تطفو مرة أخرى على السطح قضية توقيع بعض البلدان العربية اتفاقات للتجارة الحرة مع بلدان وتكتلات اقتصادية عدة في العالم. واكتسب هذا الموضوع أخيراً بعداً اقتصادياً واجتماعياً في الدول العربية، خصوصاً تلك الاتفاقيات الموقعة مع الولاياتالمتحدة الأميركية. وتعتبر دول مجلس التعاون الخليجي الأنشط في هذا المجال، اذ وقعت عدداً لا بأس به من هذه الاتفاقات. كما أنها بصدد توقيع اتفاقات أخرى في السنوات القليلة المقبلة، بما فيها اتفاق مع بلدان الاتحاد الأوروبي الذي استغرق التحضير له عقدين كاملين، إضافة الى المحادثات الجارية حالياً بين دول المجلس وكل من اليابان والصين والهند. مع ذلك، فان الاتفاقات مع البلدان الآنفة الذكر لم تستقطب اهتمام المعنيين في الشأن الاقتصادي، بمثل استقطاب ومتابعة الاتفاق المماثل الذي وقعته الولاياتالمتحدة مع الأردن والمغرب والبحرين تباعاً في السنوات الثلاث الماضية، في الوقت الذي تجرى فيه التحضيرات لتوقيع اتفاقات مشابهة مع كل من مصر وقطر والإمارات وعُمان. لماذا كل هذا الاهتمام باتفاقات التجارة الحرة مع الولاياتالمتحدة، حيث شهدت الأشهر الماضية نقاشات واسعة في الدول العربية المعنية، شارك فيها ذوو الاختصاص، مثل ما شارك فيها أفراد المجتمع. باعتقادنا، يرجع هذا الاهتمام الى عاملين أساسيين. يتمثل الاول في نظرة الشك في المجتمعات العربية لكل ما هو أميركي، نتيجة لتراكمات سنوات طويلة من انحياز واشنطن لإسرائيل. في حين يتمثل الثاني في الشروط الأميركية المتشددة وذات الطابع الاجتماعي والسياسي التي تحاول الولاياتالمتحدة فرضها عند توقيع اتفاقات التجارة الحرة مع بلدان العالم، ومع الدول العربية على وجه الخصوص. الحقيقة ان اتفاقات التجارة الحرة بين بعض البلدان العربية والآسيوية لا تحمل في طياتها أية شروط ومطالب سياسية، إذ تركز على تلبية متطلبات التجارة الحرة وانتقال السلع والخدمات بين هذه البلدان من دون رسوم جمركية أو عوائق. اما الاتفاقات التي ينتظر توقيعها قريباً بين بلدان مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي، فانها تتضمن بعض المطالب ذات الطابع غير الاقتصادي، الا أنها محدودة ودول المجلس قادرة على تلبيتها في المستقبل القريب، بل ان بعضها قد لبي بالفعل. المشكلة تكمن في الاتفاقات المماثلة مع الولاياتالمتحدة. فهناك مطالب معقدة تتعلق بالاتحادات المهنية والإصلاحات السياسية، التي ربما تكون بعض بلدان المنطقة غير مهيأة لها تماماً. على كل حال، هل البلدان العربية بحاجة لمثل هذه الاتفاقات، خصوصاً مع الولاياتالمتحدة؟ الجواب يحمل في طياته نظرة مستقبلية مهمة للغاية. فالبلدان العربية، والخليجية منها على وجه التحديد، بحاجة الى الاسواق لصادراتها المتنامية، خصوصاً من منتجات النفط والبتروكيماويات والألمنيوم. والولاياتالمتحدة باقتصادها البالغ 12.5 ترليون دولار أي ثلث الاقتصاد العالمي، وبعدد سكان يبلغ 300 مليون نسمة تشكل مصدراً تصديرياً مهماً، علماً ان اقتصاد البلدان العربية مجتمعة لا يتجاوز ترليوناً واحداً. في المقابل يزداد اعتماد اميركا على مصادر الطاقة المتوافرة في البلدان العربية، ما يعني ان المصالح المشتركة كبيرة وحيوية. وللاستفادة من الفرص المتوافرة لدى الطرفين، فان الأمر بحاجة لمد جسور الثقة المتبادلة من خلال المواقف المتزنة غير المنحازة للولايات المتحدة، وتغليب المصالح الاقتصادية على اطروحات صراع الحضارات الذي اث`بت عدم جدواه من خلال الصراعات الدائرة حالياً. العلاقات الأوروبية مع العالم العربي تعتبر نموذجاً يمكن للولايات المتحدة ان تقتدي به، بدليل الترحيب الكبير باتفاقات التجارة الحرة بين أوروبا والبلدان العربية والشكوك المثارة حول اتفاقات التجارة الحرة مع أميركا. الكرة في الملعب الأميركي. الا ان هذين الموقفين من الاتحاد الأوروبي وأميركا والمشار أليهما آنفاً، يعبران عما يمكن ان يخبئه المستقبل من احتمالات تتغلب فيها المصالح الاقتصادية على ما عداها من أفكار وتوجهات عقائدية متطرفة.