الإسلام، فنشأت المدينة الإسلامية نشأة باهرة. وقبض العرب بأيديهم خلال عدة قرون على مشعل النور والعقل وتمثلوا جميع المعارف البشرية التي لها مساس بالفلسفة والفلك والكيمياء والطب والعلوم الروحية فأصبحوا سادة الفكر مبدعين ومخترعين». عندما فتح المسلمون بلاد الأندلس وصلوا إلى جبال البرنس في أقصى شمالها وعاشوا فيها نحو ثمانية قرون شيّدوا فيها لأنفسهم العمائر المختلفة من مساجد وقلاع وقصور، كما أنشأوا الصناعات المختلفة، ونعمت إسبانيا بسلام حقيقي. والواقع أنّ تأثير الحضارة الإسلامية في الأندلس كان قوياً وعميقاً سواء خلال فترة وجود المسلمين في البلاد أو بعد خروجهم منها. ففي الحالة الأولى كان بعض الإسبان ممن عاشوا في ظل الدولة الإسلامية ردحاً من الزمن قد أخذوا يهاجرون حاملين معهم بذور الحضارة الإسلامية وأسرار الفنون الزخرفية، ونشروا تلك الأسرار في البلاد التي استقروا فيها. وفي الحالة الثانية أي بعد خروج المسلمين من الأندلس،فإنّ مظاهر هذه الحضارة الإسلامية بقيت شاهداً على روعة الإنجازات الضخمة التي حقّقها الوجود الإسلامي. كما أنّه نشأ على أكتاف المستعربين والمدنيين المسلمين الذين بقوا في إسبانيا بعد خروج المسلمين منها، الطراز الوطني الإسباني الذي استحدثت منه الفنون الأوروبية الشيء الكثير. ولعبت التجارة دوراً مهماً في تحضّر أوروبا على أيدي التجار المسلمين، وما العثور على العملات والنقود الإسلامية في أماكن مختلفة من أوروبا إلا دليل على تغلغل التجارة الإسلامية في أوروبا. وهذا ما نراه من خلال وجود بعض الكلمات ذات الأصل العربي في اللغات الأوروبية مثل كلمة «Cheque» المأخوذة من كلمة صك العربية، وكلمة «Magasin» المأخوذة من كلمة مخازن العربية. كما نلاحظ في بعض المنسوجات أسماء عربية الأصل، وقد أقبلوا عليها وسموها في لغاتهم بأسمائها العربية سواء كانت هذه الأسماء مستمدة من طبيعتها مثل القماش الذي أطلقوا عليه كلمة «Chiffon» فقد كان في الأصل يشفّ عما تحته فأخذوا هذه الكلمة من كلمة شفّاف العربية، ومثل كلمة «Ricano» المشتقة من كلمة رقم العربية. وفي صناعة الخزف كان فضل المسلمين عظيماً، فقد تعلّم أهل الأندلس في العصر الإسلامي معظم أنواع الخزف الإسلامي. وأثّرت هذه الصناعة أيضاً في صناعة أوروبا. ويكفي أن نذكر الغطاء المذهّب الذي تعلّمه الإيطاليون من الأندلسيين في العصر الإسلامي، ومن إيطاليا ذاعت صناعته في كل أنحاء أوروبا. ومن الكلمات التي انتشرت في أوروبا ولها صلة بالخزف الإسلامي كلمة «Albaro» المأخوذة من الكلمة العربية البرنية، التي كانت تطلق على القدر الصغير التي كانت تُصدّر إلى أوروبا من الأندلس حاملة في جوفها النباتات الطبية. وأبلغ الأثر للحضارة الإسلامية في حضارة أوروبا هو دخول صناعة الورق التي تعلمها مسلمو الأندلس من الشرق الإسلامي ونقلوها إلى أوروبا، وقد بدأت هذه الصناعة في إيطاليا وعرفتها فرنسا وألمانيا وإنكلترا. وقد بدأت في أوروبا صفحات مشرقة بفضل دخول الصناعة إليها. ولولا الورق ما تطورت الطباعة وانتشر الكتاب. وللحضارة الإسلامية فضل على الكتاب الأوروبي يتجلّى في فن التجليد الذي تعلّمه الأوروبيون من المسلمين في الأندلس. ولا بدّ هنا من أن نعرّج على تأثير العرب في كثير من الكنائس الفرنسية، ويُنقل عن لوندرمان الذي هو حجة في هذه الموضوعات أنّ تأثير العرب واضح في كثير من الكنائس الفرنسية ككنيسة مدينة