حتى وقت قريب، كانت فكرة البحث عن عمل أو وظيفة في مناطق الصحراء الجزائرية، أشبه ما تكون بالعقاب القاسي أو حكم الإعدام في ذهن الكثيرين من شباب الشمال الذين يحلمون بأن يقطعوا البحر سراً أو علناً باتجاه أوروبا لتحقيق أحلامهم بالثراء. فكيف لهم أن يغوصوا آلاف الكيلومترات في أعماق الصحراء بعيداً من الأهل ومغريات الحياة، وبحثاً عن فرصة عمل ضاقت بها ولايات الشمال؟ لكن ضنك العيش، لم يدع مجالاً للتفكير، وأجبر المئات من الشباب على الذهاب إلى الصحراء بعد أن أغلقت أوروبا أبوابها، لا سيما في زمن الإرهاب. أما وقد عاد الأمن، فسرعان ما تحولت"المغامرة المنبوذة"في أعماق الصحراء بكل مشاقها وأخطارها، إلى حلم صعب المنال لآلاف الشباب الذين عادوا يتوقون للظفر بمنصب عمل في إحدى الشركات البترولية في مناطق الجنوب، لما توفره من أجور مغرية. ويقول يسين 30 سنة، وهو جزائري مقيم في الإمارات العربية المتحدة، ويعمل في شركة بترول عالمية:"أنا مقيم في دبي منذ 5 سنوات، والفضل يعود لسنوات الشقاء التي صبرتها في عمق الصحراء الجزائريةپ! فبعد تخرجي من معهد البترول في بومرداس لم أشأ الاستسلام للبطالة أو أحلام الهجرة. وافقت على أول فرصة عمل أتيحت لي في منطقة حاسي مسعود 400 كيلومتر جنوبالجزائر في التسيعينات، حينما كانت المناطق البترولية عرضة لتهديد دائم للجماعات الإرهابية، فكنت أعمل مع شركة أجنبية، وأعيش بين نارين: الإرهاب الذي يهدد كل من يعمل مع الأجانب في حقول البترول، والذي أجبرنا على الخضوع لنظام أمني صارم جداً لا يسمح لنا بمغادرة المنطقة كثيرا. وفي المقابل، كنت أعاني من قسوة المعيشة في الصحراء، وفي منطقة بترولية معزولة، بعيداً من الأهل لأسابيع طويلة، على رغم توافر كل ضروريات الحياة". ويتابع يسين الذي عاد لقضاء إجازة الصيف في الجزائر قائلاً:"أعترف أننا كنا نتقاضى أجوراً مغرية تفوق 1000 دولار أكثر من 10 آلاف دينار جزائري، لأنه لم يكن هناك إقبال على العمل في تلك الظروف. وهي أجرة قد تبدو ضئيلة اليوم، لكنها مغرية بالنسبة الى الشباب الجزائري في تلك الفترة، لكن الثمن كان باهظاً أيضاً، إذ لم يكن الكثير من الشباب يقبلون العمل في الصحراء، فما بالك في زمن الإرهاب. أما أنا فلم يكن لدي خيار آخر، سوى المغامرة. وحينما أتيحت لي فرصة المشاركة في دورة تدريبية في دبي، بتوصية من الشركة التي كنت أعمل فيها، لم أشأ العودة وقررت الاستقرار هنا نهائياً، لأن الراتب أكثر إغراء". وفي المقابل، يبدو محمد 30 سنة أقل حماسة للعمل في المناطق البترولية التي قضى فيها 3 سنوات، قبل أن يعود ليستقر تفكيره على الهجرة مجدداً:"صحيح أن العمل في المناطق البترولية في الصحراء قد يبدو أفضل خيار حالياً لكثير من الشباب الجزائريين، لما توفره الشركات هناك من رواتب مغرية، وبالنظر الى نظام العمل الذي يسمح بالعمل 4 أسابيع والاستراحة أربعة أخرى، كما هو معمول به لدى معظم الشركات، لكن في المقابل، ثمة جانب خفي لعالم المناطق البترولية هو أنه محفوف بالمخاطر التي يجهلها كثيرون". ولدى السؤال عن الأسباب، يرى محمد أن سردها يطول، مكتفياً بذكر أبرزها بكثير من التهكم والسخرية والأسى في آن:"حينما تعمل في شركة بترولية أجنبية يخيل إليك أنك تتقاضى راتباً مغرياً، لكنه لا يساوي شيئاً في مقابل بلايين الدولارات التي تساهم في ضخّها من أحواض البترول بلادك ليكتنز بها المستثمر الأجنبي! والأهم أنك لا تستفيد من التأمين مدى الحياة، فأغلب الشركات لا توقع