يُنظر في العادة إلى الاقتصادين اللبناني والسوري على أنهما متمايزين أشد التمايز، كل واحد عن الآخر، بل في كثير من الأحيان يتم التأكيد على تباين كبير او حتى تناقض حاد بين الاقتصادين، إذ يكون لبنان بلد الحريات الاقتصادية والخدمات التجارية والمالية حيث لا تدخل للدولة في الاقتصاد لتوجيه وتأمين معدلات نمو عالية، بينما تكون سوريا بلد الاشتراكية او الاقتصاد الموجّه بكل معنى الكلمة من قبل الدولة بحيث لا حرية اقتصادية فيه، وتكون الدولة والقطاع العام هما المسؤولين عن تأمين معدلات النمو في الاقتصاد. هذه هي النظرة الجامدة التي تطغى عادة على الكتابات الاقتصادية عن كلا البلدين. ومن الملفت للنظر في هذا الخصوص ان التطورات الهائلة التي حصلت في كل من الاقتصاد اللبناني والسوري والتي غيّرت البنية الاقتصادية والاجتماعية للبلدين في العقود الأخيرة، لم تؤخذ في الحسبان، كما ان نظرتنا الحالية الى الاقتصادين لا تتناول فشل جهود التكامل الاقتصادي والتقارب في البنية التشريعية والادارية لهما، رغم التطور الكبير الذي ساد علاقة البلدين السياسية في العقود الأخيرة، وخاصة بين 1992 و2005. فقد كان لكل بلد ولا زال نمط تطور اقتصادي واجتماعي خاص به دون أي تأثير للأعداد الكبيرة من الاتفاقيات الاقتصادية الطابع التي تم وضعها بعد اتفاق الطائف لتنظيم العلاقات الاقتصادية في شتى المجالات بين البلدين، بموازاة تنظيم العلاقات السياسية المكرسة في معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق الموقعة في 22 أيار 1991 وفي اتفاقية التعاون والتنسيق الاقتصادي والاجتماعي الموقعة عام 1993. ان أية نظرة الى مستقبل الاصلاح الاقتصادي في البلدين وأبعاده الإنمائية تتطلب الأخذ بعين الاعتبار هذا الوضع الجامد الذي لم يتغير منذ عهد الاستقلال فيهما، على الرغم مما حصل في العالم من انتشار التكتلات الاقتصادية والأسواق المشتركة والعمل على جعل التشريعات الاقتصادية والمالية والضريبية متجانسة بين البلدان المجاورة، على غرار السوق الأوروبية المشتركة التي تحوّلت الى اتحاد اوروبي، او في منطقتنا العربية إنجازات مجلس التعاون الخليجي. لذلك قد يكون من المفيد تحديد مواقع الإصلاح الضروري في كلا البلدين، مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة التطور نحو بيئة مالية واقتصادية متجانسة بينهما وتنشيط علاقات الشراكة بين المنشآت الاقتصادية اللبنانية والسورية لزيادة القدرة التنافسية للاقتصادين معاً، ولكي يشعر أخيراً اللبنانيون والسوريون بأن تكثيف العلاقات الاقتصادية والمالية بين البلدين يؤدي إلى تغيير نوعي في مستوى معيشتهم وإلى القضاء على نسب البطالة العالية وهجرة الأدمغة والكفاءات. فالجدير بالملاحظة أنه بالرغم من العقود التي مرت، حيث ارتبط المصير السياسي والأمني والعسكري في البلدين، لم يشعر الشعبان بأن هذه العلاقة كانت ذات فائدة في حياتهم الخاصة، بل ربما نبع جزء من المآخذ المتبادلة من علاقة اقتصادية غير صحية تجسّدت في تذمّر اللبنانيين من اليد العاملة السورية الرخيصة الكلفة من جهة وتذمر السوريين من سوء معاملة هذه اليد العاملة في لبنان من جهة أخرى. وتجدر الإشارة الى ان هذا الوضع ليس بالجديد إذ ان تاريخ العلاقات الاقتصادية