ماغلون 1178م، وكنيسة كاندة لامين ولوار، وكنيسة غاماش (سوم) ونستشهد برأي بريس الأفيني المتخصص في فن العمارة الغربي الذي قال»: إنّ النصارى أخذوا عن العرب الأبراج الرائعة التي استخدمها الغرب بكثرة حتى أواخر القرن السادس عشر من الميلاد. كما أنّ أعظم جسور نهر التيمس واسمه «Heycham»، أنشأه مهندس عربي وسماه على اسم الخليفة الأندلسي هشام الثاني. كما أنّ قباب الكنائس الكبرى في بافاريا من صنع العرب. والأسطول البحري الهولندي العظيم الذي قهر العمارة الإنكليزية على الشواطئ الإسبانية في معركة ليزبونة عام 1152م من صنع العرب. أما قائده فهو أميرال البحر طارق. إنّ مصانع الأندلس كانت تمد كل الدول الأوروبية بمختلف أنواع الأسلحة والورق. إنّ علوم الطب والصيدلة والجبر والفلك والكيمياء والجغرافيا في أوروبا قامت على أسس عربية صحيحة. أما النقطة الثانية في هذا البحث فهي موقف العرب الفاتحين من المستعربين النصارى، فالمجتمع الأندلسي كان يتألف من عناصر اجتماعية مختلفة في الدين والعرف والتقاليد والثقافات أيضاً. السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل كانت الدولة الإسلامية في الأندلس متعصبة، أم أنّ المسلمين كانوا متسامحين مع غيرهم من الفئات الاجتماعية الأخرى، بخاصة النصارى المستعربين؟؟ للإجابة عن هذا السؤال نشير إلى أنّ موقف العرب من المستعربين لا يخلو من التعقيد، أي أنّ هناك بعض الحالات التي اتسم بها موقف السلطة الإسلامية بالتشدد إزاء النصارى، ولكن لا نستطيع أن نعمم ذلك على النسق العام الذي صارت إليه علاقة السلطة بالنصارى المستعربين. من هنا فإنّي سأسوق بعض الأمثلة والأدلة التاريخية التي تتحدث عن تسامح العرب المسلمين في بلاد الأندلس، مع بيان بعض الحالات التي اتسمت بها مواقف السلطة بالتشدد إزاء النصارى. الأمثلة التاريخية هي التي تحدّد صورة الإسلام الحقيقية في بلاد الغرب زمن الوجود الإسلامي في الأندلس، حيث إنّ بلاد الأندلس بصفة خاصة هي من أكثر المناطق التي تجسد فيها التعايش بين المسلمين مع غيرهم من أصحاب المذاهب الأخرى والتي تعترف بالآخر المخالف في الرأي والمبدأ والإقرار له بحريته الدينية والمذهبية، وذلك امتثالاً لقوله تعالى «لا إكراه في الدين» وقوله «ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون». بناء على ذلك، تعامل المسلمون مع النصارى المستعربين وفقاً لما حدّدته المرجعية الفقهية التي تنص على ضمان الأرواح والأعراض وأماكن العبادة، مع الاحتفاظ بدينهم وممتلكاتهم مقابل دفع الجزية على من يقبل العيش تحت سلطة الدولة الإسلامية. أما بالنسبة إلى الشريعة الإسلامية، فلم تطبق على النصارى المستعربين لأنّها لم توضع لهم. فمثلاً كانوا لا يدفعون سوى عشر التجارة والجزية، بينما هم مُعفون من الزكاة والصدقات، وكانت الجزية تساوي ما يدفعه المسلم من الصدقة، وأُعفي من الجزية الصبيان والنساء والمساكين وذوو العاهات والرهبان. إنّ الأمثلة التي تدل على تسامح المسلمين في بلاد الأندلس كثيرة ومتعددة، وقد لا يتسنى حصرها جميعاً لكثرتها. لكننا سنتوقف عند نقطتين تبينان تسامح المسلمين مع المستعربين مدعمتين بالحجج والقرائن. منذ بداية الفتح الإسلامي، كفلت السلطة الإسلامية الحرية الدينية، واستمر هذا الأمر خلال عصر الولاة والإمارة والخلافة. بل إنّ التسامح الديني تجاههم بلغ ذروته في عصور ملوك الطوائف. والدليل على ذلك انتشار