على عقود الضمان الاجتماعي. وحينما تتعرض لحادث خطير، تكتفي الشركة بضخّ بعض الأموال في جيبك، لكنها لا تضمن لك راتباً مدى الحياة، وقد لا تعود إلى منصبك إذا قدرت الشركة أن الحادث سيقلل من أدائك المهني، وليس لك حينها أن تشكو إلا لله!". ويضيف:"أنت كجزائري، ومهما كانت درجة الشهادة التي تحملها من معاهد الجزائر، تعامل كموظف من الدرجة الثانية أمام الموظف الأجنبي الذي تستقدمه الشركة البترولية الأجنبية، فراتب معظم العمال الجزائريين في المناطق البترولية أقل ب 3 إلى 4 مرات مما يتلقاه العامل الأجنبي، حتى لو كنتما تملكان الدرجة نفسها من الكفاءة العملية والمهنية، لسبب بسيط لا تحاول أن تستفسر عنه، لأنه أجنبيپ! كما أن العامل الأجنبي يأتي للعمل بعقد رسمي وبالتراضي، أما الجزائريون فيعملون بعقود لا تتجاوز أحياناً كثيرة 6 أشهر، ويمكن للشركة أن تفصلك في أي وقت، بحجة أن مردودك غير مقنع، أو أنها عثرت على عامل آخر، من دون أن يكون لك حق الطعن!". هذه التحفظات والمآخذ تجعل الشاب موسى 24 سنة الذي يقضي معظم أيام السنة عاملاً موسمياً في ورشات البناء، ينفجر ضحكاً، قبل أن يقول:"طيب! اعطني البديل إن كنت تملكه! وهل هناك عمل ليس فيه مخاطر؟ أنا أعمل في ورش البناء هنا في العاصمة كلما عثرت على وظيفة موقتة تنتهي بانتهاء الأشغال وأعود لرحلة البحث عن عمل في ورش جديدة. وفي عملي أتعرض لكل أنواع المخاطر التي قد تتخيلها، كلما تسلقت أعمدة الحديد والطوابق، أسلم نفسي للقدر الذي قد يهوي بي من فوق! حياتنا أصلاً مخاطرة، لكن على الأقل في المناطق البترولية أنت تخاطر بثمن". ومهما تضاربت الآراء، تبقى المناطق البترولية في الجزائر توفر أفضل فرص العمل لكثير من الشباب، ما جعل المنافسة تحتدم يوماً بعد يوم بين الشركات البترولية على استقطاب اليد العاملة الرخيصة في معظم الأحيان! إنها إحدى مفارقات الحياة في الجزائر، وإحدى الدروس التي لقنتها سنوات الأزمة لكثير من الشباب الذين كانوا يرون في أوروبا"ملاذهم الوحيد"نحو حياة أفضل، ولم يكونوا يتقبلون أبداً فكرة العمل في الجنوب، الذي كان يعني لهم بكل بساطة العودة إلى الوراء، ومكابدة قساوة الطبيعة بعيداً من الأهل. وساهمت السلطات في تكريس هذه القناعة"الخاطئة"بسبب إهمالها وتقاعسها عن تنمية مناطق الصحراء الغنية بالبترول. لكن"ثورة الغضب"التي أشعلها شباب الجنوب في السنوات الأخيرة مطالبين بفرص عمل والأولوية في التوظيف في شركات البترول الأجنبية، وأمام استمرار تدفق البترول من عمق الصحراء، تفطن المسؤولون لهفوتهم، وأعلن الرئيس بوتفليقة تخصيص 377 مليار دينار لتنمية المناطق الجنوبية التي تضخ بلايين الدولارات على الخزينة من النفط،"مصدر ثراء الجزائريين"وپ"بؤس سكان الصحراء"! من جانب آخر، وفي مقابل الإغراءات التي تمنحها الشركات النفطية للشباب، فإن ممارسة مهن أخرى في مناطق الصحراء الجنوبية لا يزال يلقى تحفظاً كبيراً من قبل شباب جزائريين، وبخاصة القاطنين منهم في الشمال، وفي مقدمها مهنة الطب. فولايات الجنوب تعاني عجزاً رهيباً في الأطباء. ولأجل ذلك حاولت الجزائر منذ استقلالها إقناع الأطباء الشباب المتخرجين من الجامعات بالتوجه إلى الصحراء لكن من دون جدوى، بسبب غياب المرافق والوسائل الضرورية من جهة، وقساوة الطبيعة والبعد الجغرافي من جهة أخرى. وعمدت الحكومة مؤخراً الى إصدار قانون جديد لم يدخل حيّز التطبيق بعد ويجبر طلبة الطب الشباب على العمل في الجنوب في السنوات الأولى بعد تخرجهم.