السورية اللبنانية مليء بالشكاوى المتبادلة منذ استقلال البلدين. وهذا ما أدى على سبيل المثال الى الغاء الوحدة الجمركية والنقدية عام 1950 التي تركها الانتداب الفرنسي بعد خروجه من لبنان عام 1943(1). وقد كانت الشكوى اللبنانية في ذلك الحين تتناول سعر الحبوب وكميتها ونوعيتها مقارنة بالأسعار العالمية، والشكوى السورية تتعلق بالفائض التجاري اللبناني في التبادل بين البلدين، وذلك بسبب سماح لبنان باستيراد منتجات أجنبية رخيصة الكلفة تضارب على الإنتاج السوري. ويبدو أن القيادات السياسية في البلدين كانت تتأثر إلى أبعد الحدود بالضغوط التي يمارسها رجال الأعمال على الحكومتين. وكان يتحول صراع المصالح المادية الضيقة إلى صراع يأخذ الطابع السياسي الحاد ويخلق التوتر المتصاعد، ويؤجج قومية قطرية ضيقة في كل من البلدين، دون أن تعي القيادتان السياسيتان مدى خطورة ترك العنان للمصالح الخاصة على حساب المصلحة القومية المشتركة، ومن دون أن يصار إلى حوار رصين ومنطقي يركز على ما يجب فعله بغض النظر عن تلك المصالح، ليس فقط للحفاظ على الوحدة النقدية والجمركية، بل لإعادة تأسيسها وتعميقها على أسس سليمة تراعي مصلحة الشعبين، الاقتصادية والاجتماعية. لكن في تلك المرحلة التاريخية، فلم تكن للقيادات السياسية في البلدين اية نظرة اقتصادية واجتماعية شاملة للسياسات الواجب تطبيقها بشكل منتظم ومتناسق بين البلدين لتسريع التنمية وإخراج الشعبين من حالات التخلف والفقر والتهميش، خاصة في فترة أخذت فيها معدلات نمو السكان تتزايد بشكل ملحوظ دون توفير فرص العمل الكافية، بشكل خاص في الأرياف اللبنانية والسورية، مما أدى إلى هجرة عشوائية من الريف إلى المدن دون ان تكون للدولتين القدرات الكافية لاستيعاب هذه الأعداد الهائلة من الريفيين وتوفير فرص السكن والخدمات الأخرى المختلفة التي يحتاج اليها من يقطن المدينة. وفي مرحلة ثانية من التباعد والتنافر، ازدادت الهوة في النظرة الى السياسات الاقتصادية الواجب تطبيقها في كل من لبنان وسوريا وذلك باعتماد لبنان بشكل علني نظاماً ليبرالياً مفرطاً في ليبراليته تسيطر عليه الفئات الثرية من التجار وأصحاب المصارف والثروات العقارية، بينما اتجهت سوريا، خاصة في الستينيات من القرن الماضي إلى اعتماد سلة من الإجراءات الاشتراكية الطابع ومنها التأميمات ومراقبة حركة النقد الأجنبي والتحويلات مراقبة مطلقة واعتماد مزيد من اساليب الحمائية وتعميم نهج تدخل الدولة في كل ميادين الاقتصاد وتوسيع رقعة القطاع العام كعنصر محوري في عملية التنمية. ومن جراء هذه الهوة الشاسعة بين السياسات الاقتصادية المطبقة في كل من البلدين تفشت آفة التهريب في العلاقات التجارية والمالية بين لبنان وسوريا. فقد كانت تهرّب من لبنان إلى سوريا المنتجات الصناعية الغربية الممنوع إدخالها إلى سوريا او التي كانت تخضع لرسوم جمركية عالية أو إلى تقييد الكميات المستوردة، وتهرّب من سوريا إلى لبنان المواد التموينية الغذائية والنفطية المدعوم سعرها من الدولة، والعملة السورية لتحويلها إلى ليرات لبنانية او دولارات في سوق بيروت، ومن ثم ودائع مصرفية في المصارف المحلية اللبنانية، يتعذر الاطلاع عليها بفضل السرية المصرفية الصارمة المطبقة في لبنان. بدأ الوضع يتغير تدريجياً