الكنائس في طول بلاد الأندلس وعرضها، حيث استمرت الكنائس المسيحية في قرع أجراسها ونواقيسها. عبّر عن هذه الظاهرة المؤرخ الأندلسي «ابن حزم» في بيت من الشعر قال فيه: «أتيتيني وهلال الجو مطلع قبيل قرع النصارى للنواقيس». وأيضاً مما يؤكد الحرية الدينية التي تمتّع بها النصارى (المستعربون)، أنّ ثوب القداس الذي كان يرتديه القديس جوان دي أروتيغا كان يحمل اسم الأمير علي بن يوسف، وهو الثوب الذي لا يزال محفوظاً في إحدى كنائس برغس. ولكن تبقى أصدق الأدلة التاريخية وأكثرها تعبيراً عن التسامح هي معاهدات الاستسلام التي تمّ توقيعها بين الطرفين عند فتح الأندلس، حيث ركّزت على نقطتين أساسيتين: الأولى: تتعلق بالحقوق الفردية من احترام حياة الفرد والأسرة والمحافظة على الدين. الثانية: تتمثّل في القانون الإداري أي الاعتراف بالملكية الخاصة والجماعية وبالكنيسة وتحديد الجزية، وبذلك يصبح المعاهدون محميين بواسطة القوانين الإسلامية. ولعل من أهم تلك المعاهدات كتاب الصلح الذي أرسله عبدالعزيز بن موسى بن نصير إلى تادمير صاحب أريولة حاكم مرسية القوطي سنة (94 هجرية\ 713 م) والذي أعطى فيه للأمير ومن معه الأمان والحماية التامة على أنفسهم وأموالهم، كما أعطيت لهم الحرية التامة في عدم ترك دينهم، وأن تبقى لهم كنائسهم، وذلك مقابل التزامهم بدفع ضريبة محدد بعضها نقداً وبعضها عيناً وأن لا يكتموا خبر عدو. أيضاً مما يؤكد الحرية الدينية، تلك المؤتمرات الدينية التي كان يعقدها النصارى بين فترة وأخرى، فمن هذه المؤتمرات مؤتمر إشبيلية الذي عقد سنة (86 هجرية\ 782 م) والمؤتمر المسيحي في قرطبة سنة (238 هجرية\ 852 م). كما عمل الأمير عبدالرحمن الثاني على عقد مجمع ديني في قرطبة يضم جميع أساقفة الأندلس برئاسة مطران إشبيلية ريكافريدو سنة (238 هجرية\ 852 م). إنّ النسق العام الذي تميّزت به علاقة المسلمين بالنصارى المستعربين في الأندلس قد اتسم بالتسامح والتصالح معهم، على رغم وجود بعض الحالات التي اتسم بها موقف السلطة بالتشدد إزاء النصارى. لعل من نتاج التسامح الذي سنّه المسلمون في الأندلس منذ عهد الولاة وحتى آخر حكم بني الأحمر، فتح حوار هادئ بين المسلمين والنصارى حول أمور تتعلق بالدين الإسلامي مما أدى في بعض الأحيان إلى توتر عنيف نتيجة تجاوز بعض النصارى المستعربين حدودهم، ومع ذلك ظلت أجواء التسامح والتعايش الاجتماعي والديني مستمرة مع المستعربين، ف «ابن لبابة» سئل عن رجل مسلم يعلم أولاد النصارى القرآن، كما سئل «ابن لبابة» أيضاً عن رجل كان يؤم القوم في رمضان... فلما قضوا رمضان قال للقوم صليت بكم وأنا نصراني ثم غاب عنهم. قد لا تعوزنا الأدلة التاريخية في إبراز مدى احترام المسلمين لحقوق المستعربين الاجتماعية، منها أنّهم لم يمنعوا المستعربين من تناول الخمور، والرواية التاريخية أثبتت ذلك. كل هذه القرائن تعكس مدى التسامح والتعايش المشترك بين شعوب الديانات في الأندلس، وهذا ما اعترف به بعض الكتّاب المحدثين منهم ليفي بروفنسال حيث يذكر أنّه لم يجد أي مظهر للكراهية والتعصب خلال عصر الخلافة تجاه النصارى والمستعربين. في حين يعترف سيمونت، وهو من متعصبي المدرسة الإسبانية التقليدية، بمساواة المستعربين لغيرهم من الطوائف في الحقوق. * كلمة ألقيت في مؤتمر «اللقاء المسيحي - الاسلامي / التحدي الحضاري / الاسلام والمسيحية رسالة سلام» الذي عُقد في مدينة Avila الإسبانية.