وضع تفجر الثروة النفطية في السبعينات واوائل الثمانينات امام العرب فرصة تاريخية نادرة لعملة تنموية تكاملية تنهي، او على الاقل تحد من غلواء التبعية والتخلف. لكن ما حل بالعرب من اضغاث أحلام الحقبة النفطية حول عملية التنمية الى عملية تبعية، أدى بها لان تنحصر بشكل رئيسي في خلق قطاع صناعي منعزل داخلياً ومتكامل خارجياً. وحيث ان البلدان العربية كانت وربما لا تزال تفهم ان التنمية تعني اللحاق بالغرب بكل ايجابياته وسلبياته فقد اصبحت تسعى كل منها على حدة لتحقيق اقصى قدر ممكن من المنفعة من السيولة النقدية المتوافرة في هذه الحقبة من دون الاخذ في الاعتبار عما اذا كان هذا المسعى يعيب ام لا في نهج العمل الاقتصادي التكاملي العربي. اضافة الى هذا فقد انصب العمل الاقتصادي القطري على تكوين اقتصاد خدمات ابرزها قطاعي المال والتجارة. ولا نغالي اذا قلنا ان الاقتصاد الوطني في معظم البلدان العربية تحول الى اقتصاد تسويقي للمستوردات الاجنبية، الامر الذي زاد اكثر من حدة التبعية وأدى الى تراجع نزعة التكامل الاقتصادي العربي الى الوراء. في ضوء هذا استفحلت عوامل التجزئة الاقتصادية العربية والانكفاء القطري وأصبح التمسك ب"السيادة الوطنية"عقبة رئيسية في وجه التكامل الاقتصادي العربي. اننا لا نغالي اذا قلنا ان الحقبة النفطية قد انعكست في أزمتين: ازمة التنمية العربية حتى القطرية منها وازمة التكامل الاقتصادي العربي. واذا كانت التنمية تعني من ضمن ما تعني تقسيم العمل داخل البلد الواحد وذلك بتنويع الهياكل الانتاجية وربط هذه الهياكل عضوياً بعضها بعضاً، ما سيؤدي الى بناء سوق محلية مستقلة، فان التنمية العربية التي عاصرناها حتى الآن لم تؤد الى شيء من هذا القبيل، لا على المستوى القطري ببناء السوق المحلية المستقلة ولا على المستوى الاقليمي بتقسيم العمل المخصص للاقليم في اطار التقسيم الدولي للعمل. وبهذا تكون التنمية العربية قد فشلت قطرياً واقليمياً في بناء سلسلة صناعية متكاملة داخل البلدان العربية واصحبت عملية نقل التكنولوجيا ليست اكثر من عملية نقل منتوجاتها. ان عملية التنمية الصناعية في البلدان العربية لم تفشل فقط في دفع عملية التكامل الاقتصادي، وانما كرست ايضاً وضع هذه البلدان في اطار تقسيم العمل الدولي، وعليه فان فشل التنمية الصناعية في البلدان العربية لم ينحصر فقط في عدم بناء ترابط بين اقتصادات البلدان العربية، بل تعداه الى تكريس انقسام هذه البلدان ودعم سياساتها التجزيئية والانعزالية. مما تقدم يتضح ان التنمية في البلدان العربية كانت عبارة عن مساقات عمل اقتصادي ادت الى اندماج اكبر لاقتصادات هذه البلدان في الاقتصادات الاجنبية وبالتالي الى تبعية اعمق لهذه الاقتصاديات العربية. ان علينا ان نستذكر ان"العمل الاقتصادي العربي المشترك"فهم منذ البداية على انه عمل بين دولة مستقلة حريصة كل الحرص على سيادتها القطرية ومبالغة الى درجة كبيرة في قضية الامن القطري. وان هذه الدول تفهم على ان اي عمل اقتصادي اقليمي ربما يكون تدخلاً في شؤونها الداخلية وانتقاصاً من سيادتها على ارضها. كذلك علينا ان نستذكر ان الجامعة العربية ليست اكثر من مجلس حكومات او انظمة قطرية وان باقي المؤسسات العربية وخصوصاً التمويلية منها قامت على انماط مؤسسات دولية اخرى. فالصندوق العربي للانماء