في منتصف الستينات، اتفقت البلدان العربية بصورة مبدئية على إقامة سوق عربية مشتركة، وعلى مدى اكثر من 40 سنة، لم تستطع هذه البلدان السير خطوة واحدة باتجاه تحقيق هذا المشروع الاقتصادي الكبير والمهم. وفي بداية القرن الحالي، توصلت البلدان العربية إلى اتفاق آخر ينص على البدء بالمرحلة الأولى للمشروع والمتمثل في إقامة منطقة للتجارة الحرة بين البلدان العربية، وهو ما يعني إلغاء الرسوم الجمركية على المنتجات العربية المصنعة محلياً أثناء انتقالها بين الحدود العربية. وعلى رغم مرور أربع سنوات على الموعد المحدد للبدء في إقامة"منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى"، إلا أن الأمور ما زالت تراوح مكانها، علماً أن هذا الشكل من التعاون الأولي أصبح سائداً في العلاقات التجارية الدولية خلال السنوات القليلة الماضية، بل إن اتفاقات مثل هذه وُقعت بين مجموعات وبلدان عدة لا يربطها ببعضها البعض سوى المصالح المشتركة والآفاق الاقتصادية والتجارية الإيجابية التي يُتوقع أن تتمخض عن اتفاقات مثل هذه. والغريب في الأمر أن البلدان العربية تحاول توقيع اتفاقات مماثلة مع الأعضاء الآخرين في منظمة التجارة العالمية، سواء في نطاق التعاون الأوروبي - المتوسطي أو الآسيوي. والعراقيل كثيرة وهي مشخصة ومفهومة، ومع ذلك لا يتم تجاوزها، إلا أن أهمها تكمن في غياب المهنية وهيمنة القرار السياسي العربي على كل ما عداه من قرارات ومصالح، فالكثير من المشاريع الاقتصادية المشتركة وصلت إلى نقطة الحسم النهائية وتوقفت عند ذلك من دون أن ترى النور. إن العصا السياسية العربية تقف مراراً بالمرصاد لوقف دوران العجلة الاقتصادية غير عابئة بحجم المصالح المشتركة وبالفرص الاستثمارية التاريخية التي تُفوت، وما يتبعها من ضياع للموارد وفقدان لمئات الآلاف من فرص العمل للمواطن العربي. وقد تسبب ذلك ويتسبب في تخلف الاقتصادات العربية، خصوصاً البنية الأساسية بين البلدان العربية، إذ لا توجد خطوط حديثة للسكك الحديد وطرق معبدة بمواصفات دولية وربط لشبكات الكهرباء ولا وجود لشبكة نقل الغاز الطبيعي ومنتجات النفط... الخ، علماً أن هذه المستلزمات والمتطلبات تُعد أساسية للاقتصادات الحديثة ومستقبل نموها. ويتسبب غياب ذلك أيضاً في عدم مواكبة التطورات والمستجدات في العلاقات الاقتصادية الدولية وتكامل واندماج البلدان ضمن تكتلات واتحادات اقتصادية تُحجّم فيها الخلافات السياسية إلى حدها الأدنى، بل تُنحى جانباً لاستبعاد إلحاقها الضرر بالمصالح الاقتصادية المشتركة التي تعطى الأولوية، على العكس مما يحدث في العالم العربي، حيث الأولوية دائماً لما هو سياسي. وبالتأكيد لا يمكن الفصل ما بين الاقتصاد والسياسة، إلا أن عدم الفصل يجب النظر إليه بمنظور إيجابي، أي بمعني تقديم الدعم السياسي لتعميق المصالح الاقتصادية المشتركة، وليس بمفهومه السلبي، أي استخدام الأدوات السياسية والنفوذ السياسي للحد من النمو والتعاون الاقتصادي، كما يحدث في البلدان العربية. إن هذا الخلل الكبير في العلاقات العربية في حاجة الى معالجة مهنية راقية تؤدي إلى الحد من دور العصا لتفسح المجال أمام دوران العجلة الاقتصادية، خصوصاً أن المصالح المشتركة والفرص والإمكانات المتاحة، من رؤوس أموال وموارد طبيعية وكفاءات بشرية في البلدان العربية، كبيرة إذ يمكنها أن تؤدي إلى زيادة معدلات النمو وتوفير فرص العمل، فالبطالة في البلدان العربية تعتبر من أعلى المعدلات في العالم وهي في ارتفاع مستمر، بحسب بيانات الأممالمتحدة، إلى جانب تحسين مستويات المعيشة لدعم الاستقرار السياسي والاجتماعي في هذه البلدان. هذه العوامل وغيرها كافية لإعادة التفكير في الدور السلبي الذي تلعبه العصا السياسية في عرقلة دوران العجلة الاقتصادية بسبب غياب المهنية والتنسيق لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب، فالعالم يقف اليوم أمام تحولات كبيرة تحتل فيها المصالح الاقتصادية مساحة متزايدة الأهمية، فيما يملك العالم العربي قدرات كثيرة لم تُستغل بعد. * كاتب اقتصادي