توزّعت مقاربات المثقفين العرب للحرب اللبنانية الإسرائيلية الأخيرة على اتجاهين عريضين. اتجاه ليبرالي واتجاه قومي إسلامي. غابت مقاربة ماركسية مستقلة، والماركسيون الذي تناولوا الحرب كانوا أقرب إلى التناول الليبرالي أو إلى التناول القومي الإسلامي. ونضرب صفحا عن مواقف نظم الحكم العربية والكتاب والصحافيين الذين عملوا على تسويقها، لكونها تفتقر للاتساق والتفكير الحر معا. نهمل كذلك المواقف الطائفية، مسيحية أو سنية، لافتقارها للاتّساق والحرية أيضا. بصورة عامة كانت مواقف التيار الليبرالي متحفظة حيال الحرب، يتجه تفضيلها الأساسي إلى وقفها الفوري، وتكرس غير قليل من اهتمامها للتعبير عن نفورها من الفوران الشعبوي الذي واكب الحرب. ويلقى هذا الميل الليبرالي المبدئي في عقيدة حزب الله اللبناني الدينية الصارمة ما يعززه. لقد أبدى الليبراليون العرب النقديون تمييزا عن تنويعة ليبرالية غثة ومحاربة وعقيدية وأميركانية الهوى، بوشية تحديدا، لا تثير"تحليلاتها"في النفس ما هو أقل من الغثيان اشمئزازا قويا من الهمجية الإسرائيلية، لكن موقفهم قائم على اعتبارات قيمية إنسانية ومتصلة بتصور للعدالة مجرد بعض الشيء، وليست قومية أو وطنية، أو دينية بالطبع. ولم يكن من الصعب تبين أن إدانة إسرائيل كانت في حالات متعددة من مقتضيات نقد حزب الله وجملة الخيارات السياسية والفكرية المرتبطة به. في الجذر العميق للموقف هذا أن الليبرالية العربية ذات هوى ثقافي غربي، وكل حرب في"الشرق الأوسط"تنشط عواطف مضادة للغرب ككل، وتستعيد صيغ خطاب وتعبئة مضادة جذريا لليبرالية. إلى ذلك معظم الليبراليين العرب من الطبقة الوسطى، في ثقافتهم وأذواقهم وأنماط حياتهم، وكذلك في مستويات معيشتهم ودخلهم. وقد طوروا بفعل تضافر الموقع هذا مع الحصيلة التعيسة للثورات والحروب العربية بعد الحرب العالمية الثانية مواقف وحساسيات مفرطة في فرديتها، وخوفها من الجموع، واجتنابها للعنف ورعبها منه، وخشيتها من الانقلابات المفاجئة. هل من المبرر دمج القوميين والإسلاميين في مقاربة واحدة؟ تستحق هذه النقطة تناولا خاصا. نكتفي هنا بالقول إن من أهم التطورات السياسية الإيديولوجية في العالم العربي منذ مطلع العقد الأخير من القرن العشرين هو المزيد من امّحاء شخصية القوميين الفكرية والتحاقهم بالإسلاميين"وبموازاة ذلك تحول قاعدة الإسلاميين الاجتماعية نحو الأدنى، لتقارب قاعدة القوميين أيام عزهم. الفارق الأهم أن البورجوازية الصغيرة كانت طبقة صاعدة سياسيا في الستينات، فيما هي طبقة تتدهور اليوم، وتطور نخب الأنظمة التي صعدت على أكتافها خصائص إقطاعية جديدة وتشكل نظما امتيازية مغلقة أشبه بالطوائف هذا محرك رئيسي للطائفية.... الخاصية المميزة للمقاربة القومية الإسلامية هي انتظامها حول محور الهوية: هم ونحن. ونحن بالطبع مع حزب الله ضد العدو الإسرائيلي. كل حرب ضد إسرائيل صحيحة وضرورية ومناسبة. هذا يقصي أية تساؤلات حول توقيت المواجهة، أو إيديولوجية الطرف المحارب، أو خسائرنا في الحرب، أو ما يتصل بسيادة الدولة واحتكارها لعنف المشروع...، ثانوية أو ربما مشبوهة. وتقلل هذه المقاربة، بصورة ثابتة، من الفروق داخل مجتمع إسرائيل، ولا تبالي بالتمييز بين الإسرائيليين واليهود، وبين إسرائيل والولايات المتحدة، وبينهما معا والغرب، وبين وجوه للغرب متعددة. وتطور موقفا بارانوئيا من العالم هو من مقتضيات كل سياسة هوية. كما تشكك المقاربة هذه ب"الشرعية الدولية"و"المجتمع الدولي". والواقع الدولي منذ نهاية الحرب الباردة، وبعد 11 أيلول بالخصوص، يعطيها كثيرا من الحق في تشككها. لكن موقفها هذا سابق للتحليل، موقف"قبْلي"وثيق الصلة بهوية التيار هذا وتكوينه، وليس موقفا"بعْديا"متصلا بوصف ودراسة الواقع الدولي والمنظمات الدولية. الطابع القبْلي لموقف القوميين الجدد هؤلاء عمقهم التاريخي إسلامي، بالخصوص بعد فقدان العمق الاستراتيجي السوفياتي يحكم عليه بأن يبقى عاجزا عن تطوير مقاربة شاملة للنظام الدولي واستراتيجية عمل مبادرة وممكنة فيه. لكن من شأن إنكار العالم ورفض الانخراط الفعال فيه أن يمنع إدراج الاعتراض على لاعدالته ومحاباته وطائفيته ضمن رؤية لعالم أكثر عدالة وحرية ومساواة. تسود بدلا من ذلك مواقف الانزواء ولوم الغير واجترار الشعور بالظلم، كل ما يميز ثقافة الضحية. وبينما اهتم الليبراليون بقضية السيادة اللبنانية، مع انحياز أقوى للبعد الداخلي منها، مؤسس على مفهوم تعاقدي للدولة، فقد انصرف اهتمام القوميين والإسلاميين إلى سيادة الأمة معرفة كهوية لا كعقد، أي دون اعتراف بسيادة الأفراد على حياتهم. والواقع أن نقطة قوة كل من الطرفين هي نقطة ضعف الطرف الآخر. فالسؤال الذي لا يجيب عنه الليبراليون هو: كيف يمكن تحقيق العدالة للفلسطينيين والعرب؟ كيف يمكن الحد من العدوانية الأميركية الإسرائيلية؟ ما السبيل إلى مساواة حقيقية في الأمن والحرية والكرامة الإنسانية في منطقتنا؟ ما العمل في مواجهة الامبريالية الجديدة، المتطرفة سياسيا والعنصرية ثقافيا؟ لدى القوميين والإسلاميين جواب واضح: القوة والمقاومة والجهاد، بالممانعة في أضعف الإيمان. لكنهم، بالمقابل، لا يملكون إجابات مقنعة عن أسئلة من نوع: لماذا يصغي العالم لحجج أعدائنا رغم بطلانها الظاهر، ويبدي صمما حيال مطالبنا العادلة؟ كيف يمكن صوغ احتجاجنا ومطالبنا بلغة إنسانية عامة ومستقبلية، لا بلغة طائفية وماضوية؟ ما هي ملامح المجتمع الذي نصبو إليه، إن انتصرنا؟ هل يكفل حريات الأفراد والجماعات، بما فيها حرية الاعتقاد والاحتجاج؟ معلوم أن كثيرين منا يخشون أن يفضي انتصار القوميين والإسلاميين إلى نموذج من المجتمع يتعذر العيش فيه: تنويعات الطالبانية والبعثية. بالمجمل، كعب أخيل الليبرالية العربية هو القضايا الأمنية والجيوسياسية والجيواستراتيجية. ويتمثل أصل النقص هذا في أن الليبرالية العربية الثانية الأولى ظهرت في العصر الاستعماري، وزامن موتها ولادة إسرائيل تكونت في سياق سحب الثقة من الشيوعية اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، ونقد الدول الاستبدادية القوموية ذات الخطاب التعبوي الحربوي في المجال العربي. هذا المنشأ حكم بأن تقع القضايا الأمنية والقومية والاجتماعية على"النقطة العمياء"في العين الليبرالية، أي أن لا تُرى ولا تتصور إلا بصيغ مفهومية مجردة جدا. الليبرالية الإسرائيلية والغربية أصولهما مختلفة، بل لقد رضعتا من حليب الحروب والفتوح الاستعمارية والامبريالية، لذلك لا تعانيان من عقد نقص جيوسياسية. قصور المقاربة القومية الإسلامية، بالمقابل، يتمثل في قضايا الحريات وحقوق الإنسان والحداثة والعلمانية. ونجد أصل القصور هذا ايضا في ملابسات تكوّن الفكرة القومية العربية الحديثة: في مواجهة الاستعمار الغربي الحداثي والليبرالي ثم إسرائيل الصهيونية والتوسعية. وتعزز القاعدة الاجتماعية للقومية الجديدة، المكوّنة من طبقات وشرائح مهمشة وناقمة وليس لديها ما تخسره، اللامبالاة بتنظيمات الليبرالية الحديثة والميل إلى سياسات هوية متشددة. يقترح هذا الشرط تطوير مقاربة أعلى تجمع بين الليبرالية على المستويين الاجتماعي والثقافي وبين مقاومة الأوضاع الشاذة المتطرفة التي تعيشها البلاد العربية تحت وطأة العدوانية الإسرائيلية والتطرف الأميركي. فمن شأن مقاربة توحد الليبرالية والمقاومة أن تساعد على شفائنا من البارانويا، مرض القوميين والإسلاميين الأصيل، كما من الفصام، مرض الليبراليين والحداثيين العرب الوراثي. إن الليبرالية العربية التي لم تخلّف تراثا يذكر في مجال حكم الدول تعرض في جيلها الثاني مفهوما للسياسة يقرب أن يكون جماليا: لعب لا حرب، وحوار في صالون لا صراع مميت ومدمر. فإذا كان تديين السياسة قد يفضي إلى الإرهاب، فإن تجميلها يقود في طريق مستقيم إلى سياسات عدمية وطنية. استقلال السياسة، وهو شرط عقلنتها، يقتضي فصلها عن الجمالية الليبرالية، فضلا عن الأخلاقية الدينية أو القومية. يبقى أن كاتب هذه السطور من هذا الاتجاه أو ذاك، وبصورة ما منهما معا. وهو كذلك مصاب بالفصام أو بالبارانويا، أو بهما معا.