الاقتصادي والاجتماعي قام على نمط البنك الدولي، وصندوق النقد العربي على نمط صندوق النقد الدولي وهكذا. وهذا يعني ان المنظمات العربية لم تخلق اصلاً كأجهزة لدفع عملية التكامل الاقتصادي العربي، وانما في احسن الاحوال للتعاون الاقتصادي ليس الا. نستخلص من هذا ان مسألة التكامل الاقتصادي العربي ليست في يد الشعوب العربية وانما في يد انظمة تحرص في الدرجة الاولى على مصالحها القطرية الضيقة وقد يفسر هذا في نهاية المطاف الحصاد المر لمسيرة التكامل الاقتصادي العربي حتى الآن. وهذا هو الاشكال الخامس. هناك كما رأينا عقبات كثيرة وقفت وتقف في وجه التكامل الاقتصادي العربي، منها ما هو موروث ومنها ما نتج عن الحقبة النفطية، وكلتاهما زادت من تعمّق التفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين البلدان العربية. فظهور بلدان الفائض وبلدان العجز ابان الحقبة النفطية، وبروز النمو غير المتكافئ بين هذه البلدان نتيجة لذلك ادى ليس فقط الى سوء توزيع الدخل قطرياً وانما ايضاً الى تفاوت شديد في معدلات الدخل الفردي بين بلد عربي وآخر. اضافة لهذا فان سوء استعمال الموارد البشرية والمادية وغيرها من عوامل الانتاج الاخرى والتي ابان الحقبة النفطية ادت الى انفجار انمائي الغى عنصراً مهماً من عناصر التكامل الاقتصادي العربي، اذ عمّق هذا الانفجار التبعية، وأدى الى ان تطفو على السطح التناقضات المغطاة بين البلدان العربية، الامر الذي اوصد الباب امام اي عمل تكامل اقتصادي عربي. لقد اصبح واضحاً الآن عدم فعالية الاجراءات التي اتخذت في مجال العمل التكاملي الاقتصادي العربي، سواء كانت هذه الاجراءات ادارية، كالمؤسسة الانمائية والتمويلية، او وظيفية كتحرير التجارة، وذلك ليس بسبب الخلل في هذه الاجراءات وحسب، وانما وهذا هو الأهم بسبب القيود الناجمة عن عوامل التخلف والتبعية، وأهمها حدة التفاوت في النمو الاقتصادي وحدة التبعية. كذلك فان انعكاس واقع العلاقات السياسية للبلدان العربية بعضها بعضاً على العلاقات الاقتصادية فيما بينها لا يشجع عملية التكامل الاقتصادي. والواقع ان تعثّر العمل التكاملي الاقتصادي العربي يعبر عن واقع العلاقات السياسية بين البلدان العربية وعن طبيعة الانظمة السياسية والاجتماعية لهذه البلدان. فمفهوم الاستقلال السياسي في السيادة الوطنية لبلد عربي ينعكس عادة على نواحي علاقات هذا البلد كافة مع البلدان العربية الاخرى وهو امر يصعب معه التنازل عن جزء من قراراته ليس على المستوى الوطني وحسب وانما ايضاً على المستوى العربي، لصالح تجمع اقليمي. واذا كنا نعي حساسية الدول العربية نحو قضية السيادة الوطنية، خصوصاً ان معظم، ان لم يكن كل، هذه الدول حديث الاستقلال، وان البعض منها لم يكن اصلاً موجوداً كدولة او كبلد بالحدود الدولية الحالية فانه من غير الجائز الموافقة على اتخاذ بعض الدول العربية قضية السيادة الوطنية كذريعة لعدم الذهاب الى ما هو ابعد من الحد الادنى في التعاون الاقتصادي العربي الذي يهدف اصلاً من ضمن ما يهدف الى دعم الوضع التفاوضي لهذه الدول مع العالم الخارجي. لذا يمكننا القول ان الفهم"الخاص"لبعض الدول العربية لقضية السيادة الوطنية يعيق العمل باتجاه التكامل الاقتصادي العربي. وهذا هو الإشكال السادس. لكن علينا أيضاً ان نقر أن الاختلاف في النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية العربية كان ولا يزال أحد أهم معيقات العمل التكاملي الاقتصادي العربي. فهذا الاختلاف يؤدي الى عدم الاتفاق على رؤيا محددة للصيغة المطلوبة للتكامل، ويؤدي ايضاً الى تفاوت في اختيار ادوات السياسة الاقتصادية والاجتماعية الضروريتين لعملة التكامل. كذلك فإن هذا الاختلاف يعيق بناء قاعدة تفاهم مشتركة بين الشرائح الاجتماعية كالنقابات المعنية بقضية التكامل. وفي التحليل النهائي، فإن هذا الاختلاف يضع حداً لما يمكن ان تصل اليه عملية التكامل. والغريب ان الاختلاف في هذه النظم اصبح ينعكس على العلاقات السياسية والاقتصادية الخارجية للبلدان العربية. فمثلاً اصبحت البلدان العربية ذات اقتصاد السوق، أو شبيهه، معبراً للشركات متعددة الجنسية الى اسواق عربية اخرى، بحيث اصبحت هذه الشركات تتحكم في هذه السوق أو أي قطاعات منها وتعيق بالتالي أي عملية تنمية أو تكامل ليست في صالحها. والغريب ايضاً ان بعض البلدان العربية يقوم بعمليات تغيير في هياكل اقتصاداته لربطها بشكل أقوى باقتصادات الدول الغربية، بينما لا يقوم حتى بالقليل من هذه الاجراءات لربط اقتصاداته باقتصادات دول عربية اخرى حتى مجاورة. كذلك فإننا نجد ان لهذه الدول من الاهتمام بما يجري على الساحة الاقتصادية الدولية اكثر منه بما يجري على الساحة الاقتصادية العربية. ولا نغالي اذا قلنا ان محاكاة هذه الدول لما يتم في اسواق الدول الصناعية يؤدي الى تحول سلبي من جانب هذه الدول نحو قضية التكامل الاقتصادي العربي. دعونا ايضاً نضيف ان ما نطلق عليه بالعمل الاقتصادي العربي المشترك هو عمل نابع اصلاً من اعتبارات سياسية وليست اقتصادية، خصوصاً اذا ما أخذنا في الاعتبار ان هذا العمل بحد ذاته لم يؤد الى خلافات سياسية بين البلدان العربية، اذ لم يكن في يوم من الأيام ملزماً لأي بلد عربي وانما اتسم بالتواضع الخجول في ضوء غياب الإرادة بالتنفيذ اذ اتخذت حجة السيادة القطرية ذريعة لذلك. وعليه فإنه لم ينجم عن العمل الاقتصادي العربي المشترك أي ادوات ضغط اقتصادية يمكن استخدامها ضد البعض لتنفيذ ما اتفق عليه والتزم به. يتصف الوضع العربي الراهن بغياب الديموقراطية في معظم البلدان العربية، ان لم نقل جميعها، الأمر الذي ينجم عنه غياب المشاركة الشعبية في صنع القرار السياسي وبالتالي في عملية التنمية والتكامل الاقتصادي العربي. في ظل غياب الديموقراطية لم تؤد التنمية الاقتصادية على مستوى البلد الواحد الى احداث تغييرات رئيسية في الهيكل الاقتصادي، ينجم عنها تغييرات في البنية الاجتماعية تؤدي الى تكوين تجمعات فئوية كالنقابات ذات المصالح المشتركة التي يمكن ان تصبح عامل ضغط باتجاه التكامل الاقتصادي العربي. ان المسؤوليات المرتبطة بقضية التنمية العربية هي اكبر من ان تضطلع بها دولة عربية أو منظمة عربية معينة. فالقضية اقليمية أو قومية اذا أردنا تستلزم ان تضطلع بها جميع البلدان العربية ضمن استراتيجية تنموية شاملة. والمؤسف ان ما بذل من جهد في قضية التنمية والتكامل الاقتصادي العربي لم يزل دون نتتيجة تذكر حتى الآن، على رغم انه لا يوجد بلد عربي الا ويعلن باستمرار عن أهمية التنمية والتكامل الاقتصادي العربي كضرورة لبناء أسس التقدم والازدهار. وعلى رغم ان القضية - كما اسلفنا - هي سياسية في المقام