في سوريا ابتداء من الحركة التصحيحية التي قام بها الرئيس الراحل حافظ الأسد في 16 تشرين الثاني 1970. لكن الخطى كانت بطيئة ولم تدخل سوريا مرحلة التحرير الاقتصادي المتأني والتدريجي إلا مع بداية الألفية الجديدة وفتح المجال للاستثمار الأجنبي الخاص في قطاعات عديدة، ومنها بشكل خاص القطاع المصرفي. أما في لبنان، إثر الحرب الشعواء التي أصابته خلال الفترة الممتدة ما بين 1975 و1990 وما خلفته من دمار وتهجير وخوات فرضتها الميليشيات اللبنانية على اقتصاد البلد، لم تدخل حكومات ما بعد الطائف في أية عملية إصلاحية في الاقتصاد اللبناني، خارج إعادة بناء البنية التحتية بأكلاف عالية للغاية وخارج إطار أية شفافية وأية نظرة بديلة إلى مستقبل الاقتصاد اللبناني عن النظرة السطحية الداعية إلى العودة الى الليبرالية القديمة نفسها الهادفة إلى جعل لبنان جنة ضريبية ونوعاً من مونتي كارلو الشرق للأثرياء العرب من دون الأخذ بالحسبان ما دمرته الحرب من مؤسسات انتاجية، وبالتالي فقدان فرص العمل، ودون القيام باي اقتطاع ضريبي استثنائي على من راكم الثروات بطريقة غير شرعية من خلال أعمال النهب والسرقة والخوات المفروضة على الشعب التي مارستها الميليشيات اللبنانية، بل على العكس فقد أقدمت الحكومة اللبنانية على تخفيض نسبة الضريبة على الدخل الى عشرة بالمئة، كحد أعلى، وأدخلت البلاد في حالة من الفلتان المالي والصفقات والمضاربات العقارية والمالية، اغتنت من ورائها قلة من اللبنانيين. وقد نتج عن هذه الحالة تراكم مديونية عامة هائلة تمثل اليوم 180 بالمئة من الناتج المحلي وثمانية أضعاف ما أنفق على الإعمار. وأصبح الاقتصاد اللبناني يتميز بهدر كبير في قدراته التنافسية يتجسد في هجرة الأدمغة وهدر ثروة المياه والتربة الخصبة والتعدد البيولوجي وروعة البيئة والمناظر، وذلك باستغلال عشوائي للموارد الطبيعية للبلاد بأبخس الأثمان. أما الاقتصاد السوري من جهته، فإذا كان قد ابتعد عن الأساليب الماضية في سيطرة الدولة والقطاع العام الكاملة على الاقتصاد وإدارته إدارة مركزية وبيروقراطية، فلا يزال لا يستغل هو بدوره كل قدراته التنافسية وما يزال يعاني من البطالة المباشرة او المقنعة ومن تفاوت كبير في توزيع الثروات والمداخيل ومن غلاء المعيشة للفئات المحدودة الدخل او الفقيرة. لذلك لا بد من تحديد مواقع الإصلاح في كلا البلدين في نظرة شاملة تهدف الى إعادة تأهيل الاقتصادين معاً لكي يواجها بالتالي التحديات المحلية والإقليمية والدولية بكفاءة أعلى وباستنفار القدرات التنافسية التكاملية في ما بين الاقتصادين والتي لا تزال مهملة حتى الآن. ونحن نرى من هذا المنظار أنه يتوجب أولاً النظر إلى السمات السلبية المشتركة لاقتصاد كل من البلدين لكي نستخرج من مثل هذه المعاينة السبل الكفيلة بالوصول إلى الإصلاح الاقتصادي بشكل متناسق في البلدين وزيادة القدرة التنافسية في جو من التكامل المبني على نظرة دقيقة إلى قدرات البلدين في إطار تعاون حقيقي ومثمر يُشعر الشعبين بتحسن مستويات معيشتهم بفضل مثل هذا التعاون الإصلاحي والتكاملي المشترك. الاتكال المفرط على تدفق الأموال من الخارج لسد العجز الهائل في ميزان العمليات الجارية. إن الاقتصادين اللبناني والسوري أصبحا متكلين اتكالاً كبيراً على أنواع مختلفة من التدفقات المالية الآتية من الخارج لسد العجز الكبير في الحسابات الخارجية. وهذه التدفقات تشمل بالدرجة الأولى تحويلات المغتربين، ومن ثم المساعدات الخارجية والاستثمارات الأجنبية، وهي بشكل رئيسي استثمارات عربية، خليجية المصدر، تتركز بشكل كبير في القطاع العقاري عبر شراء أهم العقارات في المدن اللبنانية والسورية، وبشكل خاص عاصمتيهما، وبناء الفنادق والمساكن الفخمة لكبار الأثرياء المحليين والعرب. وقلّما تتوجه هذه الاستثمارات إلى القطاعات الإنتاجية لزيادة القدرة التنافسية في اقتصاد البلدين، كما أن لا وجود لاستثمارات عربية في سوريا ولبنان تهدف إلى إقامة تكامل اقتصادي إنتاجي بين البلدين. صحيح ان لبنان وسوريا لم يدخلا رسمياً في برامج تعديل بنيوي ممولة من صندوق النقد الدولي، إنما اختصر الإصلاح الاقتصادي في كلا البلدين بمتطلبات الاتحاد الاوروبي في إطار الانضمام إلى منطقة التجارة الحرة المتوسطية، وقد وجّهت إلى حد بعيد المساعدات المكثفة التي يقدمها الاتحاد الاوروبي الى لبنان وسوريا وسائر الدول المتوسطية مسار الإصلاحات المالية والاقتصادية في البلدين، وهي اصلاحات ترمي الى تحديث التشريعات والبنية القانونية والمؤسساتية من دون تناول مشاكل الاقتصاد الحقيقية. إن هذا الوضع ناتج عن تقصير السياسات الحكومية في البلدين لمواجهة التشوهات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة التي يعاني منها اقتصاد البلدين، مع الإشارة الى أن التشوهات مختلفة إلى حد بعيد في كل من لبنان وسوريا، ذلك أن مشكلة لبنان هي مشكلة رأسمالية وحشية، قليلة الأداء، مع تركز الاستثمارات بشكل شبه حصري في القطاع العقاري والمصرفي والفندقي، والاختلاط الكامل بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة منذ دخول نادي الأثرياء اللبنانيين في الحياة السياسية وتبوئهم مراكز مهمة في المجلس النيابي وفي السلطة التنفيذية. بينما تكمن المشكلة في سوريا في امتداد القطاع العام، خاصة في المجالات الإنتاجية وانعدام الشفافية في أدائه، مع الاشارة الى وجود رأسمالية انتاجية هامة في قطاع المنشآت الصغيرة والمتوسطة الحجم إلى جانب رأسمالية جديدة تزدهر بعلاقات قوية مع القطاع العام والدولة. ونتيجة هذه الأوضاع المشوهة في كلا البلدين، نمت منذ عقود وفي البلدين معاً الظاهرة الشاذة والمضرة للأداء الاقتصادي وهي هجرة الأدمغة والكفاءات المهنية والادارية التي أدت الى تردي مستويات الانتاجية العامة في البلدين، لكن، في المقابل، فإن تحويلات المغتربين اصبحت عنصرا اساسيا من التوازن المالي إلى درجة ان بدونها قد تتوقف العجلة الاقتصادية المحلية وتهبط مستويات المعيشة وتتوسع جيوب الفقر والتهميش ويتدهور سعر الصرف. ان هذه الاتكالية على كل هذه التدفقات الخارجية هي نتيجة العجز التنموي في كلا البلدين في تعبئة الموارد البشرية من أجل تعظيم الأداء الاقتصادي المحلي وتأمين استقلاليته عن مصادر التمويل الخارجية وتأثيرها على السياسات الاقتصادية المحلية. وقد تُرجم ايضاً العجز التنموي في إخفاق استغلال الموارد الوطنية المادية والبشرية استغلالاً شاملاً يؤمن القضاء على مستويات عالية من البطالة ومحدودية الدخل في كلا البلدين. السفير اللبنانية