الأول، الا انه تبقى هناك مسببات عامة لهذا التطور، منها ان البلدان العربية لم تبلور بوضوح خياراتها لتحديد اهداف التنمية والتكامل، ولا أدوات هذه الأهداف، هذا اضافة الى انها وضعت نفسها في وضع تبعي وغير متكافئ مع الخارج وهذا هو الاشكال السابع. في ظل ما أصبح يطلق عليه بالنظام الدولي الجديد، حيث انتهى عنصر المجابهة العسكرية في رسم العلاقات بين قطبي النظام القديم وحل محلهن العنصر الاقتصادي في تحديد التوازن الدولي وتمحور النظام حول قطب واحد فقط، في ظل هذا النظام، حيث انتهت الحرب الباردة وترك ما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي الساحة للولايات المتحدة، تجد البلدان العربية نفسها موزعة بين مجموعات، منها من يتخذ جانب القطب الأوحد، ومنها من يحاول ان يرسم لنفسه خطاً فاصلاً عن هذا القطب ليبقي لديه مجالاً ولو محدوداً للحركة. وهناك مجموعة ثالثة ترى ان هيمنة هذا القطب تتعارض ومصالحنا الوطنية. ولا شك ان هذه التجزئة في الموقع السياسي للبلدان العربية في ظل هذا النظام تنعكس على الموقع الاقتصادي لكل من هذه المجموعات، بمعنى ان الفشل الذي ألم بمحاولات التنمية والتكامل الاقتصادي العربي ابان النظام الدولي القديم سيترسخ اكثر وتتعمق معه التبعية الاقتصادية للبلدان العربية. ان من الخطأ ان نتجاهل انه كان هناك دوماً تضارب في المصالح بين البلدان العربية ناجماً مثلاً عن حجة السيادة الوطنية وعن الاختلاف في النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية لهذه البلدان. لكنه ليس من الصواب ان تنعدم المحاولة الى ايجاد ولو قاسم مشترك واحد لهذه المصالح. ان المصالح العربية المشتركة تقتضي نظرة جدية اكثر الى عملية التكامل الاقتصادي العربي وذلك للوصول الى نتائج تجعلها تقوي المركز التفاوضي العربي امام المجموعات والقوى الاقتصادية الاجنبية. وقد يكون من المفيد ان نذكر ان النظام الدولي الجديد يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك ان جل هم الدول الغربية وعلى رأسها القطب الأوحد لهذا النظام هو التفرد بالنظام لإعاقة التطور والتنمية في دول العالم الثالث لضمان الهيمنة عليه واستمرار نهب ثرواته وبالتالي زيادة ترسيخ التبعية له. ان مما لا شك فيه انه على رغم ان البلدان العربية كانت، إبان النظام الدولي القديم، ذات انتماءات ايديولوجية وولاءات سياسية مختلفة، إلا انها تكيفت مع ذلك النظام وعايشت استقطابه واستفادت من ذلك الاستقطاب سياسياً بحيث جعلها قادرة على بعض الحركة والمناورة بين القطبين. وهذا يعني ان البلدان العربية أو بعضها كانت قادرة، الى حد ما، على التحكم في اختيار نهج مصالحها. اما في ظل النظام الدولي الجديد، فإن الكثير من البلدان العربية يجد نفسه في موقع التابع والمنفعل لما يجري في هذا النظام من تحولات، لا في موقع يستطيع معه ان يقرر ما يريد وما لا يريد. والمؤسف ان هذا الموقع العجزي اختارته هذه البلدان أو بعضها بنفسها. على أي حال، فإن فقدان الاستراتيجية العربية الشاملة - السياسية والاقتصادية - سيكون ذا أثر سلبي بعيد المدى في البلدان العربية كافة خصوصاً تلك التي اخذت بهذا الموقع طوعاً واختياراً. اقتصادي مصرفي مدير سابق لبرنامج النقد والمالية للجنة الأممالمتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا.